-
د. الصادق الفقيه
يتوقع خبراء الابتكار التقني عقداً من التطور الرقمي يهدف إلى تعزيز التواصل الافتراضي، في واقع تتطلع فيه الأغلبية من الناس إلى حدوث إصلاحات ضرورية في ترتيبات هذا الواقع، تؤدي إلى تصحيح المشكلات المتأتية من التباعد الاجتماعي، الذي فرضته جائحة كورونا، الذي ربما يستمر طِوال العقد المقبل.
فقد جعلت تقنيات الاتصال الحديثة مسألة التباعد، وإنجاز الأعمال عن بعد، العلاقات الاجتماعية كحالة افتراضية غيرت تصورنا لأنفسنا، ولرؤية الأشياء من حولنا.
وتطالبنا الآن بتعريف جديد لمفهوم (الواقع الافتراضي)، الذي سبق وأن اُصْطُلِحَ على تسميته بـ(الواقع الاصطناعي)، و(الواقع المعزز)، و(التواجد عن بعد)، الذي يصف بدقة أوضاعنا الحاضرة.
ومع ذلك، يبدو أن مصطلح (الواقع الافتراضي) قد ربح الرِهان، لأنه مصطلح يربطنا، بلغة مشتركة، بالإثارة المتمثلة في خلق وتجربة حقائق مختلفة عَمَّا ألفْنَاه من قبل. خصوصاً وأننا نلاحظ، عند النظر في الاتجاهات، التي تبدو طبيعية أثناء الحجر الصحي، أن استخدامات التقنيات الجديدة أصبحت متوفرة لغالب الناس، الذين كان (الواقع الافتراضي) بالنسبة لهم بمثابة مجرد موجة من الأخبار العامة عن المخترعات الجديدة، التي لا تعنيهم حقيقتها من قريب، أو بعيد. إلا أن الجائحة جعلتهم لا يتمكنون من السماع بها فحسب، ولكن أيضاً رؤيتها وتجربتها في هذا الشكل الملموس لأول مرة.
إن (الواقع الافتراضي) لم يعد مجرد مجموعة من الأجهزة، بل هو وسيلة للتعبير والتواصل والعمل عن بُعد، بل هو وسيلة لمشاركة عالم يتم إنشاؤه بواسطة الكمبيوتر بشكل واقعي، وليس خيالي كما كنا نعتقد.
إن الشاشات المحمولة، و(فلاشات) البيانات، والأجهزة الأخرى، ليست سوى أدوات لمساعدتنا جميعاً على تطبيقات وتجربة هذا العالم الموازي الجديد.
فقد اكتسبت التطبيقات المتصلة بشبكة الإنترنت قدراً كبيراً من الجاذبية بعد الاستعانة بها في مختلف مجالات الحياة، خلال فترة التباعد، الذي فرضته جائحة كورونا على العالم. ففي السابق، كان أولئك، الذين يعملون في هذه التقنيات فقط هم من يمكنهم معرفة الفروق الدقيقة بين تطبيقاتها، بينما أولئك، الذين هم الطرف المتلقي، فقليلاً ما يلاحظون العجائب، التي تجلبها تكنولوجيا الاتصالات لحياتهم. والآن، يمكنهم إدراك أن (الواقع الافتراضي) كسر الصور النمطية لتجربة العمل عن بُعد، إذ أصبحت ممارسة هذا العمل واحدة من أكثر الأشياء إثارة وجاذبية على الإطلاق.
ففي الوقت الحالي، هناك قدر كبير من الحديث المحيط بـ(الواقع الافتراضي)، وربما هناك قدر من المبالغة في وصف حالة التقدم الحالية للتكنولوجيا، وكأنها نهاية الأرب. إذ تُشير التغطية الإعلامية في العديد من المجلات، والمقالات الصحفية، والبرامج التلفزيونية، وحتى في الإعلانات، إلى أن (الواقع الافتراضي) تم تطويره بالكامل الآن، ولكن، لسوء الحظ، هذا ليس صحيحاً.
فهناك نقاش مستمر، في الأوساط العلمية، حول ما هو هذا (الواقع الافتراضي)، الذي نُكْثِر الحديث عنه، وما ليس هو بالضبط.
ففي حين يتفق معظم المراقبين على أن إحدى الخصائص الضرورية، التي ظهرت في تجربتنا للعمل عن بعد، في الأشهر القليلة الماضية، هي أنه يمكننا التنقل في عالم افتراضي بدرجة ما من الانغماس والتفاعل، وسرعة قريبة من الوقت الفعلي، إلا أننا ما زلنا بعيدين عن كمال ننشده. وإذا كان لـ(الواقع الافتراضي) أن يحقق نجاحاً كبيراً في المستقبل، فسيتعين على الأشخاص أيضاً البدء في التركيز على المحتوى. بعد كل شيء، وضعت التكنولوجيا جوهرها في المواد، التي تتجلى من خلالها.
إن تصورات (الواقع الافتراضي) الحالية غالباً ما تكون منخفضة عند الكثير من الناس، وقد تكون الصورة، التي نراها أمامنا قاصرة، ولا تستجيب التكنولوجيا بسرعة لمطالبنا المُلِحَّة في ظِل محدودية تحركاتنا.
إذ تسمح أنظمة قليلة بردود فعل ملموسة، وتفي بغرض المهيئين للتعامل الأمثل معها، فيما يشكك بعض الناس في سلامة التطبيقات، التي تجعلهم أعضاء متساوين مع غيرهم في أنشطة (الواقع الافتراضي)، وبخاصة في مجال العمل، الذي يعتمدون فيه على قدراتهم الجسدية، وليس خبراتهم العقلية. ومع ذلك، فإن الجميع مقتنعون أن مستقبل (الواقع الافتراضي) مهم وحقيقي، ويجب ألا يتخلوا عن تكنولوجيا مهمة لأنها لا تتناسب مع توقعاتهم بعد. فقد تبدو هذه التكنولوجيا الموجودة الآن في مراحلها المبكرة وبدائية للغاية، مقارنة بتطلعاتنا للمستقبل، الذي نريده، لكن علينا أن نتذكر أننا قد بدأنا للتو في رؤية إمكانات (الواقع الافتراضي)، بعد أن قيدتنا جائحة كورونا، وحجبتنا عن حرية الحركة في واقعنا الحقيقي.
لقد طمأنتنا الكثير من الأبحاث والدراسات أن المتوقع في المستقبل القريب ظهور حواسيب أسرع، وبرامج أفضل، وأجهزة جديدة لإعلام حواسنا بسرعة أكبر بالمشهد العام، مما يحسن (الواقع الافتراضي) ويزيد من فائدة عطاءاته. والوعد بأن سيظهر المحتوى الأفضل، والتطبيقات الجديدة، بسرعة في السنوات المقبلة. ويذهب الخيال العلمي إلى أنه سوف يأتي إلينا كل شيء عبر الإنترنت، مما يقلل من الحاجة إلى الحركة والانتقال، ومكاتب ومبان إدارية، ومعدات عمل قائمة بذاتها معقدة ومكلفة. ففي دراسة مشتركة، أجراها مركز بيو للأبحاث وجامعة إيلون، في الولايات المتحدة الأمريكية، حول (تَخَيُّل الإنترنت – Imagining the Internet)، وأُصْدِرَت نتائجها في 30 يونيو 2020، أدلى 697 من خبراء التكنولوجيا، بآرائهم حول التغييرات والإصلاحات، التي تحركها التكنولوجيا الرقمية، التي قد تحدث في العقد القادم 2030. وتبادل مبتكرو ومطورو التكنولوجيا، وقادة السياسات والأعمال، وكبار الباحثين والناشطين وجهات نظرهم حول ما يمكن القيام به للمساعدة في التخفيف من التحديات المتزايدة للحياة الاجتماعية والمدنية والعملية.
ويعتمد هذا البحث، الذي هو جزء من سلسلة طويلة حول مستقبل الإنترنت، على مجموعة من الخبراء المختارين، وتسرد تفاصيله عشرة مجالات تتطلب الإصلاح.
إذ يتوقع هؤلاء الخبراء رؤية الابتكارات الأكثر شيوعاً أن تُعْنَى بها كأولويات، لأنها مجالات متقاطعة. وهي تشمل: وسائل التواصل الاجتماعي، وقضايا الخصوصية، والمعلومات الخاطئة، والإصلاح السياسي والحكومي، وتطبيقات الخدمات الاجتماعية، والحياة الصحية، والذكاء الاصطناعي، وإصلاح التعليم، والعمل والوظائف، والقضايا البيئية. وهذه القوائم أخذتها الدراسة كعبارة عن كتالوج عام وليس حصراً لكل القطاعات، التي تتوقع هذه الدراسة الاستقصائية العمل فيها. ويتوقع الخبراء المزيد من الابتكار الرقمي بحلول عام 2030 بهدف تصحيح المشاكل في المؤسسات والتمثيل الديمقراطي في العقد المقبل، مما سيؤدي إلى نتائج إيجابية للصالح العام.
لقد أصبح العالم، الذي نعيش فيه أكثر استهلاكاً للتكنولوجيا، وليس هناك ما يشير إلى أن الاتجاه على وشك التباطؤ. ولكن، بينما يميل الخبراء إلى الاتفاق على كيفية تغير الفضاء السيبراني في المستقبل، ليصبح أقل وضوحاً، إلا أنه سيكون في الحقيقة أكثر تأصلاً في حياتنا اليومية، رغم أن هناك خلافاً حول كيفية تغييرنا نحن لنتوافق مع قضاء أعمالنا من خلاله. ففي ذروة موجة المد والجزر التقنية القادمة، فإن إنترنت الأشياء، الذي سيجلب الأشياء والأعمال والمنتجات عبر الإنترنت، مما يفسح المجال لعالم ذكي وآلي، يعرف المزيد عنا، ويضاعف قدرتنا على التواصل في (الواقع الافتراضي)، الذي سيقودنا لمجتمع يصبح فيه محيطنا هو الإنترنت، التي ننفذ من خلال سماعة الرأس، التي نرتديها إلى (الواقع الافتراضي)، والذي يمكن إزالة الحدود والمسافات فيه بنقرة فأرة، أو لمسة إصبع، وتصبح فرصنا في تكوين روابط مع الغرباء أكبر بكثير مما هو عليه الحال الآن.
وختاماً، نعتقد أنه من السهل جداً أن نتخيل أنه في المستقبل سيكون لدينا شيء أكثر تطوراً، يمكننا الاعتماد عليه لتغيير أسلوب عملنا، وكيفية إنجازه عن بُعد. وسيكون لدينا سياق مختلف للتعامل مع من حولنا في العالم، والقدرة على التواصل مع الناس دون الاضطرار إلى تعطيل أعمالنا. ومع ذلك، يعتقد مؤلفو دراسة (تَخَيُّل الإنترنت) أن الوقت قد حان لتطوير أنفسنا ذاتها للمواكبة، فالأمر متروك لنا لتشكيل عالم الغد عبر الإنترنت، وبعد عشر سنوات من الآن. فقد خلصوا إلى أن البصيرة والتنبؤات الدقيقة يمكن أن تُحْدِثُ فرقاً، وأن أفضل طريقة للتنبؤ بالمستقبل هي اختراعه، عبر أبنية تقانة الواقع الافتراضي.
* عن المجلة العربية