كائنات يوم الاثنين

*حاتم السروي.

الضحى من أجمل الأوقات ولا شك؛ هواءٌ رطبٌ حنون لم يكدره حر الظهيرة، وعصافير تلعب فوق أفرع الشجر وتغرد بصوتٍ بديع، وحركة الأقدام خفيفة الوقع حيث لم يأتِ الزحام بعد، ورغم كل هذا كان ضَجِرًا وغير مرتاح. ورغم أنه عادةً لا يكون مرتاحًا ولا مريحاً، لكنه في ذلك اليوم بدا في أسوأ حالاته؛ إذ خرج من بيته ليستقل المترو المتجه صوب محطة (السيدة) حيث إدارته العامة الكائنة في ديوان الهيئة الثقافية التي يعمل بها منذ سنتين، كان موجهاً للتربية المسرحية بوزارة التربية والتعليم قبل أن يقدم أوراقه في مسابقة لاختيار مديري عموم الثقافة؛ وباعتباره شاعراً أخرج ديوانًا يتيمًا منذ ثلاثين عامًا فقد دخل في المسابقة، وقد فاز بالطبع لأن ديوانه من عيون التراث، وكلنا نحب التراث ونقدره، انظر مثلاً إلى ما كانت تخطه يداك أثناء المراهقة، خواطرٌ ساذجة أليست كذلك؟ ولكنها من عيون تراثك؛ ويكفي أنها تصيبك بلذة الخجل، وعندما تقرأها أثناء فراغك تصيبك أيضًا بلذة العبث، ويبدو أن لذة العبث تلك هي التي حملت بعض المسئولين على تعيين هذا الرجل مع أن إبداعه لا يزيد كيفًا ولا كمّاً عن خواطر المراهقين، وهم يعرفون هذا كما يعرفون أبنائهم. ما علينا، الحاصل أن تعيينه الآن مشكلة ليس لها حل ؛ إذن هي أمرٌ واقع، لقد أصبح مديرًا وأصبح لزامًا على الموظفين أن يتحملوه وإلا فإن الخصم في انتظارهم. كان الشاعر يمتلك وجهًا لافتًا، فإذا كنت من هواة قراءة الملامح والنفاذ إلى دواخل أصحابها فسوف تجد عينين ضيقتين ثم تراه يعمد إلى تضييقهما أكثر فأكثر، أما حاجبيه فكثيفين وقد نزلا على عينيه وأما جبهته فضيقة وأما لونه فأبيض والشعر ناعمٌ يميل إلى اللون الذهبي وقد أصاب الشيب بعض جوانبه فسنوات عمره تخطت الخمسين، وكانت أنفه طويلة وحادة ، وذقنه مسحوبة، وقامته قصيرة تميل إلى التقزم. وكان يتعمد أن يحاسب مرؤوسيه حساب الملكين إذا بدا لأحدهم أن يتأخر عن موعد الحضور الصباحي ويطلب إذنًا بالتأخير، هذا مع أن لوائح العمل تسمح بثلاثة أذون في كل شهر لأي موظف، لكنه مع ذلك كان لا يأتي إلى العمل إلا بعد الساعة الواحدة ظهرًا، وسوف تسألني كيف يعرف بمن تأخر عن موعد الحضور إذا كان الموظف العادي يتعين عليه أن يوقع يوميًا في تمام الساعة الثامنة، وسوف أجيبك أن الآنسة ليلى تخبره فور وصوله إلى الإدارة بكل ما دار قبل مجيئه الميمون حتى أنها تخبره بعدد المرات التي يدخل فيها الأستاذ مرسي إلى الحمام وهو المريض بالسكر، وتخبره كذلك بأطباق الفول والباذنجان التي يلتهمها الدكتور حسين مع زميليه سعيد وسعدية كل صباح. كان الموظفون في الإدارة يهابون الشاعر المدير وكانوا يتسائلون فيما بينهم كيف يمكن أن يكون الشاعر بهذا الطبع الغاضب والنبرة الزاعقة، كانوا موظفين بالثقافة لكنهم لم يختلطوا بالشعراء ولم يعرفوا أن الصورة القديمة للشاعر الحساس الرقيق قد بهتت وتلاشت وأن هناك وفرة في الشعراء الذين لا يملكون بالضرورة سمات الشاعر وليست لديهم نزعته المثالية ولا حكمته النافذة ذلك أنهم شعراء لكنهم ليسو شعراء. ورغم أن الشاعر المدير ينتمي إلى التيار التقدمي لكنه يخبئ في نفسه ميلاً إلى الشؤم والتطير وكان يكره يوم الاثنين جدًا وكان يخرج فيه إلى عمله مرغمًا وفي كثيرٍ من الأحيان نراه يرقد في منزله مستغلاً تلك الامتيازات التي منحتها له الوزارة بوصفه مديراً عامًا. في ذلك اليوم صحا من نومه منحرف المزاج يشعر بانقباضٍ في قلبه وتحدثه نفسه أن مصيبةً في انتظاره، قرر ألا يذهب إلى العمل وبالأخص عندما تواتر على مسمعيه صوت الغربان على الشجرة القريبة من منزله. يوم الاثنين وصوت الغربان يجبران قدميه على الثبات ويوقعان الخوف بفؤاده ويجعلانه يتمسك بالمنزل رغم حبه الفطري للخروج. قرر أن يبقى في البيت وما لبثت زوجته أن افتعلت معه معركة منزلية وكان السبب غايةً في التفاهة؛ فقد نسي أن يشد وراءه السيفون وترك أشياءه تثير القرف وتسد الأنوف. ظل يتشاجر مع زوجته متخذًا موقف الدفاع طيلة ساعةٍ كاملة ثم لم يجد بدًا من الذهاب إلى العمل هربًا من جحيم المعارك الزوجية. ركب الشاعر عربة المترو بعد أن قطع التذكرة ولا ندري حتى الآن ما الذي يمنعه من شراء سيارة رغم أن أوضاعه المالية تسمح له بشراء سيارة صغيرة إذا أراد ذلك، كان يفضل ركوب المترو وكان يتحمل الوقوف وأنفاس الركاب والزحام الشديد الذي يعجن الضلوع وكان يدخل إدارته في بعض الأحيان وقد تكرمش قميصه من أثر الزحمة والتدافع. وما إن وقف بعربة المترو حتى وجد رجلاً غريب الهيئة يقف إلى جواره، كان الرجل يلبس قميصًا باهت اللون وتطوق رقبته سلسلة من الفضة وشاربه يهبط على شفته العليا فتنمحي، أما عينيه فكانتا جاحظتين وفيهما حمرةٌ مخيفة. ارتعب الشاعر المدير وجعل يتلو قل هو الله أحد ويرجو السماء أن تعيذه من بلاء الاثنين ومخلوقات الاثنين لا سيما ذلك الشيطان الذي يقف إلى جواره، ويبدو أن البرشام قد سيطر على دماغ الرجل فجعله يتمتم بكلماتٍ غير ذات معنى وبدا أنه يكلم نفسه. وقطع المترو أربع محطات وفي الخامسة اصطدمت أذنيه بصوتٍ بشع بدا كأنه يخرج من الأمعاء الغليظة. وقف شعره واتسعت عيناه الضيقتين، ثم رفع جاجبيه ونظر عن يساره فإذا الكائن الغريب المقيم بجواره طول الرحلة يسأله وقد أثقلت المخدرات لسانه وشفتيه: معاك سيجارة. أجابه بصوتٍ مهزوز بدت عليه آثار الخوف: مابدخنش. مابتدخنش إيه يا ……..، انت مش كنت امبارح واقف ع الناصية وفـ إيدك سيجاره وانت بتعاكس اللي رايحه واللي جايه. ارتفعت حرارته واحتبس الكلام في حلقه ولم يدر كيف يصنع وقد أخذت الدهشة بمجامعه فشلته عن التفكير، وجعل يحملق في وجوه الركاب ويقول بعد جهد : أنا؟ مش ممكن طبعاً. شعر بكرامته وقد هبطت إلى الدرك الأسفل وعزَّت عليه نفسه وهو المدير الذي ترتعد له فرائص الموظفين، وتمالك نفسه وحاول أن يوقف هذا المسطول عند حده فصاح بصوتٍ حاول أن يخرجه قوياً: انت عايز ايه يا جدع انت؟ أنا أول مره أشوفك. -أول مره تشوفني با ابن المتـ………؟ دا انا كنت بزغطك امبارح، خساره فيك قزازة البيره اللي قعدت تقربعها يا…… احمر وجهه ثم اسود وهو الأبيض واستولت على عينيه نظرة إشفاق على موقفه المخزي أمام الركاب. – بقولك هات سيجاره يا نطع أشاح بيده وهو يصيح فيه بين الغضب والرجاء: -ما تبعد عني بقى الله يحرقك. -مش عايز تديني سيجارة يا ابن الـ…….. -ما تغور بقى ينعل أبو أمك نظر إليه المسطول وقد أحال الغضب هيئته ومسخها فأصبح كعفريتٍ من الجن وصاح بصوتٍ جهوريٍ مرعب: أم مين يااااض؟ دا انا بقى اللي هروق أمك دلوقتي. وهجم عليه فأصاب أنفه الحاد في مقتل ثم توالت اللكمات على وجنتيه وعينه وجبهته، وضربه في بطنه أيضًا. والركاب على كثرتهم كانوا عاجزين عن إيقاف هذا البركان البشري وكانوا يخافون الاقتراب منه حتى لا تصيبهم حممه ونيرانه، وبعد جهدٍ جهيد تمكن بعضهم من تخليص الشاعر وقد انكسرت من فكه سنتين وانفتح باب المحطة فهرع أفراد الأمن بعد أن جرى سائق المترو نحوهم وكان ضجيج المعمعة قد علا جداً وتناثر حتى وصل إلى سمعه فشعر بخطرٍ شديد. وقبض أفراد الأمن على المسطول ونظر إليه الشاعر دونما قصد فاكتشف أنه أحد جيرانه في المنطقة التي يسكن فيها لكن هيئته قد تغيرت وطمس الإدمان معالمها فغدا كأنه شبح، وكان هذا الجار يلمح الشاعر المحترم وهو يفترس الفتيات في الشارع بعينيه وقد باحتا برغباته الشبقية المكبوتة فيضحك حتى ينتابه التعب. وأنزل الركاب المدير الذي تضعضعت هيبته وأصبح يرثى له فأجلسوه على كرسي في محطة المترو وأحضر له العمال بعض الإسعافات الأولية وكانت الساعة قد وصلت إلى الثالثة بعد الظهر فكأن الوقت يقفز من سرعته. وجعل الشاعر ينظر حواليه في المحطة فإذا بأحد مرؤوسيه يقترب منه دون أن يراه بعد أن قطع تذكرة المترو واستغرب الشاعر وسأل أحد العمال هو احنا فين؟ -في السيدة يا أستاذ يال ترتيبات القدر، يتم ضربه على يد أحد المدمنين وتنكسر أسنانه وتنمحي كرامته ثم يخرجه الركاب ويجلسونه في المحطة التي ينزل فيها كل يوم حتى يراه أحد مرؤوسيه ويضيع احترامه إلى الأبد. نظر إليه مرؤوسه وهو لا يكاد يخفي رضاه واستخفافه ثم قال متصنعًا: سلامتك يا أستاذ ألف سلامة؟ إيه اللي حصل. -هو حد دعا عليا امبارح. -ليه بتقول كده؟ -لاء قل لي بجد، مين اللي دعا عليا امبارح؟ أنا كأني سمعت واحدة عندنا بتدعي عليا. -بصراحة يا أستاذ مدام سعدية دعت عليك بعد ما هزأتها وخصمتلها تلات أيام. وبعد أيام تعافى الشاعر من ألامه ورآه الموظفون وهو يدخل الإدارة وقد زال جبروته، واستغربوا وهو يناديهم بلطف ثم يطلب منهم مهام العمل في بساطةٍ واحترام، ثم فوجئوا بمكافأة يهديها إليهم مع شهادات تقدير وتنويهات خاصة بحسن تعاونهم على صفحته بالفيس بوك.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *