الجرح الفلسطيني في رواية «سبع شداد» لنردين أبو نبعة

( ثقافات )

  • موسى إبراهيم أبو رياش

رواية «سبع شداد» للروائية الأردنية نردين أبو نبعة، تعرض جانبًا من تاريخ ومأساة مخيم «اليرموك» للفلسطينيين في دمشق، الذي تجنب الكارثة السورية في البداية، وكان ملاذًا للسوريين الهاربين من لظى الحريق، ولكن ما لبث أن امتدت إليه النار والدمار بعد أن وقع ضحية لصراع الفرقاء وتضارب ولاءاتهم.

تركز الرواية على مخيم اليرموك باعتباره فلسطين المصغرة، فلسطين التي تتعرض للدمار والتهجير في غير بلد عربي، فكل تهجير في أي بلد عربي، هو إعادة لتهجير الفلسطينيين، وتكرار للمأساة التي بدأت ولم تتوقف بعد. تقرأ بيسان من كتابات أمها الكاتبة خُزامى: «من فلسطين اشتعل الحريق وامتد لأوطاننا المكبلة بالاستبداد والديكتاتوريات والعتمة التي سكنت الأحداق.. أوطاننا لم يأكلها أعداؤنا فحسب، بل أكلت نفسها وابتلعت أحلامها لتغص بها وتختنق، وأنكرت الدم الذي يسير في عروق الأرض وعروقها.. من هناك.. من فلسطين تبتدئ الحكاية.. منها المبتدى وإليها المنتهى؛ فثوب العز يُغزل في القدس.. من فلسطين اكتشفنا الطعم المر للهزيمة واعتقدنا لسذاجتنا أنها الهزيمة الأولى والأخيرة.. لنكتشف أن الهزائم تتوالد والعواصم تتساقط وما ذلك إلا لصمتنا على هزيمتنا الأولى.. المشاهد والصور تعيد  نفسها.. مشاهد التهجير والترحيل القسري يُعاد مرة تلو الأخرى والصور تمتد كخيط من دم.. من يافا وعكا ودير ياسين إلى الغوطة وداريا ودرعا ومخيم اليرموك.. الاحتلال ينتصر علينا وبكفنا.. في حين ينعم هو باحتلال لا يكلفه شيئًا!!»(173).

وهذا ليس رأيًا فرديًا، بل هو رأي إبراهيم الشاعر، وهو يعبر عن رأي الشارع الفلسطيني والعربي «إذا أردتَ أن يزهر ياسمين الشام من جديد، ويعود لدجلة والفرات بهاؤهما النبيل فاعلم أن البداية من القدس… وأن تحمل القدس في قلبك، فهذا يعني أنك تحمل العواصم المعذَّبة.. وأن تحكي حكاية فلسطين، فهذا يعني أنك تحكي احتضار الغوطة وبغداد واليمن.. ففي كل حكاية عربية تحضر فلسطين، وعندما تحضر فلسطين تحضر كل حكايات الوجع العربي؛ فالشريان واحد والجلاد يحمل نفس الملامح.

كان يُدرك تمامًا أن الجرح ابتدأ فلسطينيًا، ثم امتد واتسع لبلادنا من المحيط إلى الخليج.. كان يقول: تبعثرنا بدأ من هناك.. عندما صرنا ورقة في مهب الريح! والمشروع الصهيوني يستهدف كل الوطن العربي ومشروعه النهضوي الحضاري! كل ذرة تراب في الأرض المقدسة تستحق شلال دم.. وكل ذرة تراب في بلادنا مقدسة»(61).

وطالما ردد رسام الكاريكاتير سعيد: «أن العالم سيدفع ثمن صمته على الجرح الفلسطيني جراحًا ستتوغل في جسده… وتحققت نبوءته»(84).

وبيسان، على الرغم من عمرها الفتي«عرفت بأن من ينشغل بإشعال النار في خيمة أخيه لن ينجو من النار التي أشعلها… ولن يستدل على طريق فلسطين إلا من تيقن أن المعركة الحقيقية هي معركة القدس وأن النار لا تُشعل إلا في خيم الأعداء»(158).

إذًا هي فلسطين ودرتها القدس، مقياس الكرامة والشرف العربي، وواسطة العقد، ولا عز ولا قيمة ولا مكانة للعرب ما دامت القدس في يد عدو مغتصب، كتبت خُزامى: «فلسطين هي الميزان.. إن اختل، سيفقد الزيتون خُضرته والنخيل قامته.. ستنحني الألف الثائرة.. ستُكشف السوءات… وتًسكب جرار الذل في الطرقات.. وتكون العتمة هي العنوان»(47). وكل معركة ليست لتحرير القدس، هي لصالح العدو «عندما تعتم فلتكن القدس قنديلك.. وعندما تتعدد المعارك ويضطرب اليقين، فلتكن القدس ميزانك ومعركتك»(47) .

سعيد الذي شيبته فلسطين شابًا عشيرينيًا «كان يتنفس فلسطين.. ينام على بساطها، ويصحو على نسيمها.. كتب فوق إحدى رسوماته ذات مرة: سلام على من يتنفسون القدس.. فتمنحهم بركتها.. سلام على من توضأ بدمه ليقيم في الأقصى الصلاة»(80).

الشعوب العربية مخلصة لفلسطين وقضيتها، ولكن الأنظمة تحرف الطريق، وتوجه الأنظار إلى غير قبلتها، يكتب إبراهيم: «الدكتاتوريات العربية هي يد إسرائيل الحقيقية»(60)، ويردد سعيد قول جده: «فلسطين للكف الساخنة التي ما هادنت ولا صافحت.. فلسطين لمن رفض السجود لعجل السامري، فلسطين لمن حفرها في الصدر ونقشها في الذاكرة»(85)، ويقول: «إنني أرسم لقضية.. أرسم لفلسطين، ومن يرسم لفلسطين يمكن أن يُقتل في أي لحظة»(73)، ليس شرطًا أن يقتل هو أو غيره على يد عدو واضح، بل على يد نظام عربي أو على يد فلسطيني ولغ في دم أخيه: «المخيم يمزق نفسه بسكاكينه والعدو الحقيقي يتفرج من بعيد ويصفق بعدما بقيت يده نظيفة!»(71).

ومن كتابات خُزامى، تقرأ بيسان «في وقت من الأوقات كنا نظن أن معركتنا مع الصهاينة فقط!.. وحدها السكين التي يحملها أخوك هي التي ترديك.. أما الطعنة التي يسددها لك العدو فلا تكسر ظهرًا ولا تحني هامة.. أما طعنة ذوي القربى فهي تجعلنا عراة يغشانا الخزي والعار.

أرى الأمهات المكلومات وأتساءل: كيف اتسعت صدورهن لهذا الوجع؟ أم أن من اتسع صدرها للوطن فلن يضيق أبدًا؟

زمان، كنت أتتبع أمهات الشهداء في فلسطين.. وأرِقُّ لحالهن.. أما الآن فأنا أغبطهن.. هن محظوظات فعدوهم واضح وصريح.. فالأم هناك تربي لفلسطين أبناءها.. تبذر اليقين وتتلو الأنفال وتسرج الخيل.. أما هنا فالأمر عجيب.. الاحتلال الإسرائيلي أبقى يده نظيفة أمام العالم.. فاخترع أعداء جددًا.. مدوا أيديهم السوداء في سوريا والعراق واليمن وليبيا والحبل على الجرار»(188).

كانت الكتابة والإبقاء على الذاكرة الفلسطينية متقدة ضرورة كفعل مقاومة، فالكلمة سلاح، تتذكر بيسان حكاية أمها خُزامى، تقول: «عندما دخل عمي السجن حرص أبي على إرسال رسالة شهرية له في سجنه عن طريق الصليب الأحمر.. كان أبي يكتب في الصفحة الأولى، وتكتب أمي في الصفحة الثانية ثم نكتب نحن الأولاد الخمسة كل منا سطرين أو أكثر.. وهكذا عشقت الكتابة وعشقت فلسطين والجهاد والمقاومة»(215)، وكانت خُزامى «تكتب لفلسطين، وكانت تتلمس في كل ليلة مفتاح العودة وترسم للقدس منارات وتمد صوب حيفا ويافا يدها والشوق ملامح عينيها!»(220)، وعلى دربها سارت بيسان،  ففي انتظار ركوب قارب الهجرة إلى المجهول، على السواحل الجنوبية التركية «تحمل بيسان علبة حديدية ملأى بالصور والبطاقات والرسائل الصفراء المهترئة.. صور بالأبيض والأسود من أيام فلسطين وما قبل النكبة.. صور ملونة حديثة.. صور لبيت جدها في حيفا.. صور للمخيم في بداية نشأته.. رسائل جدها لأخيه في سجنه ومقالات أمها.. طابو بيتهم في فلسطين ومفتاحه.. طابو بيتهم في مخيم اليرموك ومفتاحه.. شهادات ميلادهم.. عقد زواج أمهم وأبيهم»(244).

وتمشي بيسان على درب أجدادها، تتكرر المأساة، وتتجدد النكبة «ها هي تمشي ذات الطريق الذي مشى فيه أجدادها ذات نكبة.. قبل سبعين عامًا.. إنها تبتعد سبعين عامًا أخرى!! أيعقل أن تبتعد سبعين عامًا أخرى عن فلسطين؟؟ أم ستكون سبعة أعوام.. أم سبعة أشهر.. أم سبعة أيام.. إنها سبع شداد.. بعده يُغاث الناس فيه ويعصرون.. قد تكون سبعًا شدادًا يقربنها إلى فلسطين»(250).

وبعد؛؛؛ فإن «سبع شداد، دار المعرفة، القاهرة، 2019، 256 صفحة»، رواية فلسطينيين على الأرض السورية، رواية محنة مخيم اليرموك، وما تعرض له من تدمير وتقتيل وتشريد، بعد أن كان ملء السمع والبصر، ضاجًا بالحياة والأمل والفجر المنتظر، رواية، تعيد نكأ الجرح الفلسطيني، وتعيد القضية إلى الواجهة، كونها قضية مركزية تتشابك مع معظم القضايا العربية، والتأكيد على أن تحرير فلسطين كل فلسطين، هي البداية، هي الوضوء لصلاة لم تُقم بعد.

ومما يجدر ذكره أن نردين أبو نبعة كاتبة أردنية، عملت في مجال التعليم والتدريب والعمل الإذاعي، وهي عضو في في رابطة الكتّاب الأردنيين، ورابطة الأدب الإسلامي. أصدرت عددًا من القصص للأطفال، ومجموعات قصصية منها: «الجرس»، «بوح». وعددًا من الروايات منها: «قد شغفها حبًا»، «رب إني وضعتها أنثى»، «باب العمود».

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *