الأحلام المستحيلة في رواية “حياة معلَّقة” لعاطف أبو سيف


*موسى إبراهيم أبو رياش


خاص ( ثقافات )
“حياة معلَّقة”، عنوان ملهم يختصر الرواية، بل يختصر القضية في كلمتين اثنتين. وبقدر ما هو عنوان مقنن ومبدع، فهو مؤلم موجع، يُدمي القلب، ويكلم الروح، ويفتح دهاليز الآلام على مصراعيها!
عندما تكون الحياة معلَّقة، فهذا يعني أن لا حياة ابتداءً، فالحياة متوقفة بالانتظار على أمل أن يتحقق حلم أو أمنية. وما أصعب الحياة وما أمرَّها وأقساها عندما تتحول الحقوق الأساسية إلى أحلام تبدو بعيدة المنال، إن لم تكن مستحيلة في المدى المنظور.


عندما خرجوا من مدنهم وقراهم إثرَ نكبة 1948م، كانوا على ثقة أنها بضعة أيام ويعودون، فلم يحملوا معهم إلا متاع المسافر العَجِل. ولكن طالت غيبتهم، وغرقت مراكبهم، وانقطعت السبل بهم، وتحولت العودة إلى حلم. وتناسلت الأحلام، فحلم فك الحصار عن غزة، وحلم فتح المعابر، وحلم المصالحة الوطنية وإنهاء الانقسام، وحلم تحرير الأسرى، وحلم الكهرباء التي لا تنقطع، وحلم الوقود الذي لا ينضب، وحلم … تحولت الحياة إلى سلسلة من الأحلام، وأبسطها حلم “نعيم” أن يجتمع وأولاده على “طبلية” إفطار الصباح، وهو حلم على الرغم من بساطته، إلا أنه أشبه بالمستحيل. فأي حياة يعيشها الغزيون؟ إنها حياة لا تشبه الحياة، حياة الموت المؤجل، حياة برسم الموت في أي لحظة.


أي حياة، وسلسلة الشهداء التي لا تنقطع، وقوافل الجرحى والمصابين، والبيوت التي تُهدَّم على رؤوس ساكنيها بفعل صاروخ غادر أو قذيفة فاجرة، يطلقها عدو لا تأخذه بالغزيين إلاً ولا ذمة، حياة هي مجرد فسحة بين موتين أو جنازتين كما يقول أبو سيف.
عندما تتطلب رواية “حياة معلَّقة” ثمان سنوات لتكتمل، هذا لا يعني أن “أبو سيف” عاجز أن ينهيها في سنة أو أقل من ذلك. ولكن حجم الوجع كبير، وعاصفة الأحداث لا تهدأ، وسيل الحكايات لا يتوقف، والأخدود يتسع ويتعمق، والسجن يضيق ويزدحم، والظلمة تزداد وتشتد، والقادم مجهول معجون بالخوف والاحباط. وفي أوضاع كهذه يصعب على الروائي الساحر أن يمسك بتلابيب الحكاية، ويلملم شتاتها، ويؤلف أشتاتها. ولكن عاطف أبو سيف كان أبرع من ساحر، نجح في مهمته، وتغلب على الظروف القاهرة، فكتب رواية مؤثرة غنية تصور جزءاً من الحياة المعلقة في غزة، وأظنه تجاوز كثيراً من التفاصيل الموجعة والمفجعة، ليقدم للعالم وثيقة أو شهادة عن غزة وأهلها وظروفها المؤلمة، وأوضاعها القاسية، ومستقبلها القاتم، في ظل التحولات المتسارعة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً. 


رواية “حياة معلَّقة” لا ترصد أو توثق، بل هي أشبه بمختصر مفيد عن غزة الحاضر، فغزة لا يمكن أن تُكتب، أو تُحصر بين دفتي كتاب، فهي بذاتها كتاب مفتوح مسطر بكل ما يُخطر ولا يخطر على البال من آلام وأوجاع وأحزان ودموع وأسرى وجرحى وشهداء ومفقودين وممنوعين ومعتقلين، حياة لا علاقة لها بالحياة.
غزة فرن الأحداث، مصنع الأحداث، مصدر الأخبار التي تغطي شاشات الفضائيات المتلقفة لكل خبر، وصفحات الصحف والمواقع المتلهفة لكل حدث، تبث وتذيع وتنشر ولا تحسب حساباً لآلام مادة الحدث والخبر، وأوجاعهم ودمائهم التي تسيل، وشهدائهم الذين يدفنون في كل يوم. لا يشغلها إلا السبق الإعلامي، وقدرتها على الوصول إلى مكان الحدث، ينقلون صورة النار، لكنهم لا يشعرون بأوجاع من يتقلى فيها، ويُشوى في أتونها المستعر.
أخبار غزة تتصدر النشرات الإخبارية والصحف والمواقع وأشرطة الأخبار العاجلة، ولكنها مجرد أخبار تلقى التعاطف اللحظي، والتأثر المؤقت، وسرعان ما يزول ويُنسى تحت زبد سيل الأخبار الهادر، والأغاني الرومانسية، والمباريات الرياضية، والمسلسلات السطحية، والأفلام الرخيصة. وتبقى آلام غزة لغزة وأهلها، حقاً حصرياً لا يشاركها فيه أحد، بمباركة العالم أجمع غربه وشرقه، عربه وعجمه، الصديق قبل العدو، والجار قبل البعيد. ولا يشعر بغزة وأهلها وظروفها إلا الغزيون في الشتات، ومن كان على شاكلتهم هنا وهناك، يموتون كل ساعة بل كل لحظة، فانتظار الموت أقسى من الموت.
ما أصعب أن يتحول الإنسان إلى مجرد خبر عابر، خبر عاجل، أو بوستراً يعلق على جدار، في مشهد متكرر متواصل، أصبح عادة روتينية لا يلتفت إليها إلا القلة التي اكتوت بالنار نفسها، وقاست الظروف إياها.


“حياة معلَّقة” رواية من الواقع، كتبها شخوصها، ونسجتها أيدي الغزيات استغلالاً للوقت انتظاراً لفتح المعابر، ولونتها دماء الجرحى والشهداء، وزينتها دموع الأمهات وأحلام الصبايا، وغلفها نصر وسليم وصحبهم؛ تنفيذاً لوصايا وحكمة نعيم والحاج خليل والمختار، على أمل شحنها عبر الأنفاق، بانتظار موافقة سلطات ترى في الكتاب سلاحاً خطيراً موجهاً لها.
احتفت الرواية بالبطولة الجمعية للغزيين في مواجهة كل الظروف والأحداث، فالبطولة الحقيقية لا يصنعها شخص مهما أوتي من صفات وخصال وإمكانات، بل تصنعها الشعوب التي تؤمن بالحياة الحقيقية، وإن بعد حين، بعيداً عن الصراع والتنافس والإقصاء والتشكيك والاحتواء.
الغزي يحلم بالحرية والتحرر، ويجاهد من أجلهما، ولكنه لا يذهب للموت المجاني بقدميه، وكثيراً ما يأتي الموت فارضاً إرادته وحضوره، ولذا أتقن الغزي فن التعامل معه، فهو ضيف أبدي ملازم لا يستطيع منه فكاكاً. ومن هنا فكل غزي بطل، بطل بالمعنى العام، فمن يستطيع أن يستمر في ظل كل هذه الظروف والأوضاع والأحوال، فهو بطل: من يكافح من أجل اللقمة فهو بطل، ومن يجاهد من أجل فرصة عمل فهو بطل، ومن يخرج من بيته تحت القصف لجلب الطعام لأطفاله فهو بطل، من يخترق الأنفاق ليجتمع بأهله أو يسافر إلى عمله فهو بطل، ومن يرفع صوته في وجه السلطة، أي سلطة فهو بطل. فالبطولة مكتوبة على الغزي، وهي قدر لا مفر منه.
التحديات والصعوبات والحصار المُطبق، لم تقيد أهل غزة، ولم تقعدهم أو تثبط عزيمتهم، ورغبتهم في الحياة، على الرغم من قرار دولي عملي بالإجماع بموت غزة ودفنها تحت أنقاضها، فقد شكلوا حياتهم حسب المتاح، فصنعوا مجدهم، وحققوا معجزتهم الخاصة بهم، وأصبحت لغزة ماركتها المسجلة باسمها على غير صعيد ومجال. فغدت مضرباً للمثل، ومثاراً للإعجاب، وميداناً للدرس والبحث.
رغبة بعض شباب غزة بالهجرة، تعبر عن رغبة بالحياة الحلم، التي سمعوا بها، وشاهدوا بعضاً من جوانبها على شاشات التلفاز، فهم بشر ومن حقهم الحياة كغيرهم، فالهجرة تشكل نافذة للأمل، ليس للمهاجر وحده، بل لكل من خلفه في غزة، فقد تساهم في لحظة من اللحظات في فتح طاقة في غزة، وهدم جزء من الجدار، وهتك أنسجة العنكبوت.


رواية “حياة معلَّقة” إضافة نوعية للرواية الفلسطينية التي أثبتت وجودها وجودتها وريادتها على الرغم من الظروف المعاكسة والمحبطة، فالإبداع لا يعترف بالعقبات والمثبطات والعراقيل. وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر للرواية العربية 2015. ومن الطريف أن عاطف أبو سيف لم يتسلم أي نسخة منها، ولم تلامس يداه غلافها، أو يتصفح أوراقها، ويملأ عينيه منها، إلا بعد وصولها للقائمة الطويلة للجائزة. ومُنع من السفر لحفل إعلان القائمة القصيرة، خوفاً من إنجاز لا يُسجل في خانة السلطة، ومن صوت لا يُسبح بحمدها. 

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *