قراءة في رواية “خابية الحنين” لجمال أبو غيدا

خاص- ثقافات

*ظافر مقدادي

تعريف بالرواية والمؤلف:

صدرت رواية “خابية الحنين” عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت ومكتبة كل شيء في حيفا عام 2016 وتقع في 464 صفحة من القطع المتوسط. وهي الرواية الاولى للكاتب جمال ابو غيدا. يعمل مؤلف الرواية جمال ابو غيدا من الناحية المهنية في مجال حماية حقوق الملكية الفكرية والعلامات التجارية وبراءات الاختراع وحقوق المؤلفين، وايضاً في مجال الترجمة من باب الهواية، فقد ترجم كتاب ماري إليزا روجرز عن فلسطين من الانجليزية الى العربية (بعنوان الحياة في بيوت فلسطين)، وهو مواظب الان على ترجمة كتاب القنصل البريطاني جيمس فين عن فلسطين (بعنوان اوقات مضطربة). وبذلك لا يكون المؤلف بعيدا عن اجواء الأدب، خاصة وانه قارئ وفيّ للأدب العربي والعالمي المترجم.

عنوان الرواية/ العتبة:

اختار المؤلف لروايته عنواناَ مركباَ بالاضافة: “خابية الحنين” ليكون عتبة القارئ التي من خلالها يلج الى عالم النص في الرواية، وذلك لما يحمله العنوان من رسالة يبثها المؤلف الى القارئ بما تحتويه من حمولات دلالية. فلكلمة “خابية” حمولة فلكلورية لها علاقة بموضوع الرواية علاوة على دلالتها اللغوية، فهي الجرّة الكبيرة التي يُحفظ فيها الماء او الزيت او الخمر او الدقيق او ما شابه ذلك، وقد استخدمت، وما زالت، من قبل شعوب المنطقة لهذا الغرض. وهي مجازاً “النار التي طـُفئت وسكنَ لهبها” (معجم المعاني الجامع)، وكذلك يمكن لدلالتها الانزياح باتجاه “الحب” الذي سكن لهبه. والخمرة هي بنت الخابية لانها تـُحفظ فيها، وهذا المعنى يأخذنا الى “النشوة”، خاصة وأن المؤلف أضاف كلمة “الحنين” الى كلمة الخابية، وما تعنيه كلمة الحنين من الشوق والتوق، وبذلك يكون قد عكس المعنى المجازي للخابية ليصبح “النار التي لم يسكن لهبها”، كون أن الحنين ما زال متقداً فيها. و”الحنّة” هي رقة القلب، والحنين هو “صوت الذي في فؤاده نزعة ألم” (المعجم السابق). وكأن الكاتب يريد أن ينبهنا من البداية أن موضوع روايته مرتبط بالوطن وقضاياه، وأننا أمام رواية عن شوق وتوق وأصوت فيها نزعة ألم لشخصيات وأحداث وحكايات سكنت في “خابية” من خبايا الذاكرة عسى لهب النار “يخبو” مع مرور الزمن، إلا أن نشوة الشوق عند هذه الشخصيات المسكونة بذلك الحنين الموجع أبت عليها إلا البوح.

موضوع الرواية وهدفها وأهميتها:

تنتمي رواية “خابية الحنين” الى الرواية التاريخية الواقعية في الأدب، فهي تستند الى أحداث تاريخية وقعت فعلاً في الاردن. الحدث الاول هو حرب أيلول عام 1970 بين الجيش الاردني والثورة الفلسطينية، والثاني هو أحداث جامعة اليرموك في مدينة إربد عام 1986. ولكن الرواية لا تهدف الى أي تسجيل او توثيق تاريخي (او تأريخ) للأحداث، وانما الى سرد روائي لتجارب وحكايات شخصيات روائية تمّ اسقطها على الخلفية الزمانية ـ المكانية للواقع. وهنا تكمن أهمية الرواية، إذ أنها تعالج روائياً موضوعين لم يـُعطيا حقهما في الأدب الأردني والفلسطيني والعربي، وهما احداث أيلول عام 1970 وأحداث جامعة اليرموك عام 1986. وكأن الراوي يهدف الى حثَ القارئ على الحكم على الأحداث من خلال تجارب شخصيات الرواية وحكاياتها بعيداً عن المدونة التاريخية والأحكام الايدولوجية او السياسية الرسمية لهذه الجهة او تلك. وكأنه يريد منا كقرّاء أن نلقي نظرة نقدية على الأحداث من خلال تجارب شخصيات الرواية البسيطة والعفوية بما تحمله من ترقب وخوف وحزن وفرح وألم وأمل وحب وكره وتعاضد وتلاحم وتآخي. وبذلك يمكننا القول أن الرواية هي رواية تاريخية واقعية نقدية.

مكان الرواية وزمانها:

مكان الرواية الرئيسي هو الأردن، وبالذات عمّان واربد، والزمان هو عام 1970 وعام 1986. إلا ان الرواية تتطرق الى أماكن أخرى ثانوية للأحداث في فلسطين (القدس، حيفا، سلواد) والشام ومصر في أزمان مختلفة تصل الى ما قبل النكبة عام 1948. فالرواية مترامية الأطراف تكاد تغطي مساحة القضية الفلسطينية وعلاقتها بالتجربة الوطنية في الاردن. تعدد الأماكن أغنى الرواية بتعدد البيئات والمناخات، خاصة أن الراوي يُسهب في الوصف، الأمر الذي يحمل القارئ الى مناخات وبيئات مختلفة: من مناخات أحياء عمان الى مناخات اربد وجبال عجلون وحيفا والقدس وسلواد.

شخوص الرواية:

شخصيات الرواية عادية وبسيطة، فهي شخصيات شعبية ومتنوعة تعيش حياتها ببساطة وتـُمثل المجتمع الاردني، فمنها الاردني والفلسطيني والشامي والعراقي والشركسي، ومنها المسيحي والمسلم واليهودي والملحد، ومنها الحالم والقنوع، ومنها الخيـّر والشرير، ومنها الغني والفقير، ولكنها رغم تنوعها واختلافها إلا أن ما يجمعها هو إنسانيتها وحبها للعيش بسلام وأمان ومحبة. إنها شخصيات تشبهنا نحن القراء، فكل منا سيجد له شبيهاً (أو توأماً) في الرواية، أو على الأقل شحصاً يتعاطف معه، مما يعطي الرواية بعداً حميماً. وقد أجاد المؤلف في رسم الشخصيات إما عن طريق الوصف أو الحوار او المناجاة والتأمل او عن طريق مواقفها من احداث الرواية، فتجسدت أمامنا شخصيات حقيقية من لحم ودم.

الشخصيتان الرئيسيتان في الرواية (او البطلان) هما “فوّاز” الفدائي الفلسطيني، وابن أخيه “نايف” الطالب الجامعي في جامعة اليرموك والمنتمي لحزب يساري تقدمي. فواز هو الاخ الاصغر لسلمان وفايز، وسلافة هي زوجة سلمان وابنة عمه، أما ذوابة فهي ام سلمان التي كانت على استعداد نفسي تام لتقبل فكرة استشهاد زوجها ابي سلمان فيما لو سقط خلال الدفاع عن حيفا في حرب النكبة عام 1948. هذه العائلة الفلسطينية اصلها من حيفا وقد لجأت الى الاردن وسكنت في عمان في قسم من بيت أم عواد، العجوز الأرملة الاردنية المسيحية التي استشهد زوجها في فلسطين في معركة “باب الواد”، أما ابنها البكر، عواد، فهو صديق سلمان وقد التحق بالجيش الاردني وأقسم لسلمان أنه لم “يدخل الجيش غير مشان شغلتين: آخذ بثار ابوي واشوف بحر حيفا”.

وهناك شخصيات أخرى ثانوية تدور في فلك هاتين العائلتين إما بحكم القرابة او الجيرة او العمل، مثل ابي عوني اللداوي صاحب المخرطة التي يعمل فيها سلمان، وابي العز اليافاوي صديق سلمان، وابي غاندي الشركسي الشاويش السابق في الدفاع المدني، وزيهانة خالة فواز وزوجها حسن الحسين، والشيخ مفضي باشا اللواء المتقاعد من الجيش الاردني وعائلته. معظم هذه الشخصيات كانت تعيش في حارة واحدة قريبة من “حي ماركا” في عمان، وقد جعلت منها الجيرة والهموم والاحلام والمصائر المشتركة عائلة واحدة بكل معنى الكلمة، وكانت تعيش بترقب وقلق وخوف بسبب احداث ايلول، إذ أن موقع الحارة كان بين حامية الجيش الاردني في معسكرات سلاح الجو المتاخمة لمطار ماركا وقواعد الفدائيين الفلسطينيين في الهاشمي الشمالي على الجهة المقابلة.

في جامعة اليرموك ارتبط نايف بياسمين بقصة حب تبدو “طلابية” إلا أنها ستبقى جرحاً غائراً في خاصرة الذاكرة حتى بعد مرور ربع قرن، وياسمين طالبة من سكان القدس اصلاً وقد عاشت معاناة الاحتلال ولم تلتحق بالتنظيم اليساري في الجامعة كما الحبيب نايف لأنها كانت ترى في العمل الطلابي “استعراض وتشبيح وتنظير ومزاودة”. أما عطا فهو المسؤول الحزبي لحلقة نايف الحزبية (بالاضافة الى رانيا)، وهو شاب مغرور وأرعن ولم يفهم من العمل الثوري اليساري سوى بعض الشعارات وتعليق صورة جيفارا وخارطة فلسطين على حائط غرفة سكنه الطلابي في اربد، وكان مغرماً بشرب الويسكي “بلاك اند وايت”، وكان يدخن “المارلبورو” في السرّ والدخان الاردني في العلن. أما المهندس مازن فهو مسؤول التنظيم الحزبي بأكمله في الجامعة، وهو خريج جامعة الصداقة في موسكو في السبعينيات، وكان نشيطاً في العمل النقابي في نقابة المهندسين في اربد. وهناك طلاب اخرون مثل هايل ذي الاتجاه الاسلامي ورؤوف اليساري الواقعي المتزن ويونس العراقي الشيوعي العتيق الذي كان يؤمن أن “السياسة ابتذال للفلسفة وتحقير لها”.

لا تنمو الشخصيات مع تطور الاحداث في السرد، فالفترة الزمنية للاحداث قصيرة جدا ولا تسمح بذلك، ولكن الشخصيات تتأثر بتجاربها الشخصية ما يؤدي الى تغيّر في وعيها وفلسفتها وأفكارها وفهمها للحياة، خاصة حين تصل الاحداث الى الذروة (او العقدة) التي من خلالها تتفجر البراكين الكامنة في اعماق وعي ووجدان الشخصيات لتزلزل قناعات كانت مترسخة عميقاً في أذهانها.

عرض مختصر للرواية:

“داخل على الله وعليك عمّي”.. كانت هذه آخر جملة قالها الفدائي فواز مساء ذلك اليوم من شهر ايلول عام 1970 قبل أن ينهار ويقع أرضاً مغمىً عليه. كان فواز، او الرفيق فهد، قد التحق بالثورة الفلسطينية وانضم الى الفدائيين في عمان بعد ان تخرج من جامعة دمشق. عمل في الاعلام الفلسطيني في مكاتب الفصيل، الذي انتمى اليه بُعيد معركة الكرامة، في جبل اللويبدة في عمان وخضع لعدة تدريبات عسكرية في الاغوار وجبال عجلون حيث تواجدت قواعد الفدائيين الفلسطينيين. كان الرفيق الامين العام للحزب الثوري الذي ينتمي اليه فواز يريد أن يحوّل عمان الى “هانوي الثورة” عبر المقالات الثورية والحماسية التي كان فواز يبدع في كتابتها في جريدة التنظيم، إلا أن اشتداد معارك حرب ايلول أجبر فواز على الهروب من مكتبه الاعلامي، الذي حاصرته وحدات من الجيش الاردني، باتجاه جبل عمان، وهناك أصابت رصاصة كتفه الايمن. في صباح اليوم التالي حين فاق من غيبته وقعت عيناه على صورة كبيرة معلقة على الحائط لضابط يحمل رتبة لواء في الجيش الاردني بالملابس العسكرية والاوسمة والنياشين. ظنّ لوهلة أنه قد تم القبض عليه وأنه في احدى مباني المخابرات الاردنية أو ما شابهها، ولم يبدد خوفه سوى صوت رجل كبير في السن “إنت يا وليدي في بيتي، ودخيلي، أنا عمك أبو عقلة، الشيخ مفضي الصبيرات، ولا تخاف، انت هون بأمان لو قاتل ولدي عقلة يا بوي، واللي بيصير عليك بيصير علي”. كان شيخ عشيرة الصبيرات، مفضي باشا، لواءً متقاعداً من الجيش الاردني وقد خاض حربين في فلسطين عامي 48 و67، وقد تصرف حسبما تمليه قناعاته بشأن حماية الدخيل بالرغم من موقفه المتناقض من موقف فواز من احداث ايلول، وقام بمساعدة زوجته وأبنائه بتنظيف جرح فواز السطحي وإسعافه. تغيّر فواز كثيراً خلال هذه التجربة، إلا أن بوصلة قلبه كانت باتجاه فلسطين، فقرر الالتحاق برفاق الثورة في جبال عجلون مصراً على أن الثورة بحاجة الى تصحيح. ستكون هناك مفاجأة هائلة بانتظار فواز في قواعد عجلون.

ومثلما تاهَ فواز في دهاليز فلسفة الثورة واهدافها وطرائقها وادواتها، سيتوه ابن أخيه نايف بعد خمسة عشر عاماً في البحث عن الطريقة الامثل للنضال من اجل فلسطين والاردن من موقعه كطالب جامعي في جامعة اليرموك حين كان الاردن ما زال خاضعاً للقوانين العرفية. وقتها كان العمل الحزبي محكوماً بالسرية التامة. كان نايف طالباً وطنياً يسارياً و”مسكوناً بتراث الثورة الفلسطينية ومقاتليها”، لهذا التحق بالتنظيم اليساري الماركسي الذي كان ينشط في الاوساط الجامعية بالسر، وكان يداوم على حضور الاجتماعات الحزبية السرية. كان نايف عضواً حزبياً مثقفاً ونشيطاً وساهم في استقطاب الكثير من الطلاب، خاصة أن الانتخابات الطلابية كانت على الابواب وأن التنظيمات اليسارية كانت قد ذاقت هزيمة قاسية على يد التيار الاسلامي الذي فاز في الانتخابات الطلابية الاخيرة. إلا أنه بحكم ثقافته ووفائه لمبادئه اليسارية كان كثير التساؤل وكان لا يتوانى عن طرح العديد من الاسئلة في الاجتماعات الحزبية، مثل: مدى تقبّل الفكر الماركسي اللينيني من قبل شرائح المجتمع الاردني المتدين؟ وهل هناك فعلاً طبقة عمال وكادحين في بلد يفتقر للبنية الصناعية التحتية؟ وما علاقة العمل الطلابي في الجامعة بالقضايا الوطنية الكبرى في الاردن وبالقضية الفلسطينية؟ ما علاقة الخاص بالعام؟ هذه الاسئلة كانت تستفز عطا، مسؤوله الحزبي الأرعن، الذي كان لا يرى فيها سوى ترفاً وتشبيحاً فكرياً لا لزوم له وتحدياً لقدراته الفكرية، فكان رده يأتي على طريقة “ولك شايف كل جدلية عمك ماركس، ومن قبله هيغل، هيّاها تحت أباطي”، هذا علاوة على اتهاماته المستمرة لنايف بأن له علاقات مع “البرجوازية الصغيرة”، والتي كان يقصد بها علاقته بالحبيبة ياسمين، الطالبة المقدسية، ابنة مالك الفندق الصغير في القدس.

كانت الأمور في الجامعة تتجه باتجاه التصعيد بسبب قرار الجامعة فرض رسوم على التدريب الصيفي لطلاب كلية الهندسة الذي كان تدريباً مجانياً، الأمر الذي رأت فيه قيادة التنظيم الذي ينتمي اليه نايف فرصة ذهبية لاستعراض قوة طروحاته في الوسط الطلابي وممارسة عمل نقابي يثبت للطلبة والمجتمع أن اليسار اكثر التصاقاً بقضايا الطلبة وهمومهم من التيار الإسلامي. تحالفت القوى الطلابية على اختلاف ايدولوجياتها في الجامعة للحشد ضد هذا القرار وللطلب من رئاسة الجامعة بسحبه ووقف الفصل التعسفي للطلبة، إلا ان قرار الجامعة جاء بالرفض. بدأت الاعتصامات الطلابية في الجامعة، واخذت الامور تزداد توتراً، ووصل عدد المعتصمين الى الآلاف داخل الحرم الجامعي. لم تتنازل ادارة الجامعة وأخذت بالتصعيد من جانبها بحشد الاجهزة الأمنية لفك الاعتصام بالقوة. وفي شهر رمضان في الرابع عشر من أيار عام 1986 وصل هدير هتافات الطلاب المعتصمين الى خارج أسوار الجامعة “وحّد صفّك.. وحّد صفّك.. بالعالي سمّعني كفّك”. وبدأت التعزيزات الأمنية بالاحاطة بالجامعة من كل الجهات: قوات أمن عام، مكافحة الشغب، قوات البادية. شقّ سكون الليل أصوات الطلاب، خاصة صراخ الطالبات وأصوات الرصاص والقنابل المسيلة للدموع، وسال الدم وسقط قتلى من الطلاب. بعد فترة من الاحداث قامت قوات الأمن بملاحقة الطلبة المُنظّمين للاعتصام واعتقلتهم وكان نايف من بينهم، وتم احتجازه في السجن، وخاض تجربة الاعتقال والسجن بكل قساوتها في سن مبكرة من عمره. اكتشف أثناء التحقيق أشياء كثيرة فاتته، وكعمّه فواز ستكون هناك مفاجأة في انتظاره في مبنى المخابرات العامة أثناء التحقيق، ستُغيّر الكثير من قناعاته، وستثور بداخله براكين وتزلزل كيانه زلازل.

بناء الرواية:

اعتمد المؤلف في بناء معمار الرواية على السرد والوصف والحوار والمناجاة. السرد يأتي من الراوي العليم (كليْ المعرفة) الذي يروي الاحداث ويصف الأماكن والشخصيات بصيغة الضمير الغائب (هو)، ولكنه يفسح المجال احياناً للشخصيات نفسها لتقوم بفعل السرد بصيغة ضمير المتكلم (أنا)، وبذلك تتعدد الاصوات في الرواية. والسرد نفسه يتقدم ويصعد مع الزمن باتجاه العقدة، ولكن هذا الصعود لا يأتي بخط مستقيم وإنما بتقنية التقطيع والتكسير الزمني للاحداث التي تسير وفق مسارين متوازيين (مسار عمان 1970 ومسار اربد 1986)، بحيث ان المؤلف يداوم على القفز بين زمانيْ ومكانيْ الرواية (السرد بالتناوب)، الأمر الذي يزيد من عنصر التشويق في الرواية ويُبعد الملل عن القارئ. ولكي يتفادى الكاتب اي التباس يمكن أن يحصل مع القارئ يُعطي كل “قفزة” عنواناً فرعياً يُبيّن المكان والزمان او الاسماء، مثل: “عمان، الجمعة 14 آب 1970″، او “سلمان توفيق الكمالي”. والسرد لا يسير من الماضي الى الحاضر فقط، وانما يرتد الى الماضي بتقنية الاسترجاع (فلاش باك). أي أن الكاتب استعمل تقنية المونتاج السينمائي.

يُكثر المؤلف من الاسترسال في سرد الاحداث، حيث أنه يَنسُل الحكايات من بعضها البعض بطريقة مشوقة ومسلية. فحكاية سلمان تنسلّ منها قصة زوجته سلافة واسرتها التي تعيش في الشام وحكايتهم في حيفا، ومن حكاية سلمان أيضاً تنسلّ حكاية أم عواد وزوجها الشهيد وابنها عواد وحفيدها متري، وكذلك قصة ابي العز الكندرجي المثقف الذي يأخذنا بدوره الى نابلس حيث قصة خاله ابي الحكم الذي ذهب للدراسة في القاهرة، وكذلك تنسل حكاية ابي عوني الذي شهد معركة القسطل. ومن حكاية فواز تنسل حكاية امه الحاجة ذوابة وزوجها مع المستوطن اليهودي مردخاي في حيفا، ومن حكايتها تنسل قصة مردخاي الأمريكي البولندي الأصل. ومن حكاية فواز أيضاً تنسل قصة الشيخ مفضي باشا وعائلته وعلاقتهم بالقدس، وكذلك تنسل حكاية زيهانة وزوجها حسن الحسين في سلواد. ومن حكاية نايف تنسل حكاية ياسمين وعائلتها في القدس، وحكاية أبي السعيد الفدائي السابق، وكذلك حكاية المهندس الرفيق مازن. وحكايات اخرى كثيرة تتشظى في امكنة وازمنة مختلفة.

أسلوب السرد هو الحكيْ والقصْ البسيط غير المـُتكلّف، فالقارئ يشعر ان الكاتب يحكي له ويقص عليه حكايات ببساطة وعفوية وكأنه يـُسامره. أما الوصف فيُكثر منه المؤلف سواءً كان وصفاً للشخصيات او الأماكن، الأمر الذي مكنّ الكاتب من رسم أماكن وشخصيات الرواية بكل وضوح، وفي أحيان كثيرة بأدق التفاصيل معتمداً تقنية التصوير السينمائي. أما الحوار فيتم بين شخصيتين او اكثر باللهجات العامية للشخصيات، ويهدف الحوار الى مساندة السرد في بناء الرواية ورسم الشخصيات وتوضيح افكارها وقناعاتها وهمومها وتوتراتها، خاصة عندما تظهر لنا الشخصية وهي تناجي نفسها.

النهايات المقفلة والمفتوحة للرواية:

يعتمد المؤلف على النهاية المفتوحة في نهاية الرواية لمعظم الشخصيات، فلا يخبرنا عن مصائرها بل يُبقيها لحدس القارئ وتوقاعاته بل ورغباته، ربما ليفسح له مجالاً للمشاركة في التأليف. ويعتمد النهايات المقفلة لحكاية فواز، ربما أراد من ذلك ابراز قوة الحدث وما سيتركه من أثر في وجدان القارئ، وكذلك لتوظيف الايحاء من خلال الحدث ورمزيته التي تقود القارئ الى ما وراء الحدث نفسه وما يحمله من معنى واستنتاج. أما نهايات حكايات جامعة اليرموك فيتركها المؤلف لا مقفولة ولا مفتوحة، وانما نهاية يُمكن تسميتها بالنهاية المستمرة. سنرى في الفصل الاخير من الرواية أن اشياء كثيرة قد تغيرت في حياة وقناعات الشخصيات. إنها الحياة تأخذ ساكنيها الى حيث تريد، او كما قال محمود درويش “ولأنهم لا يعرفون من الحياة سوى الحياة كما تُقدّمها الحياة لم يسألوا عمّا وراء مصيرهم” (مأساة النرجس، ملهاة الفضة).

اللغة والرمز والايحاء:

لغة السرد في الرواية على لسان الراوي العليم هي اللغة العربية الفصحى والصحيحة، ولكنها لغة بسيطة في تراكيبها، ربما لأن ذلك يناسب موضوع الرواية التاريخية الواقعية وشخصياتها البسيطة. ومع أن لغة الرواية ليست رمزية إلا أن الكاتب يستعمل التشبيه ودروب المجاز والاستعارة لتوظيف الايحاء. أما لغة الحوار والمناجاة فهي اللهجات العامية، حيث تتحدث الشخصيات بلهجاتها العامية بكل علّاتها النحوية التي يتعمد المؤلف تركها دون تصحيح: الاردنية، الفلسطينية المدنية والفلاحية، الشامية، العراقية، الأمر الذي يضفي على الرواية جمال التلوين ويجعل من الشخصيات اكثر قرباً لقلب القارئ. أما الايحاء فيأتي كحدث يرمي الى ما وراء الحدث نفسه، مثل تدخين عطا للمارلبورو في السر والدخان الاردني في العلن لايهام الجماهير بدعم طبقة العمال الاردنيين، وما يعنيه ذلك من مرض النفاق في المسيرة الثورية النضالية. هذا بالاضافة الى تضمين الرواية بعض الاناشيد والاغاني الفلكلورية (الاقتباس).

نقد وخلاصة:

يمكننا القول أن الرواية تنتمي الى الرواية العربية الحديثة التي انتشرت في ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، فهي تعتمد نفس الاسلوب في البناء الروائي بما فيه من استرسال واسترجاع، وتتبع نفس تقنية السرد للراوي العليم الذي يروي بصيغة ضمير الغائب الذي يُسهب في الاطناب، وهي كذلك رواية واقعية تستند الى احداث تاريخية موضوعها له علاقة بالوطن، أي أنها تهدف الى إثارة الأسئلة الوطنية الكبرى. الاسهاب في الوصف أعطى الرواية نوعاً من الإملائية على القارئ وفي بعض الاحيان نوعاً من التقريرية، مع أنه أفاد الرواية من ناحية رسم الشخصيات والاماكن، الا أنه يحرم القارئ من لذة الولوج الى الرواية والمشاركة في التأليف عن طريق التخيّل، ومع ذلك فإن مهارة الكاتب في ممارسة فن الغواية قد يستدرج القارئ للمشاركة في الرواية عن طريق الشبيه (أو التوأم). أما سرد الراوي العليم بصيغة الضمير الغائب (هو) فقد قلل من مصداقية الاحداث وحميميتها بالنسبة للمتلقي (القارئ) كونها تأتي من طرف ثالث، بعكس السرد بصيغة المتكلم (أنا) التي تضفي مزيداً من المصداقية والحميمية على النص بالنسبة للمتلقي كونه يأتي من شخصيات الرواية نفسها مباشرة.

في النهاية، الرواية رغماً عن انها التجربة الاولى للكاتب إلا أنها رواية جيدة وشيّقة وممتعة، والأهم من ذلك مفيدة، خاصة للجيل الجديد الذي لم يعايش الاحداث التاريخية للرواية، أما الجيل الذي عايش الاحداث فسيجد فيها فرصة للتأمل في الماضي والحكم عليه من خلال التجارب الانسانية لشخصيات الرواية. إنها رواية تستحق القراءة بجدارة، ويستحق مؤلفها، جمال ابو غيدا، كل الشكر والتقدير.

 

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *