( ثقافات )
*مجدي دعيبس
لعله مِن أصدق الشعر هو الذي يخرج من رحم الخوف والقلق والتّرقب. مشاعر تنحت في النفس البشريّة لتغيّر شكلها وردّة فعلها وربّما تعدّل على المسطرة الأخلاقيّة التي انقاد لها الناس، وأدركوا أبعادها عن ظهر قلب منذ سنين وسنين. الأوقات الصعبة تصنع أبطال الأمة، وتصنع القصيدة التي تصف هذه اللحظة التاريخيّة، وتنير شمعة وسط هذا الظلام لتصبح محجًّا للأمل والحب والحق. وما زال مطلع قصيدة أبي تمام في فتح عمّورية يجري على لسان الصغير قبل الكبير ولم يزدها الزمن إلّا ألقًا وشبابًا.
طالعتنا جريدة الرأي قبل أيام من خلال ملحقها الثقافي بقصيدة للشاعر جريس سماوي- الذي طال صمته- بعنوان «ثلاث ليال سويّا». ولا أعرف إن كانت هذه القصيدة الأولى على مستوى النشر بعد ديوان «زلّة أخرى للحكمة»، أم هناك قصائد أخرى فاتتنا ولم ندركها.
وهي قصيدة مركّبة فيها كلمات أو عبارات مفتاحية تعين القارئ على كشف خباياها؛ ولعل العنوان أول هذه العبارات التي تحيلنا إلى قصة زكريا وابنه يحيى كما وردت في الآية الكريمة «قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً، قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا»، وكما هو معروف فإن زكريا قد طلب إشارة من ربّه لتأكيد ما بُشِّر به على لسان الملائكة بالابن «يحيى» الذي طال انتظاره، لتكون العلامة عدم قدرة الأب على الكلام لثلاث ليال دون أن يشكو من أيّ علّة «سويًّا». وتظلّ هذه الصورة ملتصقة بخيال القارئ وهو يبحث عن سبل توظيف هذا التناص القرآني وكيفية استخدامه لبناء شاعريّة القصيدة، وهي من القصائد الطويلة التي اشتغل عليها الشاعر فيما يبدو نحتًا في التركيب والصورة حتى صارت على الهيئة التي يحب.
تبدأ القصيدة بتأثيث الحالة النفسية للذّات الشاعرة، وتظهر مفردات مثل «الرؤى، سجادة الصمت، مستبطنًا، أبكي»؛ لتعكس انفعالات الشاعر وتنثر إشارات تساعد المتلقّي على الدخول في مزاج القصيدة وجوها. ثم يظهر ضمير الغائب في «وأصغي إليهم» ليتّضح بعد أسطر عدة أنّ أسلافه هم المقصدون حيث يظهرون له فيما يشبه الرؤية، «وهم يطؤون العماء بأحلامهم» وهذه إشارة إلى قدرة الأسلاف على كشف بواطن الأيام، وربما هي توطئة تشير إلى سريان هذه الخصلة «استبطان المستقبل» من السلف الى الخلف لتصل الى الذات الشاعرة، وهذا ما يتأكّد من خلال المقطع اللاحق، وتظهر الصورة بشكل أوضح عند ورود الاستعارة في «رحلتي» و «أعرجُ» و «أجنحتي» وهي إشارة إلى الإسراء والمعراج وقدرة الذات الشاعرة على الوصول الى أماكن بعيدة لا يصلها البشر.
أعلو على زمني
أستبطن الخافيات الخبيئات في رحلتي
يأخذني الصمت كالهذيان إلى العتبات
وأعرجُ
أرقى إلى هيكل الذّات
والعتبات هي من الكلمات المفتاحية، وتعني استشراف المستقبل؛ لأن العتبة تفصل ما بين داخل الدار وخارجها وما بين الحاضر والمستقبل. في الأسطر اللاحقة تتضح الصورة المقابلة من التناص:
ألوذ بذاتي وأسرارها صامتًا
كاهنًا أخرس الفم
مرّت ثلاث ليال سويّا
ليس يسمعني العابرون الى حزنهم
يحاول أن يتكلم لينبئهم بأمر ما، لكنّه لا يستطيع بدليل أنهم لا يسمعونه. تبرز مفردة «وطني» وتظهر علاقة الذات الشاعرة بالوطن وإحساسها وتعلقها به. ثم يأتيه صوت أسلافه ليحذّره:
أجفلتُ إذ أدركتنا المفازة
واستوقف القومَ ظلّ بعيد وأنبانا الصوت عبر المدى
لا تمّروا، وأجفلتُ إذ قال لي سلفي:
لا تمرّوا،
ومن خلال حوارية طويلة بين الأب والابن تظهر علينا شجون وهواجس الذّات الشاعرة. الأب بحكمته يطلب التّنحّي جانبًا لحين مرور العاصفة أو المحنة، وقد ظهرت لفظة «الهواء الخبيث» وهو رمز مفتوح الدلالة؛ فقد يشير إلى الفيروس (كوفيد-19) وقد يشير إلى أبعد من هذا. وربما أشتق هذا الرمز من «الهواء الأصفر» وهو الكوليرا.
تنحّ بنا جانبًا يا بني
سيمضي الهواء الخبيث
وينحسر المدّ
ينفتح الضوء من قبّة في السماء
تمهّل قليلًا إذنْ أيّها الموت
يردّ الابن على خطاب أبيه وتتكرّر عبارات مثل: «أنا غائم»، «أنا فاتر»، «أنا مُطفأ»، في المقاطع اللاحقة لندرك المشاعر التي تجتاح الابن وتسيطر على جوانحه:
لكن متى يا أبي؟
إنني غائم
وأصلّي لأجلك يا وطني
وأصلّي إليك
أنا غائم لا أرى في المدى نجمتي
وفي مقطع لاحق يظهر استعداده للتضحية والفداء. يقول:
أنا أتّقي بيدي انهيار الجهات
وأسند ما انحنى من جدار الغروب
وأرتق ثوب الموانئ وهي تطوف على الماء
تحشر في حجرها سفن الوقت
ويؤكد أيضًا على تغيّر حال الأب والابن وربما الخوف والقلق الناتجان عن هذه المحنة مرد هذا التّحول:
أنت يا أبتي لا تنير
كما كنت من قبل تشعل أرواحنا
وأنا لم أعد مثلما كنت مؤتلقُا
وكلانا يعاتب صاحبه
من يا حبيبي سيبكي إذنْ قبل صاحبه؟
أيّنا سوف ينجو بأحلامه؟
ويختم الشاعر القصيدة بالمقطع التالي ليعلن أنه يرى الأمل للخروج من المحنة والأوقات الصعبة التي يمر فيها الوطن. لن يتكلم لثلاث ليال، لكن الخير قادم، والغمّة ستزول، ويحيى سيولد، وربما يكون هذا الأمر إشارة إلى الجائحة التي طغت على كل شيء من حولنا، وما تسبّبت به من أوضاع نفسيّة صعبة للمجتمع وضواغط اقتصادية قاسية على الناس البسطاء، وربما أيضًا تشير إلى أبعد من هذا لتصل إلى حياة أفضل وحب أكبر وتسامح وإنسانية وعيش مشترك.
وألوذ بصمتي
ثلاث ليال سويّا
وما زلتُ أومئ سرًّا خفيًّا
ويا زكريا سيولد يحيى
سيولد يا زكريا
يبدو أن الشاعر جريس سماوي- كما يظهر هنا وفي قصائد أخرى- يرفض المجّانية والمباشرة في الشعر ويبحث عن مواطن شعرية تحتاج للبحث والتقصّي والتأمل، والقصيدة بالنسبة إليه اشتغال معرفي يحفر في التراث وينهل من حكايات الشعوب والأساطير والأديان ويشتقّ رموزه من مفردات لها دلالة قريبة أو بعيدة لكنها تؤدي الغرض باقتدار وتمكّن. عودًا محمودًا للشاعر جريس سماوي، وتحية له على هذه القصيدة التي خرجتْ من حالة لتعبّر عن حالة أكبر ووجع أنكى ومدى أوسع.
- ناقد وروائي أردني