التوظيف المكثف للدين من قبل أنور السادات والتصالح مع جماعة الإخوان المسلمين أديا برأي الباحث نبيل عبدالفتاح إلى تمدد الحركة السياسية الإسلامية وسط قواعد اجتماعية عريضة.
حاورته: هبة ياسين
أدى انتشار المتطرفين على الساحة العربية إلى نشأة جيل يهتم بالظاهرة، وتسبب اتساع نطاق الإرهاب في تكريس الاهتمام. ويعتقد البعض أن ذلك حديث العهد في البحث العلمي، بينما الحقيقة تقول إن هناك نخبة أولت اهتماما بالقضية مبكرا، وقدمت إسهامات متعددة، وحملت على عاتقها توجيه تحذيرات بشأن المخاطر التي ينطوي عليها شيوع ما يوصف بـ”الإسلام السياسي” كنوع من التفرقة عن المتشددين.
يعد الباحث المصري في شؤون الحركات الإسلامية نبيل عبدالفتاح من المتخصصين الثقاة في علم الاجتماع السياسي في العالم العربي، ومن أوائل من اهتموا بظاهرة التنظيمات الإسلامية، فقد تخصص في بداية الثمانينات من القرن الماضي في وقت لم تحظ دراسة هذه الحركات باهتمام كاف، ولم تكن أصبحت رائجة تجلب لصاحبها شهرة.
اختار هذا المجال في وقت لم تكن الجماعة العلمية في مصر تُولي اهتماما بالدراسات السوسيولوجية والسياسية للدين بالشكل الكافي.
جذور النفوذ
ويرى عبدالفتاح أن الأمر كان متروكا لرجال الدين التقليدين في الأزهر الشريف بمصر، أو في جامعة الزيتونة بتونس، أو المنشغلين بالدين في المغرب، وغيرهم، فكانوا يعيدون إنتاج المعارف الموروثة دون تطوير مع جمود في أساليب المقاربة للموضوعات التي كتبت حول الإسلام والعقيدة والشريعة والقيم ونظام الحياة.
وقد اهتم بدراسة تيارات الإسلام السياسي خصوصا بعد تمدد الممارسات والطقوس الدينية في الشارع المصري، أواخر فترة السبعينات وأوائل الثمانينات، وهي الفترة التي تبلور فيها الصدام بين الجماعات الدينية والرئيس الأسبق أنور السادات، الذي اغتاله متشددون في 6 أكتوبر 1981، ففي ذلك الوقت استخدم السادات الإسلام والأزهر في مواجهة حركات المعارضة الناصرية والماركسية والليبراليين.
التوظيف المكثف للدين من قبل السادات والتصالح السابق مع جماعة الإخوان المسلمين أديا، برأي عبدالفتاح، إلى تمدد الحركة السياسية الإسلامية وسط قواعد اجتماعية عريضة، وبرزت بعض الجماعات الراديكالية في بداية حكمه. كان لهذه الظواهر والتغيرات أثر بالغ على اتجاه الباحث المصري للمزيد من التعمق في جماعات الإسلام السياسي، وتنامي اهتمامه وشغفه لفهم الظاهرة وتفكيكها. وصدر كتابه الأول، “المصحف والسيف.. صراع الدين والدولة في مصر” عام 1984، وانتشر عربيا وعالميا كمرجع في هذا الصدد، حيث توقع فيه انتعاش ظاهرة الإسلام السياسي، وما يمكن أن تؤدي إليه من صدام مسلح مع الحكومات للوصول إلى السلطة، وهو ما تحقق لاحقا.
حظي “المصحف والسيف..” باهتمام كثيرين، وقرأته بعض قيادات الحركات الإسلامية البارزة لتقديم رؤية مختلفة عن الخطاب التقليدي الموروث عن جماعة الإخوان المسلمين، والحركة السلفية.
كرس الرجل جهوده لكشف زيف هذا الخطاب في وقت عمد بعض الباحثين في التنظيمات الإسلامية لتقديم جماعة الإخوان إلى الرأي العام بشكل يخالف حقيقتها، والترويج لكونها تمثل تيارا ديمقراطيا لا يسعى إلى السلطة، وقادرة على التعامل مع القوى الديمقراطية والمدنية.
يوضح عبدالفتاح أن هذا الاتجاه ظهر في بعض الكتابات العربية، وتبناه باحثون في فرنسا وإسبانيا والولايات المتحدة، وكان النموذج التركي بدأ يظهر ويتم استحضاره أمامهم، وتصوروا أنه قابل للانتقال إلى دول أخرى عندما بدأ مع تورغوت أوزال واستمر بعد ذلك حتى وصل رجب طيب أوردغان إلى الحكم، لكن هذه التجربة أصابتها اختلالات كبيرة للغاية.
الكتاب كشف زيف الخطاب التقليدي الموروث عن جماعة الإخوان المسلمين
ولفت إلى أن بعض تجارب حركات الإسلام السياسي العربية، تمتعت بثقل جماهيري، وجرت محاولات مدنية للتحالف معها والترويج لإمكانية الاندماج داخل العملية السياسية، وكسر الجمود القائم في دول مثل تونس في ظل حكم زين العابدين بن علي، ومصر تحت حكم الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك.
قام البعض بالترويج لهذه الفكرة التي ما زالت سائدة لدى اليسار الأوروبي والأميركي، وعند باحثين ليبراليين، ومستقلين، من ذوي العلاقات مع أجهزة رسمية في الأنظمة، كجزء من النظرة الغربية للتطور السياسي في المنطقة.
أغفل هؤلاء أن التجربة المصرية في عهد مبارك منحت الإخوان المسلمين حق الوجود والتمثيل السياسي داخل البرلمان والحركة في الشارع، وتديين المجال العام، وكان الإخوان ممثلين في مؤسسات الدولة. تكمن المشكلة في أن الكثيرين لم يقرأوا أدبيات الإخوان، ولم يتابعوا تطورهم السياسي على مدى مراحل عدة، ولا أزماتهم مع الدولة المصرية من المرحلة “شبه الليبرالية”، قبل ثورة يوليو 1952، حتى حكم مبارك، وأغفلوا أن الإخوان جماعة تفتقر للخبرات، وثقافة الدولة الحديثة، ولا تمتلك تكوينا خارج نطاق الأيديولوجيا، ما جعلها فقيرة في الخيال السياسي، الذي يسمح بإجادة اللعب مع النخبة الحاكمة.
يقول عبدالفتاح إنه بعد استبعاد الرئيس الإخواني محمد مرسي، والتغيير الذي حدث في النظام السياسي عام 2013، واصلت الجماعة إعادة إنتاج الأفكار والخبرات القديمة، وظهرت شروخ عدة في التركيبات التنظيمية، مع أيديولوجيا مفارقة للواقع الموضوعي في المنطقة والعالم، صاحبها تشتت في المهاجر وميراث سلبي لدى الطبقات الوسطى حيال الجماعة كنتاج للمماراسات السيئة وتعمد إقصاء القوى الأخرى. أتاحت هذه المناورات للجماعة الظهور السياسي والإعلامي والترويج للخطابات والأدبيات عبر دور النشر التابعة للإخوان أو من خلال النشر في بعض الصحف المصرية.
جاء هذا التمدد في ظل غياب سياسة دينية تتسم بالرشادة السياسية وفي ظل جمود الأزهر، بجانب التأثير القادم مع المواطنين الذين عملوا في دول عربية وانتهت خدمتهم، فجاؤوا ومعهم بعض القيم الجديدة، وهي أقرب إلى السلفية مصحوبة بيسر مالي، وفي نفس الوقت قامت الجماعات الراديكالية الأخرى بـ”تديين المجال العام” عبر التركيز على الزي والحجاب والنقاب والصلاة في الطرق والمؤسسات العامة للدولة.
ساعد على ذلك ظاهرة “ترييف المدن” بعدما كانت المدينة والدولة المصرية حاملتين للتحديث والحداثة. وأيضا أدى غياب السياسات الحكيمة إلى ما حدث بعد انتفاضة يناير 2011، حيث تمكنت جماعة الإخوان المسلمين، والجماعات السلفية، من خلال رأسمالها التنظيمي من السيطرة على انتفاضة لم تشارك فيها أو تدعو إليها، والقيام بتعديلات دستورية حتى وصل مرشحها إلى سدة الرئاسة في مصر وبعدها ظهر بوضوح أنها تمتلك قدرات تنظيمية استثنائية، لكنها افتقرت إلى ثقافة الدولة وملكات رجال الدولة والقدرات القيادية، لأن ثقافتها مضادة لتكوين الدولة الحديثة.
تشريح وتفكيك الظاهرة
تجارب حركات الإسلام السياسي العربية، يرى عبدالفتاح أنها تمتعت بثقل جماهيري، وجرت محاولات مدنية للتحالف معها والترويج لإمكانية الاندماج داخل العملية السياسية
يسهم الجهد البحثي لتناول تيار الإسلام السياسي والتعمق في أسباب ظهوره وتطوره، في تقديم حلول جذرية لمواجهة تغول وتجذر الأفكار الأصولية في المجتمع. وقد طرح نبيل عبدالفتاح رؤية تتعلق بهذه المواجهة شرحها بقوله “تقوم على تطوير جذري للنظام التعليمي، وتجديد وإصلاح الأزهر والمناهج الدينية القائمة على التعليم الديني، وإدخال العلوم المدنية للتعليم الديني، كي يكون رجل الدين المستقبلي على معرفة بالتطور في العلوم الاجتماعية كالفلسفة والعلوم السياسية وغيرها”. وتشمل استراتيجية المواجهة إدراك أننا نعيش في الوقت الراهن عصر الثورة الرقمية وما يمكن أن يطلق عليه “الإنسان الرقمي” وثمة أسئلة وإشكاليات جديدة تُطرح على العقل التقليدي لم يستطع حتى الآن التعامل مع تلك الأسئلة بل يخشى مواجهتها.
في ظل ظواهر جديدة ترتبط بنمط من الممارسات لبعض الأجيال، هناك ما يطلق عليه “التدين التقليدي” وعدم قدرة رجال الدين على تفهم العقل الرقمي للإنسان، والاحتمالات الكبرى في التحول إلى ما بعد الحقيقة، وإلى ما بعد الانسان.
ووفقا لما يسود في الكتابات الغربية فذلك، حسب عبدالفتاح، سوف يلقي أسئلة بالغة التعقيد على العقل الديني التقليدي، ولا يزال يعيد إنتاج الفكر الديني الوضعي، والذي تأسس خلال قرون ليجيب على أسئلة واهتمامات ومصالح الناس في القرون الماضية، وليس في العصر الراهن الذي يشهد تطورات ضخمة في التعليم والتكنولوجيا والمجتمع، لكن للأسف الشديد لا يزال البعض لا يحاول مواكبة أسئلة وأفكار العصر الحديث.
ابن المدينة
ولد عبدالفتاح في العام 1952 في القاهرة، ودرس القانون وتخرج من كلية الحقوق، وعمل في مستهل حياته في مهنة المحاماة في واحد من أكبر مكاتب المحاماة في الشرق الأوسط، وحقق نجاحا، وآثر التخلي عن المحاماة حبا في مجال الكتابة والبحث. ويعود تكوينه الثقافي إلى نشأته العائلية، إذ ينتمي إلى أسرة قاهرية من الطبقة الوسطى تعيش
في العاصمة منذ نهاية القرن التاسع عشر، في منزل عامر بالكتب والمجلدات المختلفة، وكان الشيخ زكريا أحمد، صديقا شخصيا لجده، وترعرع في بيئة يسودها العمل والتعليم كقيمة كبرى في
الحراك الاجتماعي. كانت الثقافة “المدينية” جزءا من تكوينه منذ الصغر، حيث مسقط رأسه حي شبرا الشعبي الشهير في وسط القاهرة، وهو الحي متعدد الثقافات (كوزوموبوليتاني)، فنشأ على وتغذى من ثقافة التعايش المشترك والاندماج الوطني اليومي والحياة المشتركة مع جيران من اليهود والمسيحيين والأرمن، وأصحاب الأصول اليونانية والفرنسية، وجعل هذا الاندماج جدته تجيد التخاطب والحديث باللغة الفرنسية.
علم هذا النمط من الحياة الكثير من المصريين معنى الوحدة الوطنية دون شعارات زاعقة، وبدا الاندماج حقيقيا دون نفاق ديني، لذلك أفرز مفكرا موسوعيا منفتحا درس الماجستير في جامعة السوربون، وكان بحثه بعنوان ”جماعة الإخوان المسلمين.. دراسة في النسق المغلق“. وشغل منصب مساعد مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وأصبح رئيسا لمركز تاريخ الأهرام خلفا للمؤرخ الراحل يونان لبيب رزق. وضعته كتاباته ضد الإسلام السياسي في مرمى اتهامات وانتقادات وهجوم الكثير من المنتمين إليه، واتهم بشيطنة هذا التيار، مع ذلك لم تتغير بوصلته ولم تفتر عزيمته.
واستمر اهتمامه بالثقافة والنظام السياسي في مصر، ودارت الكثير من دراساته حول تشريح وتفكيك ظاهرة الإسلام السياسي وفهم أبعادها المختلفة، وتديين الفكر المجتمعي في مصر والعالم العربي. كتب “خطاب الزمن الرمادي.. رؤى في أزمة الثقافة المصرية”، و”عقل الأزمة.. الوجه والقناع”، و”النص والرصاص.. الإسلام السياسي والأقباط وأزمات الدولة الحديثة في مصر”، و”الحركة الإسلامية والعنف والتطبيع”، و”الحرية والمراوغة” و”سياسات الأديان” و”تجديد الفكر الديني”، وهو صاحب فكرة ورئيس تحرير تقرير الحالة الدينية في مصر، الذي كان يرصد ويحلل ويشرح الحالة الدينية.
يصفه القريبيون منه بأنه “راهب” في المجال البحثي، ولا يسعى إلى الأضواء أو الشهرة أو الثروة، ولم يكن يوما من مثقفي السلطة، ويمتلك قدرة على استشراف المستقبل، لذلك وصفه صديقه سليمان شفيق بأنه “زرقاء اليمامة المصري” الذي استطاع أن يتنبأ بالعدو القادم بعمق وبصيرة وليس برؤية بصر عادية.
- عن العرب – لندن