استعادة الإسلام من خاطفيه


*غادة السمان



ثمة كتب تطالعها لتنام.. وأخرى تطالعها فتستيقظ!.. إلى هذا النمط من الكتب الحادة كسكين على نصل قلب، ينتمي كتاب المحامي اللبناني الفرنسي د. عبدالحميد الأحدب رئيس هيئة التحكيم العربية للمحامين العرب وصاحب أول مجلة تحكيمية في عالمنا العربي التي تصدر دوريا وكتابها من كبار المحامين في أقطارنا كلها.أما اسم الكتاب فهو: «مأزق الإسلام السياسي ـ الإسلام اللبناني أمام التاريخ ـ دار سائر المشرق ـ 2015 ـ لبنان».
وعبدالحميد الأحدب مناضل بالكلمة، عمل في حقل الصحافة وهو طالب في الجامعة اللبنانية فالجامعة الباريسية، ودفع غاليا جدا ثمن آرائه غير المهادنة.. فقد بدأ حياته «ناصريا»، حتى هزيمة 1967 وحدث له ما حدث للكثير من المثقفين العرب إذ قام بتسمية الأشياء باسمائها الحقيقية فيما بعد: هزيمة لا نكسة.
وقرر مع الكثيرين رفضه لنظرية «اعطونا حريتكم ونعطيكم فلسطين» وصار شعاره «»من دون حرية ليس هناك انتصارات، وأنا أتفق معه.
قتلوا طفلته جمانة ولم يستسلم
وهكذا تحول الأحدب نحو تيار الحرية والديمقراطية واستقلال لبنان، وكان يتوقع حوارا فكريا وجاءه الرد متفجرة وضعت كهدية من التخلف أمام باب منزله، أودت بطفلته جمانة وأصابت زوجته نهى بإصابات خطيرة، بقيت بعدها في المستشفى شهورا طويلة، ودمرت القذيفة طبعا بيته الذي أسسه بعد زواجه في سن مبكرة. قالت بيروت يومئذ ان الضربة التي أصابت الأحدب أكبر من أن ينهض بعدها. لكن الرجل نهض. حمل ما تبقى من أسرته ومن قلبه المفجوع، برحيل طفلته البريئة جمانة، وهاجر إلى باريس وأسس مكتبا كبيرا للمحاماة وقال الكثيرون إنه بعد نجاحه في باريس لن يعود إلى بيروت. لكن د. الأحدب لم يقطع يوما صلته مع بلده الأم لبنان، وكانت جلسته الشهرية للغداء مع كبار أبناء الوطن في باريس موعدا لفتح قطب الجراح، وكان من بين ضيوفه الدائمين ريمون إده وشخصيات لبنانية كبيرة فاعلة مقيمة في باريس أو تزورها.. وحين لاح بصيص ضوء في لبنان عاد إلى الوطن وترك مكتبه في باريس في رعاية ابنه المحامي د. جلال الأحدب خريج جامعات أمريكا وباريس. وخلال إقامته الطويلة في باريس ترافع مجانا عن الكثير من اللبنانيين الذين واجهوا متاعب قانونية ولم يخلع يوما قلبه اللبناني الوطني ليزرع قلبا جديدا.
أما كتابه الذي أصدره مؤخرا «مأزق الإسلام السياسي» فهو صرخة مسلم لبناني ملتاع أمام أهوال تدور باسم الدين الإسلامي الحنيف، وتعود بنا قرونا إلى الوراء، على الرغم من الروح التقدمية جدا لذلك الدين في حقول لا تحصى.
المطلوب ثورة إسلامية تصحيحية
الكتاب بمجمله دعوة إلى إنهاء الإجازة الطويلة «التي أخذها العقل العربي وقضاها في الأكل والنوم واصطياد الغزلان.. وتأليف المدائح والمواويل».. كما يقول، وهكذا فكتابه دعوة من أجل أن يصرخ العقل وتصرخ معه الحرية في وجه عالم عربي «مستريح على مخداته وموزع الولاء بين كأسه وسجادة صلاته، بين رضى (ربه) ورضى زوجاته!» كما يضيف الأحدب.
ويذكّر الأحدب أيضا قارئ كتابه بالبيانات التي تؤكد: لا يجوز في الإسلام قتل النفس البريئة ولا قتل السفراء وبالتالي (رجال الصحافة) ولا يجوز التكفير إلا لمن صرح بالكفر، ولا الإساءة إلى النصارى، ولا إكراه في الدين في الإسلام ولا التعذيب، ولا سلب حقوق النساء ولا إعلان الخلافة من دون إجماع الأمة الإسلامية، وغير ذلك من المبادئ التي يتم انتهاكها بذريعة الدين الحنيف المضيء البريء من الظلاميين.
اختطاف الدين الإسلامي
في هذا الكتاب الخطير الذي يقف كل سطر فيه ضد التخلف «اللاديني» يذكرنا بـ»إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» داعيا إلى إسلام التسامح وإلى الالتزام بالحديث الشريف لرسول الله: «أما أمور دنياكم فأنتم أدرى بها».
في هذا الكتاب ينادي الأحدب بضرورة فتح باب الاجتهاد على خطى الشيخ محمد عبده وعبدالله العلايلي وعبدالله القصيبي ونصر حامد أبو زيد (الذي حاولوا قتله وطلقوه بالإرغام من زوجته لأنهم اعتبروه كافرا مرتدا!!) ومحمد أركون وصادق جلال العظم وفرج فودة وسواهم.
أحكام السلف ليست لزماننا
إنه كتاب ثري بالصدق ويصعب تلخيصه بسطور، ولعل عناوين فصوله تلقي نظرة على بعض محتوياته المتفجرة: المشكلة في الإسلام أن أحكام السلف تختص بغير زماننا/الكسل والصمت يستبدان بنا/ليس بالطائرات وحدها نقضي على «داعش» بل بفكر عصر النور الديني والعلماني/عادت السياسة الأمريكية إلى «غرامها» وتحالفها مع الإسلام السياسي من جديد/هل الإسلام هو الحل؟ ولكن أي إسلام؟/لا بد من ثورة التنوير ليعود الإسلام إلى حقيقته/سقوط الإسلام السياسي بعد سقوط الربيع العربي ـ مناقشة هادفة مع هيكل: ربيع الحرية حرمنا منها سبعين عاما بسببكم/من الحنبلية إلى سيد قطب إلى إقفال باب الاجتهاد، إلى هذا «الإسلام» الذي نراه/أما آن أوان الثورة الدينية التصحيحية؟.
د. عبدالحميد الأحدب ليس عازفا منفردا بل تلتقي صيحته مع الكثير من الصرخات المسلمة المتألمة المشابهة التي تطالب مثله بهدم «مساجد القتل لبناء مساجد الرحمن الرحيم» كما يكتب، وبثورة دينية تصحيحية تعيد الإسلام إلى المسلمين.
هذا المحامي المشهور لم ينفصل عن روح الدين في مطالبته بفتح باب الاجتهاد للدخول إلى عصر تنويري إسلامي، كالذي دخلت به أوروبا من حروبها الدينية إلى عصر النهضة، وكثيرون يتفقون مع صرخته، كي نحارب العدو الحقيقي الذي يتأمل حروبنا المحلية سعيدا وشامتا بنا.
_____
*القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *