- حسين نشوان
مفهوم الزمن برأي ريكور هو غير الزمن عند أنشتاين، وغيره عند المنتظر في محطة القطار، أو عامل البناء والمزارع والحبيب الذي ينتظر حبيبته، حيث الزمن لا يتوقف عند حدود الفيزياء بل يتحول إلى بعد نفسي وثقافي. يقول ريكور: (لا نستطيع صياغة الحدود الزمنية من خلال خطاب ظاهراتي مباشر، فالزمنية تشترط توسط الخطاب غير المباشر الذي يوفره السرد). أما بالنسبة لأنشتاين فالزمن افتراضي يختلف بالمكان.
والمجايلة لا تتوقف عند احتساب الزمن المجرد، وإنما تتصل بجملة من الظواهر التي تتصل بالمنظومات المفاهيمية والأفكار والمعارف والمناهج وطرق التفكير وعلاقات الناس معاً ونظرتهم نحو الوجود وفهمهم لحركة الزمن.
المشكلة الأساس تكمن في فهم الزمن الذي يمكن أن يظلل بغلالة من التقديس الذي ينعكس على فهم الإنسان لأبعاد الزمن في اتجاهاته المختلفة بين الماضي والحاضر والمستقبل، وهي المشكلة ذاتها التي أسست لعدد من النزعات التي تتصل بالماضوية والحداثوية كمناهج معرفية وجدت نفسها في مواجهة بعضها بعضاً. مثل هذه التحولات لا يمكن قياسها بالوقت الذي يرتبط بأعمار الأشخاص، وإنما تمثل شواهد على المنجز الذي تحقق بين فاصلتين زمنيتين، يعدهما الدرس الأكاديمي مجرد تقسيم افتراضي تعسفي، ولكنه يلجأ لهما لغايات التصنيف والبحث. فالزمن لا يسير بخط مستقيم، وإنما يأخذ شكلاً متعرجاً، أو (زنبركي) كما وصفه جبرا إبراهيم جبرا بوصفه دائرياً متنامياً. إن فهم المجايلة لا ينصرف عن وعي الزمن بوصفه وسيلة كونية وهمية/ افتراضية لترتيب الوقائع والأحداث، ولا ينفصل عن فهم الوقت بوصفه مسافة زمنية تمثل نقطة فاصلة بين حدثين وواقعتين، ومن المؤكد أن المجايلة وقعت في شرك التباس الزمن والوقت. فالزمن هو فضاء كوني، بينما الوقت علامة معيارية تخضع لثقافة المجتمع وأنماط عيشه. وتتجلى مثل تلك التوصيفات فيما عرف من ألقاب، ومنها: (جيل الرواد)، (جيل الثورة)، (جيل الهزيمة)، (جيل الزمن الجميل).. وهي توصيفات جمدت الزمن في نقطة فاصلة/ساكنة، وفي الوقت صبغت تلك المرحلة بصفة مغلقة غير قابلة للتوسع، فضلاً عن كونها لا توضح المشهد بكلياته وإنما تربطه بلحظة تاريخية بنوع من التعميم التعسفي. إن تلك التوصيفات التي تتصل بالجيل/المجايلة/الأجيال قد عصفت بها التحولات السريعة للتطورات التكنولوجية وفتّتتها كما فتّتت المكان وحولته إلى فضاء مفتوح/مخترق، انعكس على لغة التواصل وأدوات التعبير والأجهزة المفاهيمية والمعايير القيمية والعادات والتقاليد التي غدت فيها المجايلة مرتبطة بالمعرفة بالأداة التقنية وبوسيلة الاتصال (الهواتف الجوالة)، وليس بالعمر الزمني للأفراد والجماعات.
مفهوم المجايلة
في تعريف المجايلة تبدو الصورة غير واضحة أو واسعة في القاموس العربي لمفهوم الجيل الذي ينفتح على تعريف الجنس، فيقال: جيل الرومان.. أو الماضي/الزمان، فيقال جيل قبل، أو في غابر الأجيال، أو التصنيف الفئوي، فيقال جيل الشباب. أما اصطلاحاً فيعرف الجيل في (لسان العرب): بأنه كل صنف من الناس: الترك جيل، والصين جيل، والعرب جيل والروم جيل والجمع أجيال، أما (المعجم الوسيط)، فيعرف الجيل بأنه: الأمة من الناس والجنس، فالترك جيل والروم جيل، والقرن من الزمان، وثلث القرن يتعايش فيه الناس. والجيل، هو: ثلث القرن، نحو 33 عاماً حيث تلتقي فيه الجماعات باهتمامات واحدة. أما بالنسبة للأدباء فقد تعارفوا على أن الجيل يقع ضمن فترة عشر سنوات. في مطلع الستينات ظهرت نظرية (الفجوة بين الأجيال) الذي عرفت بفترة (طفرة المواليد)، ولجأ أبناء ذلك الجيل إلى مخالفة آبائهم في المعتقد والقيم والآراء والمزاج العام، وظهرت موضة (الهيبز) العيش على الطبيعة أو في الطبيعة، وهي الفترة التي شاع فيها مصطلح الأيديولوجيا مطلع القرن العشرين والتي نشأت عن نتاج الثورة الصناعية والآلة وقانون السوق، وهي الفترة التي شهدت حربين عالميتين شكلتا نقطة تحول في الفكر الإنساني تجاه الحياة والأدب والثقافة برمتها، فظهرت المدارس الفنية والنزعات الفكرية والتيارات الأدبية، وبموازاة ذلك ظهرت الكثير من المفاهيم الفلسفية حول الأجيال ومنها مفهوم روح العصر، التي تقول إن (الأجيال تمثل درجات السلم المتجانسة الصاعدة). ولكن الأمر لا يتوقف عند التجاور السكوني بل يحتاج إلى وعي إنساني بالتشابه والاختلاف، وما يتصل بالمحيط الاجتماعي والسياسي والقيم المشتركة والأهداف والطموحات واللغة، ولا يكفي العيش في وقت واحد لتحقق تلك السمات لخلق جيل واحد. ويرى الناقد صلاح فضل أن هناك عوامل فعالة في تشكيل الجيل الأدبي، من أهمها (تواريخ الميلاد المتقاربة، وأنماط التربية السائدة، ودرجة التواصل الشخصي بين الأفراد، إلى جانب المعايشات الكبرى للهزات التي يتعرض لها أبناء الجيل الواحد مثل الثورات والحروب والتطورات الحضارية البارزة في اللحظات التاريخية الفاصلة في حياة الشعوب والثقافات، وغالباً ما تتقدم شخصية رائدة، أو أب روحي للجيل يلخص أثر تلك العوامل كلها في تشكيل وعيه ورؤيته، بطريقة تفوق غيره، وتطبع عصره، وتجعل الآخرين يدورون في فلكه، وتصبح المصطلحات والشعارات التي يرفعها هي الرائجة بين أبناء جيله، مما يمثل فارقاً واضحاً يميزه عن الأجيال السابقة عليه أو اللاحقة له).
موت الأب
طبعت فترة الستينات حتى منتصف الثمانينات بروح العصر الذي كان يقع بين رحى قطبي الصراع الكوني، وانعكس هذا الصراع على المثقفين بشكل عام، حيث تمركز جزء كبير في دائرة الأيديولوجيا انطلاقاً من فهم حركة الزمن ماضوي/حداثوي، حيث يميل الأخير للتفلت من إسار سابقه، والذي برز معه الكثير من التيارات التي تتصل بـ(موت الأب) الذي يعلن فيه الكاتب عدم الانتساب لتجارب سابقة، بمعنى رفض المجايلة منحازاً في النص وحساسيته الجديدة، وهو ما سعر الصراع بين الأجيال لمن ينتمون لتيار المزج بين الأصالة والحداثة انطلاقاً من حرصهم على الهوية الثقافية وحنينهم لمرحلة الإشراق، وآخرين يبحثون عن الجديد بالانفتاح على التجارب الحديثة والقطع مع الماضي، ومثل هذا الصراع ظاهرة صحية انعكست على الأدب العربي في العقود الماضية. ووجدت مراحل المجايلة أو التصنيفات الجيلية منذ منتصف الخمسينات، وشهدت الكثير من الصراعات لمصلحة أحقية المنجز، وهي المرحلة التي انطبعت في الوطن العربي بمرحلة التحرر الوطني، والتفت معها الأدباء لذخائرهم التراثية بحنينية وتقديس في مواجهة الغزو الفكري. وشهدت تلك الحقبة أيضاً بروز الجماعات الثقافية والفنية، وتغيرات متلاحقة على شكل القصيدة من التقليدية إلى الشعر الحر فقصيدة النثر، وقصيدة الهايكو والومضة، ومنافسة الرواية واتساع انتشارها وتنوع تقنياتها وتداخل الأجناس وجملة من البلاغات والجماليات التي وظفت في النص. إلا أن تاريخ الظواهر وأدبيات النقد تدرك أن كل ظاهرة جديدة تحمل في أحشائها متبقيات من السابقة، ويمثلون عل ذلك بأن الأسطورة التي تعد من المعارف البدائية ما تزال موجودة في المجتمع، وأن التصنيف الجيلي هو تعسفي لأن الكثير ممن ينتسبون لدائرة الجيل الواحد يختلفون في وسائل التعبير بين التقليدي والحداثي، وهو ما وضع المصطلح ذاته قيد السؤال إن كان من الوضوح بحيث يخضع لمعايير صارمة للجماعة التي تنتسب للفئة أم هو مجرد توصيف اعتباطي.
تأثر وتأثير
وعدا عن ذلك فقد عملت الأحداث على هجرة الكثير من الأدباء والمثقفين العرب الذين عاشوا في مجتمعات غربية، وتأثروا بشروط مجتمعية وثقافية جديدة، ومنظومة سلوكية مختلفة، وتأثروا بأساليب تعبيرية مختلفة ظهرت في نصوصهم، بعضهم من جيل الثمانينات والتسعينات وآخرون من السبعينات، فأين يمكن أن يصنف هؤلاء لجهة المجايلة؟ يقول الناقد شجاع العاني: إن مصطلح (جيل) قاصر أصلاً؛ كونه لا ينطبق بالذات على الأجيال، فأحدهم من جيل الستينات لكنه يكتب في السبعينات أو هو من جيل التسعينات ومتأثر بأدب أجيال الستينات أو السبعينات في كتاباته، مؤكداً أن (التجييل برأيي غير كافٍ لتصنيف الأدب والأدباء). إن مثل هذا الرأي يؤكد تداخل الأجيال كما يحدث في تداخل الأجناس، وهي ظاهرة حيوية رغم ما تنطوي عليه من صراعات هي أقرب للتنافس الإبداعي، فالظاهرة الأدبية والمعرفية مثل كل الظواهر: تراكمية نشطة تفاعلية منتجة، ودون ذلك فهي تمثل نوعاً من الموت بحسب دراسات علم الاجتماع.
الأجيال السائلة
في الواقع لم يعد أحد من النقاد يتناول قضية الأجيال والمجايلة مع الألفية الثالثة، ربما لتناول النقد قضايا تتصل بالأسلوبية والتقنيات ومفاهيم الحداثة وما بعد الحداثة، ولارتباط مصطلح الأجيال بقضايا تتصل بالريادة التي ظهرت قبل الستينات وظهور تلاميذ ومريدي الرواد في السبعينات والتي استمرت حتى التسعينات، وكذلك ارتباط الظاهرة بالأحداث الإقليمية التي تتصل بالحروب والصراع بين قطبي العالم وتأسيس المفهوم على أساس أيديولوجي. وبعيد حقبة العولمة تداخلت المفاهيم بانفتاح الأجناس وتطور تقنيات التواصل في الثورة الرابعة التي امتازت بسيطرة قوانين السوق والشركات العابرة للقارات و(الكارتيلات) وانتشار الفضائيات وشبكات التواصل الاجتماعي التي عززت الفردانية والعزلة في مرحلة ما بعد الحداثة التي يصف فيها الكاتب زيغمونت باومان في كتابه (الثقافة السائلة) أن (الثقافة والمثقفين والمؤسسات المرتبطة بالثقافة انتقلت من مرحلة التنوير إلى عصر الثقافة السائلة)، حيث انتقلت الثقافة من المرحلة الصلبة إلى المرحلة السائلة، بمعنى آخر تحول الأديب والكاتب من (الكتلة) أو الانتماء للجماعة إلى تنمية النزعة الفردية التي تتجلى في شبكة التواصل الاجتماعي.
جيل رقمي
ورغم إشكالية المصطلح والتباسه أحياناً بوضع منتسبيه وفق معيار توصيف واحد إلا أن غياب الأجيال يشير إلى ضعف الذاكرة الاجتماعية والثقافية، كما تقول عبير عبدالباقي في دراستها عن (طبقة الأفندية) التي تحولت إلى النخب في غير مجال، رابطة بين وجود الأجيال بشكل عام والنزعة الحداثوية التنويرية المجتمعية. وخلاصة القول إن الأجيال والمجايلة تنطوي على تصنيف وهمي/افتراضي لأن الظاهرة الأدبية في الأصل تتكئ على المنجز التراكمي التراثي والتواصلي مع الآخر، ولكن مع تقدم التكنولوجيات بسرعة فائقة وتغير هندسة التلقي والتواصل تقلصت المسافة بين الأجيال بمهارة استعمال منصات التواصل وأجهزتها المتقدمة واختزلت الأجيال وفق معيار التقنية في جيلين يفتقدان للغة التواصل والحوار والتعبير: الجيل التقليدي و(جيل رقمي).
- أديب وفنان من الأردن
- عن المجلة العربية