عندما نتحدث عن مفهوم الثقافة عموما يجابهنا خلط والتباس لا بد لنا من توضيحه، يتصل بثلاثة مفاهيم متداخلة بعضها مع البعض الآخر هي: الثقافة والحضارة والمدنية التي ترتبط بحياتنا الفكرية والثقافية. وهذا الخلط والالتباس لا ينبع من طبيعة اللغة العربية ذاتها، بقدر ما ينبع من ترجمة هذه المفاهيم عن اللغات الأخرى. فمصطلح «Culture» يعود أساسا إلى الفلسفة اليونانية حيث اشتق الإغريق هذا المصطلح من كلمة «Colere» اللاتينية التي تعني الحرث والزرع ثم انتقل إلى اللغات الأوروبية.
فمفهوم الحضارة عند الألمان هو الإنجازات الروحية التي يبدعها الإنسان والتي تعبّر عن خصائصه الذاتية، كما في الفلسفة والعلم والأدب والفن وغيرها. في حين يقسّمها المتأثرون بالثقافة الفرانكفونية إلى عنصرين: واحد مادي هو «المدنية» وآخر معنوي هو «الثقافة».
وفي الثقافة الإنكلو-سكسونية يستعملون المصطلح بمعنى «الثقافة». وفي الثقافة الجرمانية-السلافية يستعملونه بمعنى «الحضارة» بمعناها العام والشامل وبعناصرها المادية والمعنوية في آن واحد. كما ينتج الالتباس عموما من الارتباط بين الثقافة والمثقف، الذي هو منتج ثقافة، بحيث تختزل الثقافة إلى مدلول خاص يرتبط بالمثقف وليس بالمجتمع والتراث. فالثقافة هي طرائق التفكير والعمل والسلوك الشعورية واللاشعورية التي يكتسبها الفرد باعتباره عضوا في مجتمع والتي تميز أفراد مجتمع عن آخر.
أما مفهوم المدنية فيشير إلى الجانب المادي-التقني العقلاني، أي إلى مستوى التقنية في مجتمع ما وتطور المعرفة العلمية وطريقة السكن ونظام المعيشة وتطور آداب المائدة والعلاقة بين الرجل والمرأة وكل الأشكال الظاهرية للوجود الإنساني، أي بمعنى الطريقة «المتمدنة» أو «غير المتمدنة» من نمط الحياة والتفكير والسلوك التي تطوّرت عبر الزمن عن طريق سيطرة الإنسان على الطبيعة وإخضاعها لمشيئته.
وسوف نستخدم كلمة «ثقافة» بمدلولها العام لشيوعها في الدراسات السوسيولوجية والأنثروبولوجية، والتي نحددها بتراث ونمط التفكير والسلوك الاجتماعي المتراكم جيلاً بعد جيل، بحيث يستطيع بموجبها الفرد التكيّف والتلاؤم مع المحيط الطبيعي والاجتماعي.
أما المجتمع فهو مجموع الأفراد الذين يعيشون في بقعة جغرافية معينة ويتفاعلون فيما بينهم ضمن شبكة من العلاقات الاجتماعية المتداخلة بعضها مع البعض الآخر. فإذا كان المجتمع هم الأفراد في عملية تفاعلهم، فإن طريقة حياتهم وتفكيرهم وسلوكهم هي الثقافة. فهي إذن مجموعة مترابطة ومتشابكة ومتداخلة من أنماط التفكير والعمل والسلوك التي تؤلف الأدوار التي تحدد السلوكيات المنتظرة من مجموع أفراد المجتمع. فالثقافة بهذا التعريف هي جرد لسائر نماذج السلوك والتفكير التي يقوم بها أعضاء المجتمع أو قسم منهم، وموقع هذه السيرورات يشكل في الحقيقة الأطر الثقافية السائدة، أي التفاعلات التي تقوم بين الأفراد. وبمعنى آخر نماذج السلوكيات المتوّلدة عن هذه التفاعلات، التي تقوم على آليات تأسيسية مختلفة كاللغة والتربية والقيم والعادات والتقاليد والأعراف والطقوس ووسائل الاتصال والمعاني الرمزية وغيرها التي تتراكم عبر الأجيال وتكون لها صفة معيارية.
ومن الملاحظ، أنه من الصعب الانحراف عن بنية المجتمع ذات الصفة المعيارية وذلك لوجود جزارات اجتماعية تطبق تلقائيا عند الخروج عليها، لأنها تحدد الأدوار ونماذج التفكير وأنماط السلوك. وبهذا تصبح الثقافة ذاكرة المجتمع الشعورية واللاشعورية.
وهناك شبه اتفاق عام على أن الثقافة تكتسب بالتعلم وتساعد الإنسان على التكيف مع المحيط الطبيعي والاجتماعي. والثقافة كثيرة التنوع وتتكون من عناصر ومقومات مادية ومعنوية. إنها أكثر من مجرد ظاهرة بيولوجية، فهي تشمل كل ما يكتسبه الإنسان من محيطه الاجتماعي بشكل شعوري أو لا شعوري.
ولفهم طبيعة الثقافة من الممكن تحديد خصائصها بصورة عامة وهي كما يلي:
• الثقافة عامة، كتجربة إنسانية، ولكنها خاصة في أشكالها المحلية أو الإقليمية وذلك بسبب اختلاف البيئة والمحيط الطبيعي والاجتماعي.
• الثقافة ثابتة غير أنها ديناميكية. فهي في تغيّر دائم وتبدل مستمر، ولذلك فهي ذات طبيعة تراكمية.
• الثقافة تملأ حياتنا ولكنها تحدد سلوكنا وتصرفاتنا، ونادراً ما تدخل نطاق تفكيرنا الواعي.
وعن طريق الثقافة نهتدي إلى القيم ونمارس اختيار القيم التي تناسبنا، لأنها وسيلة للتعبير عن الذات والتعرّف عليها والبحث دون كلل عن مدلولات جديدة للحياة وحالات إبداع مستمرة.
الثقافة مكتسبة من المجتمع وهي بذلك ليست ظاهرة بيولوجية وتكتسب بالتعلّم ومن خصائصها انتظام سياقها واستجابتها للبيئة الطبيعية والاجتماعية، وفق أشكال التقنية المتاحة. ومن هنا نجد أن سلوك الفرد غالبا ما يتطابق مع «الثقافة السائدة»، وهو تعميم يؤدي بنا إلى إمكانية التنبؤ بسلوك الفرد المتكيف وفق هذا النمط الثقافي أو ذاك. أما عملية التثقيف فهي عملية تشريط شعوري أو لا شعوري تجري ضمن حدود معينة تحدّدها القيم والأعراف التي تربط الجماعة بعضها مع بعض وتدفعهم للتكّيف معها وهي عملية تبدأ منذ الطفولة ولا تنتهي إلا بالموت. وخلال عملية التثقيف ينزع الفرد إلى تبني «الشخصية النموذجية» التي يرغب بها المجتمع، بحيث يصبح الأفراد في مجتمع معين، متشابهين في ثقافتهم تقريبا. وهنا تكمن إحدى أهم المشاكل الجوهرية في دراسة الثقافة ومعرفة سياق التثقيف على تطور ونمو الشخصية، وكذلك كشف العلاقة الجدلية بين الثقافة والفرد من جهة وبين الثقافة والمجتمع من جهة أخرى. فكل إنسان يستطيع أن يتقبل أيّ عناصر ثقافية، ولكن بشرط أن تتوفر الظروف المناسبة لتعلّمها ثم تقبّلها، وفي ذات الوقت، فإن كلّ ثقافة تستطيع أن تؤثر في الفرد عن طريق تعلمها واكتسابها. ومن الملاحظ، في جميع المجتمعات الإنسانية بأن الأفراد يسعون غالباً إلى الامتثال لأنماط السلوك التي تقرّها الجماعة لأنّ الثقافة السائدة هي التي تحدد الأهداف التي يريدون الوصول إليها.
إن سياق التثقيف يظهر بوضوح في المجتمعات التي تميل فيها طرق التربية والتنشئة الاجتماعية والتعليم التي تشجع على القيم التعاونية وفي أخرى التي تشجع على القيم العدوانية وفي ثالثة التي تميل إلى أسلوب توفيقي يجمع بين الاثنتين، وأن هذا الميل أو التفضيل يؤدي بالتراكم إلى نموّ ميول نوعية في ثقافة المجتمع يطلق عليه الأنثروبولوجيون «النمط الثقافي» (Cultural Pattern) الذي يكسب الثقافة خصوصية تميّزها عن غيرها من الثقافات. ففي ثقافة البحر الأبيض المتوسط يظهر التقييم العاطفي أكثر وضوحا منه في ثقافات غرب أوروبا. وفي ثقافة البادية تسيطر قيم التغالب (الغزو والشجاعة والمروءة) أكثر ممّا تسيطر على ثقافة الحضر، الذين هم أكثر استقرارا ودعة وخضوعا للدولة. وفي وسط أفريقيا يظهر العداء للحضارة الغربية وكأنه مركّب نقص حضاري.
ومن الأمثلة التي تدعم سياق التثقيف في العالم العربي هو الزواج من ابن العم/ابنة العم. وهو ظاهرة مفضلة عند العرب، في حين يكون الزواج من ابنة العم في أوروبا ظاهرة غير طبيعية ومحرمة أحيانا. وينظر المسلمون إلى لحم الخنزير باعتباره محرّماً والى الكلب باعتباره نجساً، في حين ينظر إليه آخرون نظرة مخالفة ومغايرة تماماً. من هنا يظهر لنا بوضوح بأن الثقافة ظاهرة اجتماعية ملازمة للإنسان، باعتباره يمتلك عقلا ولغة، واللغة هي وعاء الفكر والفكر نتاج العمليات العقلية التي يقوم بها، وأن الإنسان هو الوحيد بين الكائنات الحية الأخرى القادر على إنتاج وتطوير العناصر الثقافية المادية والمعنوية التي تطوّرت مع تطوره والتي تصب سلوكه في قوالب معينة إلى حد بعيد.
ولفهم النمط الثقافي علينا أن نبدأ بأصغر وحدة اجتماعية التي تشكّل طريقة حياة وتفكير وعمل وسلوك يتشارك فيه أغلب أعضاء الجماعة. ففي الصّحراء العربية ما زالت «الخيمة» نموذجا «للبيت العربي» الذي يمثل وحدة العائلة والعشيرة، مثلما يمثل وحدة حضارية ونفسية وثقافية متكاملة لها صورة كلية في ذهن العربي وعقليته، في البادية والريف والمدينة إلى حد بعيد. وتظهر هذه الصورة الذهنية الكليّة في معنيين:
أولا: لها نظام ثقافي يرتبط بالبيئة الطبيعية ولها وظائفها وخصائصها ومواصفاتها التي ترتبط بالبادية، وبنمط الإنتاج الرعوي والمناخ والترحال وكذلك بالقيم والأعراف والتقاليد والعصبيات العشائرية، حتى أن أغلب الخيم العربية متشابهة، ونفس الخصائص والوظائف والمواصفات تنطبق على البيت العربي في الريف والمدينة، مع بعض الاختلافات التقنية وليس الوظيفية.
ثانيا: لها معنى سيكولوجي يحدد سلوك الأفراد ومواقفهم وعلاقاتهم معها ومع العشيرة والماشية والغزو والمروءة والعصبية والكرم وغيرها من القيم والأعراف العشائرية.
هناك إذن ثنائية في المعنى والوظيفة، وهو ما يكسب ثقافة البادية الأصالة والتماسك والاستمرارية. إن هذه الصورة الذهنية الكلية في ثقافة البادية هي التي تنظم السلوك الاجتماعي والمواقف والأهداف وكذلك العلاقات الاجتماعية التي يفرزها نمط الإنتاج الرعوي، كالترحال والشجاعة والغزو والمروءة والكرم والتغالب وامتهان الحرف والمهن والاهتمام بالنسب والشرف وتحديد الزمان والمكان والمحرّم والمباح إلى حد ما، وهي بالتالي تصب سلوك الأفراد في قوالب متشابهة تقريباً، مع أنها تترك مجالا للاختيار الفردي في بعض الأحيان.
كما أن استقرار أيّ نمط ثقافي إنما هو نتيجة لسيرورة متواصلة في عملية التثاقف، التي تتكّيف وتتمثل، والتي تَمتص وتُمتص، فتغتني أو تفتقر، بحسب المعطيات الذاتية والموضوعية. ولا يتطور النمط الثقافي ويتغير إلا عن طريق تغير أسلوب الحياة وأسلوب الإنتاج والاتصال الحضاري وعملية التثاقف، وبدونها لا يمكن أن يكون هناك تواصل وتلاقح وانفتاح على الآخر.
غير أنّ النمط الثقافي معقّد وليس بسيطا وذلك لأن للثقافة وجهين، واحد ظاهري مادي ومحسوس يظهر في وسائل وأدوات الإنتاج كما في الزراعة والتجارة والعمل والسكن وجميع المنجزات المادية وكل ما يستعمله الإنسان في حياته اليومية، وآخر معنوي خفي وغير محسوس ولا يمكن الكشف عنه في الحياة الثقافية إلا من خلال القيم والتقاليد والأعراف والدين والفلسفة والأدب والفن والمثل الأخلاقية والجمالية التي تتبدّى في السلوك والمعاني والرموز المعنوية والفكرية والروحية التي يعجز الإنسان عن تفسيرها لما ينطوي عليها من دوافع وأهداف غير واضحة. كما أن لهذه القيم غير الظاهرة قدرة فائقة على تحريك السلوك وتوجيهه نحو أهداف محددة.
ولمّا كانت القيم مختلفة، فإن تأثيرها على السلوك يكون مختلفا أيضا. وتختلف قيم الريفي نوعاً وكماً عن قيم الحضري، وقيم الموظف عن قيم العامل والفلاح أو التاجر أو العسكري، وإن اختلاف القيم بين الناس وتنوعها وتناقضها يؤدي في كثير من الأحيان إلى الصراع والاحتراب بين الطبقات والفئات الاجتماعية. كما أن اختلاف القيم وتنوعها وتناقضها هو نتيجة لاختلاف الظروف الاجتماعية والثقافية والمصالح الاقتصادية والطبقية.
من جهة أخرى، فإن العناصر الثقافية غير المادية تختلف في درجة وضوحها وانكشافها للناس. فمثلا الشخص الغريب الذي يسافر إلى بلد آخر لأول مرة يلاحظ أولا العناصر المادية المنظورة والمحسوسة كالبيوت والشوارع ووسائل النقل والطعام والأزياء وغيرها بحكم سهولة رؤيتها والتعرف عليها. فهو لا يحتاج إلى وقت طويل لذلك، ولكنه سوف يحتاج إلى وقت أطول للتعرف على العناصر المعنوية غير المحسوسة والمنظورة للثقافة كالقيم والعادات والتقاليد والأذواق الجمالية. ويعود السبب في صعوبة الكشف عن معاني أو دوافع القيم والأعراف والتقاليد إلى أن أعضاء المجتمع أنفسهم قد يعجزون أحياناً عن تفسير ما تنطوي عليه من معان ووظائف خفية.
وكثيرا ما تتصف الوجوه الخفية للثقافة بطابع رمزي. فمثلا على ذلك عادة «أكل الخبز والملح» الشائعة عند عقد الصلح بين العشائر العربية المتنازعة. فحين تقوم قبيلة بغزو قبيلة أخرى تقوم الثانية بأخذ الثأر منها، ولكن عندما يحلّ الصلح بينهما تقومان بأكل الخبز والملح معاً ويحل بينهما الوئام. وهنا يرمز الخبز والملح إلى الصداقة والتعاون والسلام. كما أن رفض المولودة الأنثى عند الغالبية من العرب هو مثل آخر لا يكشف دوما عن دوافعه بوضوح، إلا بعد معرفة تقاليد وأعراف القبائل البدوية التي تريد التخلص من الإناث لأسباب عديدة منها قيم الشرف والتقاليد والفاقة وقلة عدد الرجال وغيرها. أو حينما تقول للريفي في العراق «على راسك قشة»، فهناك معان عديدة ترتبط بالقيم الأخلاقية والشرف والكرامة وغيرها.
وقد ينطوي السلوك الاجتماعي على وجهين أو أكثر، فمثلا الزواج من زوجة ثانية عند العرب والمسلمين قد يكون حصيلة عدد كبير من الدوافع وقد يكون لكل دافع قصد أو هدف خاص ولكنه غير معلن. وقد تختلف الدوافع في قوتها ووضوحها ولكنها تبقى خفية وتجري بصورة لا شعورية وتلقائية، فمن الممكن أن يكون الدافع زيادة عدد الأولاد وبالتالي زيادة الأيدي العاملة في الأسرة أو لحفظ النسب أو الحصول على امرأة أكثر شباباً وجمالاً أو إذا لم ينجب الأب ذكراً أو لتقوية المركز الاجتماعي أو توسيع علاقات المصاهرة مع أكثر من أسرة وغيرها من الأسباب، مع أن كل سبب منها ينطوي على وعي وقصد معينين.
إن هذه الأمثلة تبين لنا بوضوح أن وراء أيّ سلوك اجتماعي دوافع مختلفة ظاهرة وخفية. وقد تختلف الدوافع في قوتها وضعفها من مجتمع إلى آخر، ولكن الملاحظ هو أن العناصر الثقافية الظاهرة والخفية تجري لدى الأفراد بصورة لاشعورية وذلك لتعوّد الأفراد على ممارستها بصورة تلقائية، حتى لو كانت مضرّة أو مؤذية.
ومن جهة أخرى فإن للثقافة طبيعة انتقائية لأنها تتمتع بدرجة عالية من السيطرة على أذهان الناس وعواطفهم. لذلك نجدها لا تأخذ إلا ما يتلاءم معها وترفض كل ما يخالفها وتعتبره غزواً ثقافياً. ومع أن كل ثقافة تصبّ الأفراد في قوالب معينة تقريباً، إلا أن للبعض منهم استعدادا لتقبل بعض العناصر الثقافية الوافدة من الخارج عن طريق الاتصال الحضاري. غير أن ما تقتبسه أيّ ثقافة لا تتمثّله بشكل ميكانيكي دائماً، بل إنها تميل إلى تقبل العناصر التي لا تحدث صراعاً كبيراً مع عناصر الثقافة السائدة وتحاول تغييرها أو تحويرها أو إضفاء طابع الشرعية عليها لكي يتم تقبلها وانسجامها مع المقومات الثقافية السائدة.
ومن الطبيعي أن تنشأ صراعات وتناقضات عديدة من جراء هذا التغير الثقافي، الذي يؤدي في أغلب الأحيان إلى تناشز اجتماعي بين المجددين والمحافظين، وصراع اجتماعي بين الجيل الجديد والجيل القديم. فإذا حدث وأن اقتبس البعض عناصر ثقافية معينة من ثقافة أخرى، كما يفعل الجيل الجديد دوماً، فسوف يحدث صراعاً وتناشزاً اجتماعياً، غير أن هذا الصراع قد يضعف أو يتلاشى إذا تقبّل الأفراد العناصر الثقافية الفرعية وأصبحت جزءًا من عاداتهم وقيمهم، وبدون ذلك لا يمكن أن تحدث عمليات تغير وتغيير اجتماعية.
وبصورة عامة فإن كل ثقافة لها القدرة على المحافظة على بقائها العضوي لأنها نظام يتصف بـ»التكامل» و»الاكتفاء الذاتي»، بمعنى أنها تحوي طاقات أساسية تساعدها على إدامة وجودها واستمرارها اعتماداً على مقوماتها الداخلية والظروف الموضوعية التي تحيط بها.
وقد أكدت الدراسات في علم النفس الاجتماعي بأن لكل حضارة نمط ثقافي رئيسي واحد يكون المحور الذي تدور حوله جميع نشاطات الأفراد ويطبع شخصياتهم بسمات معينة، إلى جانب أنماط ثقافية فرعية أخرى. وإن التكامل الثقافي في أي مجتمع يبين لنا بوضوح تأثير الثقافة على نمط التفكير والعمل والسلوك، وبالتالي على سمات وخصائص الشخصية الثقافية.
ومن الناحية السوسيولوجية فإن الإنسان يكتسب من خلال خبرته وتجاربه الاجتماعية قيم ومعايير المجتمع الذي يعيش فيه ويتكّيف معها. فالطفل العربي مثلاً سوف يكوّن مجموعة من الخبرات عن نمو ذاته تكون مختلفة تماما عن تلك التي يكوّنها طفل أوروبي أو هندي أو أفريقي، فكل فرد منا لا ينمو فقط في ثقافة معينة أو ثقافة فرعية خاصة، بل وتكون له جماعة خاصة تكون وحدة اجتماعية يكتسب منها قيمها ومعاييرها وأسلوب حياتها.
إن طرائق التفكير والعمل والسلوك وأساليب الإنتاج الاقتصادية ونوعية العلاقات الاجتماعية وكذلك منظومة القيم والمعايير الاجتماعية والدينية والقوانين العرفية والوضعية التي تنظم شؤون الحياة تساعدنا على معرفة عملية التفاعل بين الثقافة والشخصية. فإذا كانت الثقافة تتطلب الامتثال والطاعة في المجتمعات الأبوية، فسوف تؤثر على شخصية الفرد وتقوّي عنده الميل نحو الخوف والتردد والخضوع، وإذا كانت الثقافة تتطلب القوة والسيطرة فسوف يقوى عنده الميل إلى التسلط واتخاذ قرارات حاسمة وبدون تردد، أما إذا كانت الثقافة تتطلب التمهل والاعتدال فسوف تميل القرارات نحو التعقل والتوازن بين الأمور.
ولكن إذا اعتبرنا أن القيم المركزية للشخصية العربية كالشرف والعفّة والمروءة والكرم والسمعة الحسنة وغيرها من القيم الأخلاقية التي تقف في الصدارة، تتوّلد لدينا صعوبات تكمن في تحليل مضامين هذه القيم الاجتماعية وارتباطاتها بالمنظومات القرابية والدينية والتعليمية، وذلك لأن فاعلية هذه القيم لا تظهر إلا في سياق تفاعلها الاجتماعي وفي طرائق التعبير عنها في الحياة اليومية وفي انعكاساتها في سلوك الأفراد ومواقفهم وكذلك في اختلاف أهمية هذه القيم ونسبيتها في الزمان والمكان. فالشجاعة والمروءة والكرم لها فاعلية أقوى في المجتمع الريفي منه في مجتمع المدينة. أما في المدينة فقد تأخذ القيم الثقافية أساليب ومعاني أخرى في التعبير عن طريق إعادة تشكيلها وتحويرها أو تكيّفها وفق العلاقات الاجتماعية السائدة.