الثالوث المُبَجَّل

(ثقافات)

* حاتم السروي

تعود القراءة الآن لتأخذ مكانها ومكانتها؛ فهي أفضل وسيلة للمتعة الهادفة، وقضاء الوقت فيما يفيد، والحصول على ثقافة عميقة عبر المعارف والمعاني والأفكار التي تتمكن من الذاكرة فلا تفارقها إلا بعد حين. ولا يزال الكتاب الورقي له أهميته ومنزلته؛ لأنه سهلٌ جدًا، فهو متاح ولا يحتاج إلى شبكة انترنت، ومن حيث قراءته فهو يمنح المتلقي فرصته كاملة لقراءة السطور والفصول والأبواب دون الشعور بالملل الذي قد يصاحب القراءة الإلكترونية، ورغم ذلك فللمواقع الإلكترونية أهميتها الواضحة وهي الأسرع انتشاراً والأقرب إلى خدمة الثقافة في زمن الرقمنة. والدافع لي للكتابة الآن هو أنني وجدت القراءة – وقراءة الأدب تحديدًا- هي خير وسيلة للترويح عن النفس في ظل ضغوطات الحياة المتوالية والمتراكمة، وقد يستغرب البعض من هذا، كما قد يستغربون من العودة إلى الكلاسيكية، ولكن لم العجب؟ فالقديم لم ولن يفقد رونقه وسوف يبقى موردًا لعشاق الأصالة وزادًا لمحبي الأدب، ومتعته لا يتخطاها الزمان ولا يحدها المكان. وعنوان المقالة كما ترون ” ثلاثي الفن والفكر والكلاسيكية ” وهو لا يتحدث عن الفن ولا عن الفكر ولا حتى الكلاسيكية! وإنما يتحدث عن ثلاثة كُتَّاب تجسد فيهم وبهم كلٌ من الفن والفكر والكلاسيكية، وأعني بهم ” جورج برنارد شو ” و “فيكتور هوجو” و”هنريك إيبسن “. فأولهم وهو الكاتب الإنجليزي ” جورج برنارد شو ” كان ولا يزال من أعظم الكتاب، وذلك وصف لا نلقيه جزافًا ولسنا مغرمين بالأوصاف المجانية ولا بالمديح الأجوف، ولكن برنارد شو يستحق، لأنه ليس مجرد ” مؤلف ” بل هو بالأحرى ” فيلسوف “. وتكمن قيمته في القدرة على وصف المجتمع الإنجليزي وتشخيص أمراضه بشكل تفوق فيه على معاصريه وربما على من سبقوه أيضا، وكان “شو” جريئًا في نقده، لاذعًا في هجومه على أمراض مجتمعه، وربما تعود جرأته إلى دمائه الأيرلندية؛ فقد عهدنا الأيرلنديين ونحن نقرأ ملاحمهم القومية في كتب التاريخ الأوروبي وهم يحبون الحرية ويحبون النضال من أجلها. وكم تعرض جورج لحملات من النقد الجارح والهجوم الذي يقترب من السباب إن لم يكن قد وصل إليه فعلاً، ومع ذلك ازداد الإنجليز أنفسهم إقبالاً على منتجه واعتزازًا بأدبه.. وكان أديبنا دائمًا يلقي بهذا التصريح: ” لست أحفل بغير الحقائق الواقعية القائمة، إن المثالية ليست سوى اسم من أسماء البراقة التي يتم خلعها على الخيال في مِضْمَارَيْ السياسة والأخلاق؛ فأنا لا أقنع بالمبادئ الخلقية الوهمية، ولا أخلع جمالاً زائفًا على اللصوصية والتجويع والجريمة والعربدة والحرب والقسوة، وغيرها من المعالم العامة للحضارة الآن؛ تلك المعالم التي تدفع الناس إلى المسرح ينشدون فيه خداعًا أحمقًا يصور لهم تلك الأشياء الواقعية في ثياب التقدم والعلم والدين والوطنية والعظمة القومية والتفوق الاستعماري، وما إلى ذلك من أسماء تبتدع لإخفاء الواقع”. وفي مسرحيته ” رجل الأقدار” يقدم (شو) نقده المرير ليس للإنجليز فقط وإنما للفرنسيين أيضا، وهو يضرب الاستعمار بسياط العبارة، ويقدم لنا الفاتح “نابليون بونابرت” في ثوب الحقيقة العارية؛ فهو المؤلف الفاشل أولا، وهو أيضًا الموظف المهان الذي يتم زجره وصفعه، وهو بعد ذلك ضابط لا يجاريه أحد في سلوكه الأناني وانعدام أمانته. نعم، كان بونابرت لديه جلد غير عادي في العمل، وإدراك واقعي لطبيعة البشر في موضوعات الحياة، وفوق هذا كان واسع الخيال بلا أوهام، بل وكان مبدعًا، وانتفت منه – لظروف نشأته الفقيرة وسوء حظه العجيب وإخفاقاته المتكررة- صفة الغرور، وكل ما سبق لا يشفع ولا ينفع، ذلك أنه بلا عقيدة، بلا وطنية، وبلا ولاء، وهو لا يعرف إلا القتل الشامل والتدمير الكامل، وبهذا وحده انتصر. لقد جعلته ظروفه التعيسة نموذجاً لا يبارى في قسوته، واضطرته إلى إدراك أن الدنيا لا تعطي أمثاله شيئًا ما لم ينتزعوه بالقوة، وربما بالتلوي مثل الأفاعي، وتقديم المنافع إلى أصحاب المسئولية، حتى لو اضطر إلى استغلال جمال زوجته لإغواء المديرين. ونحن مع هذا لا نجحد عبقريته، ولكن هل أفادته عبقريته وهو ملقى كخرقة مهملة في منفاه بعد الهزيمة؟؟ لقد خاض حروباً ضد أوروبا وانتصر، ثم هزمته بريطانيا، وكانت نهايته أن يموت وحيدًا مغتربا. أما بطلنا الثاني فهو الراحل “فيكتور هوجو”، الكاتب الفرنسي الشهير، صاحب رواية “البوساء” و “أحدب نوتردام”، إنه عاشق الحرية وكاره العدوان، وصاحب القلم الذي نافح عن القيم طوال تسعة وخمسين عاما، هي المدة بين كتابه الأول وهو في سن العشرين وكتابه الأخير وهو في بداية الثمانين، وللعجب كان كلاهما “ديوان شعر”. وهذا الشاعر إضافةً إلى حسه المرهف كان ذهنه حاضرا ومعينه وافرا وموهبته مطواعة؛ ونجاحه في البدايات لازمه طوال مسيرته الإبداعية ولم يخفت نوره أو تبهت ملامحه وهو في الثمانين من عمره. والفترة بين ديوانه الشعري الأول وديوانه الشعري الأخير شهدت مجده وتألقه كمؤلف مسرحي في شبابه، ومؤلف روائي في كهولته، وكانت له مسرحية عنوانها ” الملك يلهو ” وأخرى بعنوان “هرناني” وقد تم عرضهما على المسرح قبل بلوغه الثلاثين. وفي عام 1882 احتفلت فرنسا كلها بمرور خمسين عاما على إصدار مسرحيته “هرناني” وهي التي لاقت حظوة عند الفرنسيين وتنعمت بالخلود كما تنعم صاحبها بالاحترام والمحبة من كل مواطنيه ومن قراءه خارج فرنسا أيضًا. أما ثالث الشخصيات التي نلقي عليها الضوء هاهنا فهو الأديب العالمي “هنريك إيبسن” ومن إيبسن؟ كاتب مسرحي من النرويج، وأحد أساطين المسرح في العصر الحديث، وقد ولد في 20 مارس 1828م، وكان أبوه تاجرًا ثريا، وعندما بلغ هنريك الصبي ثماني سنوات أفلست تجارة أبيه، وعاش مع أسرته في فقرٍ جميل، فقر يخلق الشقاء، وشقاء يلد العباقرة. التحق إيبسن بالعمل في صيدلية وهو في سن الخامسة عشرة، لكن الصيدلة لم تشبع رغباته ولم يجد فيها ميوله؛ فوضع همه في مطالعة الكتب ونظم الأشعار، وبَدَا أبلهًا سفيها، ولم يدر السفهاء من الناس، أن هذا الفتى الذي همه نظم القصائد سوف نذكره ويذكره عشاق الأدب رغم أنه من كتاب القرن التاسع عشر، وقد مرت على ولادته 192 سنة!. وبعد انضمامه إلى دنيا المثقفين بسبع سنوات وأثناء طلبه للعلم مثل المُشَخِّصُون مسرحيته الأولى وكان عمره 22 سنة فقط؛ فأي مجدٍ هذا؟ وفي العام التالي تم تعيينه في أحد المسارح بمدينة (برجن) مخرجًا مسرحيا ومؤلفا ومديرًا فنيا ومصممًا للمناظر في وقتٍ واحد!. وعلى مدى ثلاثة عشر عامًا بعد هذا الفتح قدم إيبسن العديد من الروايات ذات الموضوعات الوطنية، على أنه غادر وطنه سنة 1864 ليعيش سبعة وعشرين سنة كاملة متنقلاً بين روما و ميونيخ ودريسدين، وفي تلك الحقبة كتب للمسرح رواياته الإنسانية الخالدة: “بيت الدمية”، “الأشباح”، “أعمدة المجتمع”، “عدو الشعب”، “البطة المتوحشة”، “سيدة من البحر”، “البناء الأعظم”، و”هيدا جابلر” وتغلب على هذه الروايات فكرة تدعيم شخصية الفرد في مواجهة سطوة الجماعة، كما أن فيها انتصارًا لمفهوم الحب؛ فهي لذلك رومانسية أيضًا. وفي عام 1891 عاد أخيرًا إلى وطنه النرويج وقضى آخر خمسة عشر عامًا من عمره قبل تراجع صحته الجسدية وقواه الذهنية مما أدى به إلى العزلة والانقطاع حتى عن أسرته ثم توفي إيبسن بعد أن ملأ الدنيا بكتاباته الخالدة.

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *