زيغمونت باومان Zygmunt Bauman ( الذي توفّى قبل بضعة أسابيع ) هو من غير شكّ واحد من أكثر علماء الإجتماع تأثيراً على مستوى القارة الأوربية وعلى مستوى العالم كذلك ، وتشتمل قائمة كتبه – التي تُقرَأ في كل القارات – نحواً من ستين كتاباً واظب على نشرها بمثابرة واضحة منذ أن تقاعد عام 1990 من عمله أستاذاً لعلم الإجتماع في جامعة ليدز البريطانية – ذلك الموقع الذي شغله على نحو مستمر لما يقارب الثلاثة عقود .
يُعرف عن باومان نحتُهُ لمفردة الحداثة السائلة LiquidModernity التي تشير إلى الحالة المعاصرة لمجتمعنا الإنساني مع كل التحولات التي طالت أوجه الحياة فيه بطريقة غير مسبوقة : الحب ، العمل ، المجتمع ، السياسة ، السلطة ، المراقبة المجتمعية ، الهجرة ،،،، ، وتناول باومان في دراساته طيفاً واسعاً من الموضوعات تمتدّ من العلاقات الحميمة إلى العولمة ، ومن تلفزيون الواقع إلى حقيقة الهولوكوست ، ومن النزعة الإستهلاكية الطاغية إلى الجماعة البشرية ، وقد توسّع باومان في كل دراساته تلك وجعلها تمتد خارج نطاق تخصّصه في الدراسات المجتمعية باتجاه حقول معرفية أخرى وبخاصة الفلسفة والسايكولوجيا .
وُلد باومان عام 1925 لعائلة يهودية فقيرة في مدينة ( بوزنان ) البولندية ، وحصل أن كانت عائلته هي العائلة الأخيرة التي إستطاعت اللحاق بالقطار المغادر إلى روسيا السوفييتية عقب الغزو الهتلري لبولندا في أيلول 1939 ؛ وبذلك أفلتت عائلته من مصير مرعب كان سيحل بها بالتأكيد على يد السلطات النازية . صار بومان ماركسياً بعد وصول عائلته إلى الإتحاد السوفييتي وقاتل في صفوف الجيش الأحمر ، وبعد أن عاد إلى بلده بولندا خدم كضابط سياسي في قوات الأمن التي عُهِد لها مطاردة معارضي النظام ، ثم خدم بعدها في صفوف الإستخبارات العسكرية السرية حتى عام 1953 . ترك باومان صفوف الحزب الشيوعي البولندي ؛ الأمر الذي تسبب بخسارته لمنصبه كأستاذ في جامعة وارشو عام 1968 ، ثم إنتهى المطاف به مهاجراً إلى بريطانيا حيث أصبح أستاذاً في جامعة ليدز حتى تقاعده أوائل تسعينات القرن الماضي .
( الثعلب يعرف الكثير من الأمور ؛ أما القنفذ فيعرف أمراً واحداً كبيراً ) : هذا ماقاله مرة الشاعر الإغريقي آركيلوكوس ؛ لذا ، وفي هذا السياق ، فإن باومان يمكن أن يُعدّ قنفذاً وثعلباً في الوقت ذاته طبقاً للتصنيف الشهير للكُتّاب والمفكرين الذي بشّر به ( إشيا برلين ) ودعمه طول حياته : باومان ليس رجل تفاصيل أو إحصائيات أو مسوحات أو حقائق صلبة أو إستطرادات معرفية ؛ بل هو أقرب إلى رسّام يرسم بفرشاة عريضة على لوحة كانفاس مثيراً النقاشات والمناظرات المحتدمة مع إقتراحه لإفتراضات جديدة غير مسبوقة ، ومع هذا الطيف المنظوري الواسع لأعماله فليس ثمة حقل – تقريباً – في ميدان الإنسانيات أو العلوم الإجتماعية لم يقل فيها باومان كلمته أو يكتب شيئاً بشأنها ، وقد قال هو ذاته يوماً وهو يصف حياته : ” قضيت حياتي كلها في تدوير المعلومات ودراستها ” .
في منتصف وآواخر التسعينات من القرن الماضي إتّخذت كتب بومان منحىً آخر وبدأ يتحدث عن موضوعين منفصلين لكن ثمة علاقة بينهما : الإستهلاك وما بعد الحداثة . يتحدث بومان عن تحول المجتمع في أواخر القرن العشرين من مجتمع منتج إلى مجتمع مستهلك – هذا التحول ( كما يرى بومان وعلى عكس ما قال به فرويد ) ناجمٌ عن مقايضة التطور : عُطّلت الحماية من أجل الإستمتاع بأقصى درجات الحرية – حرية الإستهلاك ، حرية الإستمتاع بالحياة . كتب بومان في كتبه ( أوائل تسعينات القرن الماضي ) عن هذا التحول من الحداثة إلى ما بعد الحداثة ، ومع دخول الألفية الجديدة لوحظ أن بومان يحاول تجنّب الفوضى المحيطة بمصطلح ( ما بعد الحداثة ) بأن يستخدم مجازًا الحداثة الصلبة والحداثة السائلة .
توفى باومان في منزله بمدينة ليدز يوم 9 كانون ثان ( يناير ) 2017 ، وقد نشر العشرات من الكتب والبحوث ، ويمكن أن نشير إلى الكتب التالية التي لقيت شهرة عالمية واسعة ( وقد تُرجِم بعضها إلى العربية ) :
– الحداثة والإزدواجية ، 1991 .
–Modernity and Ambivalence , 1991
–النتائج الإنسانية للعولمة ، 1998
– Globalization: The Human Consequences , 1998
– الحداثة السائلة ، 2000
– Liquid Modernity , 2000
– الحب السائل : في هشاشة العلاقات الإنسانية ، 2003
–Liquid Love: On the Frailty of Human Bonds , 2003
– الحياة السائلة ، 2005
– Liquid Life , 2005
– أزمان سائلة : العيش في عصر اللايقين ، 2006
– Liquid Times: Living in an Age of Uncertainty , 2006
– فنّ الحياة ، 2008
– The Art of Life , 2008
– الثقافة في عالم سائل حديث ، 2011
–Culture in a Liquid Modern World , 2011
– غرباء على بابنا ، 2016
– Strangers at Our Door , 2016
الحوار التالي منشور أصلاً بالألمانية في مجلة Das Magazinوكذلك بالإنكليزية في مطبوعة 032c( العدد 29 المنشور في مطلع 2016 ) ، ويُلاحظ في هذا الحوار توزّعه على معظم المحاور التي عمل عليها باومان في كتاباته الكثيرة ؛ الأمر الذي يجعل من هذا الحوار ذا أهمية إستثنائية في معرفة الخطوط العامة لفكر باومان لمن لم يقرأ أعماله الأصلية .
مهّد المحاور ( بيتر هافنر ) لحواره المعمّق مع باومان بهذه العبارات التقديمية التي تصف شيئاً من صفات باومان الشخصية :
( … لم يفقد باومان وهو بعمر التاسعة والثمانين أي قدر من شغفه المعهود بالقضايا العالمية المهمة ، ولايزال قادراً على إدهاش زائريه وبثّ الفكاهة بينهم من خلال العديد من النكات ( الفاحشة ! ) التي تتقاطع تماماً مع الأجواء الكئيبة التي توحي بها رؤيته للمستقبل في ثنايا كتبه العديدة . يلحُّ باومان – كأي أوربي شرقيّ حتى النخاع – على ضيوفه بأن يتناولوا فطائر الفراولة ، والحلويات ، وثمار العنب الموضوعة على طاولة القهوة أمامه والمحاطة ب02أعمدة من الكتب . جلس باومان على مقعده ( الذي بَلِي جلده ) والغليون في يده ، وراح يأخذ كفايته من الوقت في الإجابة على أسئلتنا – تلك الإجابات التي نحتاج إليها كثيراً لأننا نريد أن نعرف ماالذي تعنيه الحياة ؟ ) .
المترجمة
المحور الأول : الحبّ
* بروفسور باومان ، دعنا نبدأ مع الأمر الأكثر أهمية في حياتنا : الحب . تقول دوماً أننا بتنا ننسى كيف نحبّ . ما الذي دفعك لهذا الإستنتاج ؟
– إن نمط إيجاد شريك على الشبكة العالمية ( الإنترنت ) بات شيئاً مماثلاً لنمط التسوّق الألكتروني . أنا شخصياً لاأحبذ الذهاب إلى المحلات بنفسي بل أشتري معظم الأشياء عبر التسوق الالكتروني : الكتب ، الأفلام ، الملابس . إذا ماأراد أحدٌ ما شريكاً فإن مواقع المواعدة الألكترونية ستُريه قائمة ( كاتالوغاً catalog ) – وهنا يكمن ماأريد قوله فيما يخصّ سؤالك : نمط العلاقات بين المستهلكين والبضائع صار مماثلاً تماماً لنمط العلاقات بين الشركاء الإنسانيين ! .
* كيف يختلف هذا الأمر مع الأزمان السابقة حيث كان الشركاء المستقبليون يلتقون ببعضهم في الأسواق الخيرية القروية أو الإحتفالات المدينية ؟
– المواعدة الألكترونية تنطوي على محاولة لتعريف الخواص الإستثنائية المميزة التي تعكس بأفضل مايمكن توق الشريك المنتظر ورغباته ؛ إذ في العادة يتم إختيار الشركاء المرشّحين تبعاً لإعتبارات الشّعر ، أو لون الجلد ، أو الطول ، أو الشكل العام ، أو حجم الصدر ، أو العمر ، أو الرغبات والهوايات ، أو الأمور المحبوبة والممقوتة . إن الفكرة الكامنة وراء هذه الإعتبارات هي أنّ الشخص المعنيّ بالحبّ ( أي الشريك المفترض ) يمكن تجميعه من جملة مواصفات جسدية أو إجتماعية قابلة للقياس ، وفي خضمّ تلك العملية يتمّ نسيان البعد الأكثر أهمية بين كل هذه الإعتبارات – الشخصية الإنسانية ذاتها .
* ولكن حتى لو تمّ الحصول على تعريف كامل للصورة المثالية لمن نريده شريكاً فإن كل شيء يبقى عرضة للتغيير متى ماتقابلنا مع ذلك الشريك وعرفناه عن قرب ، وحينئذ يمكن القول أن ذلك الشريك هو أكبر بكثير من مجموع صفاته الخارجية ( التي تقيسها تلك الإعتبارات ) ؟
– الخطورة العظمى في ذلك النمط من العلاقات هي أنها باتت تتماثل مع الطريقة التي نتعامل بها مع الموجودات الدنيوية التي ننتظر من ورائها منفعة مؤكدة : نحن في العادة – مثلاً – لانتعهّد بتكريس شغفنا الكامل بكرسيّ ما ؛ إذ ليس ثمة من مسوّغ يجعلني أتعهّد بإبقاء ذلك الكرسي في عهدتي حتى يوم مماتي ، ومايحصل في العادة هو أنني متى مالم يعد الكرسي ملائماً لي فإنني أبتاعُ واحداً غيره . تلك ليست بالعملية الواعية بل صارت الطريقة التي تعلّمنا أن نتعامل بها مع العالم والكائنات الإنسانية الأخرى .
* أراك تريد القول أن الشركاء ينفصلون عن بعضهم قبل أن تنضج علاقة الحب بينهم ؟
– نحن ننغمر في أجواء العلاقات لأنها تَعِدُنا بالرضا والسعادة ، وعندما نشعر أن شريكاً جديداً يمكن أن يكون مصدر سعادة ورضا أعظم من شريك قبله فإننا نبطل علاقتنا القديمة لنخوض واحدة جديدة . لنلاحظ أن البدء بعلاقة جديدة يتطلّب موافقة شريكين ؛ في حين أن فضّ شراكة قائمة يتطلّب رغبة شريك واحد فحسب ، وبالنتيجة سيعيش الشريكان في خوف دائم من إمكانية إقدام الشريك المقابل على فض الشراكة من جانبه ورميه جانباً مثل سترة عتيقة باتت لاتتلاءم مع الموضة السائدة .
* وهذا خطلٌ في النظرة المفاهيمية السائدة كما أوضحتَ ذلك في كتابك ( الحبّ السائل ) : كتابك المختصّ بالصداقة والعلاقات ؟
– تلك هي معضلة الحب السائل : نحتاج في العادة – خلال الأوقات العصيبة – الأصدقاء والشّركاء الذين لن يخذلونا ولن يجعلونا نسقط أرضاً منكفئين على وجوهنا ، والذين سيقفون بجانبنا وقت الحاجة دوماً . إن الرغبة في الإستقرارية والتماسك واحدة من أهم الرغبات في الحياة ، وإن قيمة الستة عشر بليوناً ( من الدولارات ) التي يُقدّر بها موقع الفيسبوك Facebook منبثقة من حاجتنا لئلّا نبقى وحيدين ، ولكن من جانب آخر نحن نفزع من الشعور بالإلتزام تجاه أي فرد بما يجعلنا مقيّدين به والخوف يتلبّسنا من إمكانية فضّ علاقته بنا ( في أي وقت يختاره هو لانحن ) . نتوق إلى ملاذ آمن لنا في الوقت الذي نريد أن نبقى أحراراً تماماً من كل إعتبارات مقيّدة .
* نعرف أنك بقيت متزوجاً بإمرأة واحدة ( جانينا ليوينسن ) لستّين عاماً وحتى توفيت عام 2009 . ماالذي يصنع الحب الحقيقي حسب رأيك ؟
– أرى الحب الحقيقي في الحقائق التالية : المتعة المُراوِغة ( والطاغية أيضاً ) لِـ ( أنتَ و أنا ) عندما يصبحان واحداً ، السعادة العظمى التي تغمر بها حياة شريكك وتصنع علامة فارقة في حياته حتى لو كان صنيعك لايعني الشيء الكثير لك أنت ، أن يشعر شريكك دوماً بأنك موضع حاجته الدائمة وأن مامِن بديل لك في حياته – هذه كلها أمور تبعث البهجة المنعشة في نفس المُحِبّين ، وهي أمور عصية على التحقق عندما نكون غارقين في حدود أنوياتنا الذاتية المعزولة التي تتحرّك طبقاً لدوافع مصالحنا الشخصية وحسب .
_______