استطاعت أن تغزو العالم العربي بمؤلَّفاتها ورواياتها المتحرِّرة من كلّ القيود. الكاتبة التركية «إليف شافاق» التي تُترجم أعمالها باستمرار إلى عدّة لغات، تحلِّق فوق مدن العالم، بشهرة كبيرة؛ تخرج من وطنها وتعود إليه في كل رواية…التقينا بها لتفتح لنا صندوق حكايتها، حصرياً عبر هذا الحوار الخاصّ بمجلّة «الدوحة».
في البداية، نحبّ أن نرحِّب بك، ونعود، بالزمن، إلى الوراء، حينما كنتِ طفلة، وكانت والدتك تعمل في الحقل الدبلوماسي، وتتنقَّلون كثيراً من بلد إلى آخر. أخبرينا: كيف أثَّر ذلك في طفولتك، وفي انتمائك إلى بلدك؟
– لقد نشأت طفلة وحيدة لوالدي ووالدتي، ولم يكن لي أشقّاء، ولم أكن، آنذاك، أحبّ الألعاب العاديّة. كانت نشأتي، إلى جانب والدتي، وبحكم عملها الدبلوماسي، غريبة إلى حَدّ كبير، فكنت أميل إلى الكتابة كثيراً، ونظراً لتنقُّلها المستمرّ، من بلد إلى آخر، وجدت صعوبات عديدة بسبب اللّغة، فلم أكن أفهم لغة الشارع والنكات والأمثلة؛ فمثلاً عندما ذهبت إلى أسبانيا، وكان عمري أحد عشر عاماً، وجدت -رغم صغر سنّي- أنني لابدّ أن أتعلَّم العديد من اللّغات، و-على الرغم من بعدي عن تركيا، في تلك الفترة- أردت تعلُّم اللّغة التركية، فأتقنتها، في ذلك الحين، قراءةً وكتابةً، وقد ساعدتني أميّ -بالطبع، على ذلك، وأتذكَّر جيِّداً أن أولى العبارات والكلمات التي عرفتها كانت كلمات الترحيب بالآخر، ولم يؤثِّر بعدي عن تركيا في عشقي لها، وقد تأثَّرت كتاباتي بالحياة هناك، دائماً.
قبل أن نستمرّ في طرح الأسئلة، نودّ معرفة شيء خاصّ؛ ما هو آخر خبر جميل تلقَّيتِه، أو تنتظرينه، عمّا قريب؟
– آخر خبر جيِّد لي هو الأصداء الجيِّدة والناجحة التي حقَّقَتها روايتي الجديدة «بنات حوّاء الثلاث» ، فأنا أعتبر أن مؤلَّفاتي هم أبنائي، وأكون سعيدة، للغاية، بعد ميلاد كلّ رواية، وخروجها إلى النور والقرّاء، وخاصّةً عندما تحقِّق نجاحاً بترجمات ولغات عديدة.
لا شك في أن الاحتكاك بتعدُّد الثقافات، وتشابكها، هو نتيجة حتمية لهذا التنقَّل، وهو ما يغني -أيضاً- المعرفة والخبرة الإنسانية في الحياة. كيف تواجهين كلّ هذا، في أثناء البحث عن أسلوبك الخاصّ في الكتابة، سواء على مستوى اللّغة والمضامين الثّقافيّة؛ ففي المقابل، هناك خطر الوقوع في فقدان الخصوصية المحلِّية التي هي الأدب الحقيقي، في النهاية؟ أليس كذلك؟
– لقد عشت في عدّة بلدان، وعشت في إسبانيا أربع سنوات، قبل أن أعود إلى أنقرة. وحينها، كنت أتعلَّم التركية، ولم يكن لي أصدقاء أتراك هناك، وقد اكتسبت -بالطبع- خبرة في الحياة من الناس، من هنا وهناك، و-بالفعل- دخلت إلى ثقافات مختلفة، تماماً، عن المجتمع التركي، لكنني استطعت أن أحافظ على هويَّتي التركية، وكان لوالدتي دور كبير في ذلك، ويتَّضح ذلك في مؤلَّفاتي. ربَّما كان الأمر صعباً قليلاً إلّا أنني فخورة بأنني نجحت في ذلك، لكنني لا أنكر أن الفترة التي عشتها في أسبانيا، قد أثَّرت فيَّ؛ بأن أصبحت أكثر حدّة، مع القليل من القسوة، على عكس ما كنت عليه، عندما انتقلنا للعيش هناك.
يتعامل القرّاء مع روايتك «حليب أسود»، باعتبارها سيرتك الشخصية الحقيقية. لكن، لنفترض أن مساحات الخيال لا مفرَّ منها، فهل تكفي قراءة هذا العمل لنتعرَّف إلى سيرة «إليف شافاق»، كما وقعت، أم أن مساحات الخيال، في الرواية، هي أهمّ الوقائع التي عايشتها، بالفعل؟
– الوقائع، في تلك الرواية، أكبر من مساحة الخيال، وتمثِّل شطراً كبيراً من حياتي التي تغيَّرت -فجأًة- بعد أن وقعت في الحبّ، وتزوَّجت، ثم أنجبت ابنتي «زيلدا»، والاكتئاب الذي تملَّكني بعد ذلك، أنا التي كنت أرفض فكرة الزواج، وكنت أرى أن مؤلَّفاتي هي أبنائي، وحبيبي هو القلم، لكن المرأة لا تدري متى ستقع في الحبّ، ولا تدري -أيضاً- ما الذي يمكن أن يفعله هذا الحبّ في حياتها.
تسرد رواية «حليب أسود» فترة ما قبل ولادتي لابنتي، وما بعدها، وهي فرصة جيِّدة لكل من يريد أن يبحث عن ذاته، ويكتشف نفسه، بشكل جيِّد، وغالباً ما تبحث المرأة عن عدّة شخصيات بداخلها، إلى أن تكتشف ذاتها الحقيقية التي تمثِّلها فعليّاً. وأريد أن أضيف أنني بحثت، يوماً، عن الاستقلال الذاتي، ثمَّ عن تكوين أسرة، ولاغنى للمرأة عن الأمرين سويّاً؛ لكي تشعر بقيمة ذاتها، على هذين المستويين، وتظلّ المرأة -بفطرتها- تبحث عن الأمومة.
ثمّة سؤال، تبدو الإجابة عنه صعبة، على المستوى العملي، يتعلَّق بروايتَيْن، هما «لقيطة إسطنبول»، و«شرف»؛ ففي الروايتين، هناك عودة إلى الذاكرة الجريحة، الماضي الذي لم يتمّ تصفيته والمصالحة معه. إذا كنّا نتَّفق على أن الجمال والقيم النبيلة من بين ما يبرز، بشكل عظيم، في مرآة الأدب، فهل يمكن للأدب -في رأيك- أن يسهم في تحقيق المصالحة مع الماضي، والصفح والنسيان؟ وإذا أمكنه ذلك، فكيف؟
– مع الأسف، لا يوجد مصالحة مع الماضي، فالماضي حزين وكئيب ومؤلم. لكن، لابدّ أن نعرف الكثير والمزيد عن الماضي، خاصّةً أن الأمَّهات والجدَّات هنّ مَنْ ينقلن الماضي إلى الأجيال الحديثة، وكُلّ بحسب هواه.. وأنا أردت أن أصل الماضي بالحاضر، للقرّاء، وأرى أن دور الأدب الرئيسي يتجلّى عندما يكون حرّاً، ويعطي دروساً، ويبرز حقائق للقرّاء وللعالم.
يتَّضح المنحى الصوفي في أكثر من روايةً؛ بدايةً من «الصوفي» مروراً بـ«مرايا المدينة»، وصولاً إلى «قواعد العشق الأربعون»؛ الرواية الأشهر عند القارئ العربي… إلى حدٍّ ما، يمكن طرح سؤال مركَّب، في هذا الصدد، الشقّ الأوَّل منه: ما جدوى انحيازك إلى الثّقافة الصوفية، في عصر، تهيمن عليه ثقافة المادِّيّات و(البريستيج) وكلّ أمراض الاستهلاك: المنطقية، وغير المنطقية. والشقّ الثاني فيرتبط بالاغتراب الذي يعيشه شباب اليوم، والذي مردُّه -كما يرى علماء الاجتماع والنفس- إلى العولمة وأنماط التواصل القائمة على التقنيات الحديثة.. بالنسبة إليك، ألا تُعتَبر العودة إلى عالم التصوُّف نوعاً من الهروب من الواقع ومواجهته، مثلما كان يفعل أنصار الهيبيزم، في السبعينات؟
– الصوفية مصدر إلهامي، منذ روايتي الأولى «بينهان». والقرّاء الذين تابعوني، منذ بدايتي، يعرفون ذلك جيِّداً. أنا قرأت كثيراً، ودرست التصوُّف جيِّداً، وعندما تصوَّفت وجدت أن هناك نافذة جديدة، تماماً، قد فُتحت في عقلي وقلبي، ورأيت الحياة بمنظور مختلف، ولم أنحَزْ إلى الصوفية، بل صارت جزءاً من قلبي وروحي. ليتنا جميعاً نهرب من الواقع إلى التصوُّف؛ فهذا مذاق خاصّ، لا يعرفه إلا المتصوِّفون.
هناك سؤال بديهي، في هذا السياق: هل من الضروري أن يكون للكاتب، اليوم، حياتان: الأولى شخصية متحفّظة، والثانية شخصية أدبيّة مُزَوَّقة بعناية، خاصّةً أننا في عصر الحياة الإلكترونية؟
– لابدَّ أن يعيش الكاتب الحياة التي اختارها لنفسه كأيّ إنسان عاديّ وإيجابي، وينشر الوعي الثقافي، والفكري بين القرّاء. وأؤكِّد أنني ضدّ أن يكون للكاتب (خاصّة) وللإنسان (عامّة) حياتان، وأنا ضدّ التحفُّظ، بشكل كبير؛ فلماذا لا يعرف القرّاء كاتبهم المفضَّل، بشخصيَّته الحقيقية؟.
«إليف شافاق»، لا تكتفي بالكتابة، بل تنخرط في أكثر من مجال: أنت عضو مؤسَّس في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية (ECFR)، وعضو في مجلس الأجندة العالمية في المنتدى الاقتصادي العالمي المعنيّ بدور الفنون في المجتمع، وعضو في لجنة التحكيم لجائزة القصّة القصيرة في صحيفة «سنداي تايمز» عام (2014)، وسفيرة العمل الثّقافي في أوروبا عام (2010)، والمبعوثة الخاصّة لبرنامج «الجسور الثّقافيّة» التركي-الأوروبي عام (2010)، كما مُنِحت فخريّة «Chevalier» للفنون والآداب، في العام نفسه، كما كنتِ عضواً في لجنة جائزة «الإنديبندنت» لأدب الخيال الأجنبي، عام (2013)، وأنت -أيضاً- شخصية نشِطة في مواقع التواصل الاجتماعي، ولديك متابعون كثُر على «تويتر»، علاوةً على أنك متحدِّثة في موقع (Ted).
– نعم. وإنه من دواعي سروري أن أساهم في تلك الأنشطة، وأنضمَّ إلى تلك المنصّات. وأنا أعتقد أن الكاتب أو الشخصية العامّة لابدّ أن يكون لها حضور في الأنشطة العامّة، ومشاركة في كلّ المجالات المتاحة، وأن يكون ذلك الكاتب ملكاً لجمهوره، ويتواصل معهم، على أوسع نطاق.
لديك جمهور واسع من القرّاء العرب، من خلال الترجمة. كيف تصلك أصداء ترجمات رواياتك إلى اللّغة العربيّة؟
– بالطبع، كان لترجمة مؤلَّفاتي إلى اللّغة العربيّة الفضلُ في الانتشار والنجاح الذي حقَّقته في الوطن العربي، وكنت سعيدة، للغاية، لوصول مؤلَّفاتي إلى القرّاء العرب. على الرغم من أنني لا أجيد اللّغة العربيّة، أعرف أصداء نجاح مؤلَّفاتي، بواسطة دور النشر المسؤولة عن الترجمة والمبيعات في الوطن العربي، وأتمنّى أن أظلّ عند حُسْن ظنّ جمهوري وقرّائي، دائماً.
إذا كنت مشرفة على ورشة للكتابة الأدبيّة، ما الجملة التي ستتكرَّر كثيراً، على لسانك، كنصيحة أو توجيه للكُتّاب الشباب؟
– طالما أعجبني الكُتّاب الشباب، وأحبّ حماسهم كثيراً. لكن، لديَّ عدة نصائح لهم؛ أهمّها أن يحترموا عقل القارئ، ولابدَّ أن يعرفوا، تماماً، أن الكتاب الجيِّد ينجح، ويتبادله الأصدقاء، ويمكن الترويج أو التسويق له تلقائياً، من خلال العمل الجيِّد، وقد أصبح تداول الكتب أسهل بسبب (الإنترنت)، ولاأطيق الكاتب الذي يستخفّ بعقل القارئ، ويستصغره، بالإضافة إلى أنني أجد العديد من الكُتّاب الشباب أكثر تحفُّظاً، وأكثر انغلاقاً، وهذا ضدّ الإبداع؛ لذلك لا تجد أعمالهم الصدى المنتظَر.
-
عن الدوحة الثقافية