إليف شافاق: النساء الأقدر على سرد الحكايات


شاكر نوري

لا نسمع كثيراً عن روائيات تركيات كسرن قاعدة المحلية والقبوع خلف محيط وفي دائرة بلدهن، على مستوى الشهرة والممارسة. لكن اليف شافاق، حسب نقاد مبرزين، أفلحت في كسر تلك القاعدة، وتمكنت من إحداث ضجة كبيرة وصدى نوعي جعل إبداعاتها محط تقدير وتطلع من الجهات كافة في العالم، ذاك كونها لا تنفك تؤجج، بفعل موضوعاتها الأدبية، حمى نار النقاشات وتثير الجدل اللامنتهي، لتبقى دوماً، ورغم عيشها في الولايات المتحدة الأميركية، ابنة الشرق الأوسط، بهمومه وثقافته..

وكذا مرآة شفيفة تعكس الخبايا والتفاصيل في جنبات المعمورة، مترامية الأطراف، كافة.. منتصرة للحق ومحاربة أي وجه للظلم، ومتصدية بقلمها، خاصة للحيف الذي يحيق بالمرأة، أنى كان. ولا تمل إليف في السياق، من التأكيد، وفي أي من المحطات والمراحل في مسيرة حياتها وعملها.

كما فعلت في مقابلة لها منشورة بالطبعة الجديدة للرواية( 2013- الولايات المتحدة)، أنها ترفض وضع حياتها وابداعها في خانة محددة. وتشدد في الخصوص، على أنها تجد الرواية “ما يمثل القدرة على التجاوز، على أن تكون شخصاً آخر، يتخيل ويحلم.. ويرحل ويتحوّل”، مبينة أنها ترى النساء أعظم وأقدر من يقوم بمهمة القص والسرد، وكذا أن إلهامها معينه ومصدره، ما تسميه (الحكمة النسائية).

لا يخفت أو يتلاشى حضور إليف شافاق في رفدها ساحة الإبداع بروايات غرائبية مفعمة بجرعات التأمل والجدل. فمواعيدها مع روائع جديدة لا تنقطع. إلا أن روايتها “لقيطة اسطنبول”، كان لها نصيب الأسد، من الشعبية وكذا الإدانة من قبل الأوساط التركية المحافظة، من بين اعمالها كافة. ذلك لما تضمنته وعالجته وفق نهج سمته الجرأة ومزيج الواقعية والاحالات والاسقاطات.

واللافت في نهج وشخصية شافاق، تعبيرها المباشر والصريح عن اعتقادها وفكرها الرافض لأي قيود، وذلك في أي من المحافل.. في منافذ الإعلام أو في مضمون ابداعاتها الأدبية.

هل أثر انفصال والديك على حياتك ككاتبة؟

ولدتُ في فرنسا.. وعدتُ إلى تركيا مع أمي، بعد أن انفصلت عن أبي. وتكفلت والدتي بتربيتي، وهذا ترك أثراً عميقاً في شخصيتي وكتاباتي. ففي مجتمع بطريركي مثل تركيا، ليس من المألوف أن تتولى الأم تربية ابنتها في غياب العائلة الكبيرة. وفي التاسعة أو العاشرة من عمري عُيّنت أمي في السلك الدبلوماسي، وسافرنا معاً إلى مدريد وعمّان وكولونيا. وهكذا كانت العالمية رديفاً لطفولتي، ثم أصبحت خياراً شخصياً. لقد اخترتُ العيش بمفهوم العالمية، أشبه بحياة امرأة بدوية مرتحلة”.

“لقيطة اسطنبول” حكاية عائلتين وأربعة أجيال من النساء. ما طبيعة الإلهام الذي دفعك تكتبين عن هذا الحشد من الشخصيات النسائية؟

كنت على الدوام أشتبك مع قصص النساء الصامتات، التي تنتقل من جيل إلى آخر، من الأمهات إلى البنات. والنساء أعظم من يسرد القصص والحكايات. الثقافة الشفاهية والحكمة النسائية هما مصدر الالهام. وكذلك فإن طفولتي مصدر الهام أيضاً. لم أترب في ظروف العائلة الأبوية التركية التقليدية. فقد ربتني أمي بمفردها. وأمضيت سنوات طفولتي وأنا محاطة بالنساء: الجدات، العمات، الجيران. ولم يك يوجد والد في البيت.

من الموضوعات القوية في “لقيطة إسطنبول” وفي كتاباتك عموماً، إلحاح الحاجة إلى المواجهة مع الماضي. كيف تشرحين انشغالك بهذه الفكرة؟

الماضي حزين ومظلم، هل ينبغي أن نعرف عنه المزيد. لا أعتقد أن هذه مسألة سهلة. إنها تتعلق بالذاكرة. وعموماً فإن ثقافة النساء نموذجية في العائلات التركية، وهي تؤثر عليّ ككاتبة. الجدات والأمهات ينقلن القصص والحكايات إلى بناتهن وحفيداتهن. إنهن يمثلن الذاكرة الجماعية.

هل يمكن أن تذكري لنا كيف توصلت إلى الخيوط الأولى في كشفك المجازر الأرمنية، ولماذا قررت التعامل مع هذا الموضوع الجدلي في روايتك؟

أعتقد أنني بحثت في موضوع الأرمن بفعل أن طفولتي كانت غامضة. جاءني وقت في حياتي عندما أدركت أنه من دون الماضي لا يمكن أن تنضج مسيرتي. هذا حقيقي بالنسبة للأفراد والأمم. إذا يرتبط المرء بالماضي على الدوام، فلا يمكن أن نتقدم نحو المستقبل من غيره.

أعتقد أن ما نحتاجه هو الربط بين الذاكرة والنسيان في آن معاً. والذاكرة هي مسؤولية. وأنا أنتقد دولتي بسبب رفضها مواجهة حقائق أحداث 1915(المجازر التركية بحق الأرمن)، وإحجامها عن البحث حول وعن أسباب التراجيديا.

هل تقصدين من وراء كتابة الرواية أن تروجي لأفكار معينة؟

لا أظنني أكتب الرواية من أجل أن أعبر أو أروج لفكرة معينة. لا أكتب رسالة، لا أريد أن أعطي دروساً. أعتقد أن الأدب بحاجة إلى حرية أكثر. وأعتقد أن القراء المختلفين يقرؤون الكتاب ذاته بشروحات مختلفة. عندما أكتب الرواية أصبح شخصية أخرى. أي أغدو أكثر جرأة.

أنت ولدت في فرنسا. وتربيت في اسبانيا. وعشت وعملت في تركيا. وحالياً تعيشين في الولايات المتحدة. هل أثر ذلك على كتاباتك؟

كنت على الدوام، رحالة أنتقل من مكان إلى آخر. إنني تركية الأصل وعالمية، في آن واحد. ارتبط في علاقة حب مع اسطنبول. فكلما تركت هذه المدينة أعود إليها باشتياق. أن يتكون الكاتب في تركيا يعني أن يصبح شخصية عامة. الكاتب في نقطة الضوء على الدوام. ومن الممتع أن نرى الاختلافات بين العوالم الأدبية. نحن مجتمع مسيس في تركيا. ونثير النقاشات حول الأدب والفن.

لم كتبت “لقيطة اسطنبول” بالإنجليزية بينما أعمالك الأربعة التي سبقتها، كانت باللغة التركية؟

الخطورة الكبرى التي تواجه الكاتب هي الرقابة الذاتية. إنني في حب مع الكلمات. إنني أتتبع الحروف بطريقة صوفية. وعندما بدأت أكتب باللغة الإنجليزية اتهمني البعض في تركيا، أنني أخون بلدي وأتخلى عن لغتي الأم.

أخمن أنه يمكن للإنسان أن يكون متعدد الثقافات واللغات.. الإنجليزية بالنسية أكثر رياضية بينما التركية أكثر عاطفية. إنني مرتبطة بكل واحدة منهما بطريقة مغايرة. في الإنجليزية أجد السخرية والفكاهة بطريقة أسهل. بينما أجد قوة التعبير عن الحزن في التركية.

15 شخصــية في « 100 عـام حـــبلى بتــــــكاثف الأحداث والمصائر»

تنبض رواية “لقيطة إسطنبول”، بدفق التفاصيل والأحداث التي تنسج وتتالى حول شخصياتها الكثيرة، والتي لا يقل عددها عن 15 شخصية. إذ نجد أنه يقتفي السرد البانورامي الموسوعي في العمل، سيرها، ذلك في زمن يمتد طوال قرن كامل.

ونتبين في سيرورة العمل غزارة حوادثه المتدفقة على مساحات زمنية تتكاثر فيها الشخصيات التركية والأرمنية. ونطالع مسارات ومصائر متنوعة، ذاك ما بين اسطنبول وأميركا، خلال الحقب التاريخية المتعددة، وكذا الكثير من الأجيال والعائلات والأفراد. وفي تلك اللوحة المتشابكة ترسم أقدار ومصادفات شديدة الاختلاط والتقاطع، تسرد العلاقة المأسوية ما بين الأتراك والأرمن.

أجواء عائلية وطقوس

يتناوب في الرواية حضور المطبخين: التركي والأرمني، بشكل قوي، بوصفهما بؤرة الفضاء العائلي للشخصيات. فحول الموائد العائلية تجري اللقاءات والحوادث لأن «الثقافة المطبخية» والولائم اليومية، تشكل عنصراً مهماً في كل من الهويتين التركية والأرمنية. أما الفضاء المكاني الأقوى حضوراً في الرواية، فهو مدينة اسطنبول التي تنقلت الروائية إليف شافاق بينها وبين نيويورك وأريزونا.

تروي إليف شافاق في العمل، قصة فتاة أرمنية هاجرت عائلتها من بلدها الأصلي إلى الولايات المتحدة، هرباً من المجازر التي يرتكبها الاتراك، حينذاك. لكنها أرادت أن تكتشف جذورها، لذلك عادت الى إسطنبول وراحت تبحث عن أصولها من خلال الاطلاع على تاريخ بلدها.

وتصف اليف العلاقة بين الأتراك الذين يحاولون إزالة فكرة الإبادة من أذهانهم، والأرمن الذين يعيشون على هذه الذاكرة، من خلال روايتها سيرة عائلتين: الأولى تركية تعيش في اسطنبول، والثانية أرمنية تعيش في الولايات المتحدة، قبل أن يتبيّن في نهاية الرواية، أن وشائج قرابة تصل بين هاتين العائلتين منذ أجيال بعيدة، مرتبطة بالإبادة وبسببها، ولا يعرف عنها الأحفاد شيئاً البتة.

بحث وشهادات

كتبت اليف شافاق الرواية أثناء تدريسها وإقامتها في الولايات المتحدة الأميركية. ولإنجازها بدقة وموضوعية، وبالإضافة إلى بحثها الخاص، جمعت شهادات شفهية مروية، كما تابعت أفلاماً وثائقية وأجرت مقابلات، وتحدثت مع العديد من الأرمن في الشتات، وفي الوقت ذاته، زارت العديد من البيوت الأرمنية ما وفّر لها الفرصة لمتابعة حياة الأتراك والأرمن في الولايات المتحدة الأميركية.

سيرة

إليف شافاق. أديبة تركية. من مواليد العام 1971. ولدت في ستراسبورغ لوالدين تركيين: الفيلسوف نوري بيلغين، والدبلوماسية شافاق أتيمان. انفصل والدها عندما كان عمرها عاماً واحداً. فربتها أمها. وتستخدم الكاتبة، اسمها الأول واسم أمها كاسم أدبي توقع بها أعمالها.

تحمل إليف شهادة البكالوريوس في العلوم السياسية من جامعة الشرق الأوسط التقنية في تركيا، وشهادة الماجستير في “الدراسات النسوية”، وشهادة الدكتوراه في العلوم السياسية من الجامعة ذاتها. نالت عن أطروحتها لنيل الماجستير في موضوع: الإسلام والنساء والتصوف، جائزةً من “معهد علماء الاجتماع”. تزوجت سنة 2005 من الصحافي التركي أيوب كان.



– البيان

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *