خاص ثقافات:
سعيد هادف
من أجل ثقافة صديقة للبيئة
فلاحة الداوم (permaculture)
من هو الملهم الذي كان وراء هذا الموديل الخاص بالفلاحة الطبيعية؟ إنه الفلاح الياباني ماسانوبو فوكوكا (1913-2008) هذا المنهج خضع للشرح النظري في السبعينيات. كان مصطلح (permaculture) يعني في الأصل «الفلاحة المداومة»، ولكن اتسع لاحقًا ليشمل «ثقافة الدوام» أو «ثقافة المداومة» أو«الثقافة المستدامة» لأن المظاهر الاجتماعية كانت جزءًا لا يتجزأ من نسق مستدام حقًا.
ثقافة المداومة (permaculture)هي طريقة نسقية وشاملة تهدف إلى تصميم الأنساق (مثل الموائل البشرية والأنساق الفلاحية)، ولكن هذا يمكن تطبيقه على أي نسق من خلال الاستلهام من الأيكولوجيا الطبيعية. إنها ليست منهجا ثابتا ولكنها «طريقة عمل» تأخذ في الاعتبار التنوع البيولوجي لكل نسق أيكولوجي. إنها تهدف إلى إنتاج فلاحي مستدام، والذي يتميز بالكفاءة في استخدام الطاقة ويحترم الكائنات الحية وعلاقاتها المتبادلة، مع منح الطبيعة “البكر” أكبر مساحة ممكنة.
الأيكولوجيا العميقة منذ منتصف القرن الماضي، حذرت من مغبات التعاطي الجاهل مع محيطنا البيئي والاجتماعي، وراكمت على مدى سبعة عقود جهودا نظرية وميدانية من أجل تصحيح التمثلات الخاطئة، وتزويد السياسة والاقتصاد بمفاهيم ونظريات تفضي إلى ممارسات صديقة للبيئة. إن الأمر يتعلق ببناء ثقافة مشبعة بالعلم والقيم الإنسانية النبيلة قيم الخير والحق والجمال.
كيف تعاملت الثقافة المغاربية مع محيطها الأيكولوجي؟ وكيف تجلت عبرها الأنشطة الفلاحية؟ هذا ما يجب أن تكتشفوه في أنفسكم، وفي محيطكم الاجتماعي وفي تعاملكم مع الأرض والنباتات وأساليب الفلاحة. وهذا ما يحاول فيصل عنصر، أن يجسده في ورشاته التكوينية وكتاباته ومداخلاته.
فيصل عنصر، الإعلامي والباحث المختص في الثقافة/الفلاحة المستدامة (permaculture)، المقيم بين باريس ووهران، يعمل بمثابرة على نشر ثقافة صديقة للبيئة وداعمة للتنمية. يدعو عبر ورشاته التكوينية إلى الاهتمام المنهجي بتدبير المدينة. وفي سياق الوضع المترتب عن جائحة كورونا، قال: “يبدو أن الكوكب يريد الانتقام. لقد بدأ العد التنازلي بالفعل: استنفاد الموارد الطبيعية والحروب الخفية من أجل السيطرة، واختلال المناخ ، واختفاء 60 ٪ من الحيوانات البرية في غضون 44 عامًا، وانهيار التنوع البيولوجي للحيوانات والنباتات في العالم ، وسوء التغذية، والمجاعات، وتفاقم أزمة اللاجئين بسبب المناخ وتشريد السكان، وعودة ظهور أمراض القرون الوسطى ، وانفجار السرطانات والأمراض المزمنة ، المرتبطة بالأغذية السريعة، وتلوث الهواء والتربة والمحيطات … وقائمة المصائب التي تصيب البشرية لا تزال طويلة.
الأرض تنتقم
بموقع (mediterranee-plurielle.com)، حول تساؤله: هل نحن مذعورون؟ وهل هو مجرد هلوسة بعض دعاة حماية البيئة، الذين يحذرون مثل كاساندرا من مستقبل أكثر رعبا؟ يقول فيصل عنصر: “بالطبع لا. هذه حقائق واقعية، وملاحظة علمية واضحة، ناتجة عن إخفاقاتنا الخاصة كأنواع بشرية اختارت نمطًا لا نهائيًا من الاستهلاك، في عالم محدود: لم تعد الأرض قادرة على المتابعة، لقد وصلت إلى عتبة التسامح وحذرتنا بطريقتها الخاصة.
وإذا يتساءل: هل وصلنا إلى نقطة اللاعودة؟ وفقًا للعلماء، يرى أنه إذا لم نغير سلوكنا بسرعة، فمن المحتمل جدًا أن تتعرض الأرض قريبًا للانقراض الجماعي السادس للأنواع، بما في ذلك البشر. لذا، هل يجب أن نستسلم لأنفسنا؟ بالطبع لا، حيث مازال هناك أمل. حتى لو تم إجراء التشخيص الحيوي للكوكب، فمازال من الممكن استدراك الأمر، والحد من الضرر. وبخصوص الحديث عن الضرر، فإن أكثر قطاعات النشاط البشري تلويثًا هي الزراعة الكيميائية والصناعات الغذائية. والواقع أن ما يسمى بالزراعة “الحديثة” مسؤولة عن 24٪ من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في العالم، ويرجع ذلك أساسًا إلى تربية الماشية والاستخدام المفرط للأسمدة الكيماوية وطريقة الحرث. وهذا الرقم لا يأخذ في الحسبان كل التلوث المنبعث في سلسلة الإنتاج وعواقبه المباشرة وغير المباشرة على صحة النبات والمستهلكين، أي التلوث المرتبط بتصنيع الأسمدة المذكورة، لتشغيل مصانع المعالجة والنقل ومعالجة مياه الصرف وصناعة الصحة النباتية والصناعات الدوائية، إلخ. تم بيعها في الأصل على أنها “ثورة خضراء”، والتي ادعت أنها تغذي البشرية، الزراعة الصناعية، التي مازالت في النصف الشمالي من الكرة الأرضية تعيش اليوم بفضل دعم الدولة فقط، هي في الواقع مجرد وسيلة تسمح للوبيات المال بالتغول على ظهور دافعي الضرائب. ولسبب ملوِّث ومهلك للطاقة، أثبتت منذ أكثر من 50 عامًا، منذ إنشاء السياسة الزراعية المشتركة (PAC) في أوروبا على سبيل المثال، أنها غير قادرة على حل مشكلة المجاعة في العالم. يعاني 800 مليون شخص من سوء التغذية على هذا الكوكب، أي واحد من كل عشرة أشخاص لا يأكلون ما يكفي. مع أن الصناعة الزراعية العالمية تنتج اليوم 330 معادلا من الحبوب لكل شخص في العام. ومع ذلك، لا يتطلب الأمر سوى 200 معادل من الحبوب لكل شخص سنويًا لتلبية احتياجات أكثر من 7.5 مليار نسمة يعيشون في هذا الكوكب.
السؤال هو، أين يذهب كل هذا الإنتاج الزائد؟ تحت ضغط من صندوق النقد الدولي والأسواق، تضطر العديد من بلدان العالم الثالث والناشئ إلى محو غابات بأكملها (مثل البرازيل) لممارسة الزراعة الأحادية، ليس لإطعام الناس، ولكن لتلبية متطلبات الصناعة البترولية والفلاحية الغذائية، وخاصة في إنتاج اللحوم والوقود الحيوي.
هذا النموذج الزراعي غير المستدام شديد الجشع في مجال الطاقة الأحفورية. كما أنه واحد من ناقلات البؤس الاجتماعي الراهن في العالم. تشير الدراسات الجادة إلى التبذير الناتج عن هذه السياسة الباحثة عن الربح بأي ثمن. لقد ثبت علمياً الآن أنه يجب في المتوسط 7.3 سعرات حرارية أحفورية لإنتاج سعرة حرارية نباتية، ويجب 5 سعرات حرارية نباتية للحصول على سعرة حرارية من لحم البقر. بالإضافة إلى ذلك، الفلاح الذي ينشر 100 كيلوغرام من النيتروجين الاصطناعي (azote de synthèse) على هكتار واحد من الأرض ينتج كمية كبيرة من غازات الدفيئة (gaz à effet de serre) مثل السيارة التي قطعت 10000 كيلومتر. إذا لم يتم اتخاذ تدابير جذرية، وسرنا على هذه الوتيرة، فستكون البشرية في غضون 50 عامًا، قد استنفدت جميع مواردها الطبيعية، وفي نفس الوقت أضرت بشكل لا رجعة فيه بمحيطها الحيوي.
وبالتالي، سيكون من المفيد تغيير السياسة الزراعية وتشجيع الزراعة الصغيرة وزراعة الكفاف التقليدية، الأكثر احترامًا للبيئة، والتي تهدف، في الواقع، إلى إطعام البشرية. هنا، يأتي ما بين 20 و 80٪ من الإنتاج الغذائي العالمي اليوم من المزارع العائلية الصغيرة، خاصة في العالم الثالث والبلدان النامية (إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، إلخ.). بالإضافة إلى ذلك، فإن نقص الوسائل (غياب البنية التحتية للطرق، والخدمات اللوجستية، وصناعة الأغذية، وما إلى ذلك) في هذه البلدان يساعد في الحفاظ على هذا النوع من الزراعة في المناطق الحضرية وأطرافها، حيث يجبر المزارعين على أن يعرضوا للسكان المحليين المنتجات الطازجة والموسمية والمحلية.
ماذا عن الجزائر؟ هل هناك فرصة للنهوض؟
تبلغ المساحة الزراعية الكلية للجزائر 42.4 مليون هكتار أو 18٪ من مساحة البلاد. فقط 20٪ من هذه المساحة مزروعة. يوفر هذا القطاع مصدر رزق مباشر أو غير مباشر لـ 21٪ من الساكنة التي يقدر عددها حوالي 42 مليون نسمة ، 70٪ منهم من الشباب تحت سن 35. وفقًا لمكتب الإحصاءات الوطني، اقترب معدل البطالة من 11.1 ٪ في عام 2018، دون احتساب الآلاف من الباحثين عن عمل الذين يعانون من الركود في الاقتصاد غير الرسمي.
تحتل الجزائر المرتبة 17 في العالم لمصدري النفط و 9 للغاز الطبيعي. تمثل هذه الصناعة 30٪ من الناتج المحلي الإجمالي (PIB) للبلاد و 97٪ من صادراتها وحوالي 70٪ من عائداتها الجبائية. كما أنها المصدر الرئيسي لتدفقات العملات الأجنبية. على الرغم من هذه الإمكانات الطبيعية والبشرية والمالية، يقول، مازالت البلاد تعتمد على الأسواق العالمية للغذاء.
في عام 2017، تجاوزت واردات المواد الغذائية 11 مليار دولار. يتم استيراد ملايين القناطير من القمح كل عام من فرنسا أو كندا أو روسيا. إن الجزائر مجبرة على دفع ثمن باهظ مقابل شراء الطعام. مع استمرار أسعار الضروريات الأساسية، تؤثر فاتورة الغذاء بشكل كبير على الإنفاق الحكومي، الذي تعتمد إيراداته على سعر الهيدروكربونات. ونتيجة لذلك، يقول، يرتبط بقاء البلد ارتباطًا مباشرًا بمارتينغال (martingale)1، مركنتيلي للغاية، في الأسواق العالمية. ومع ذلك، يرى فيصل عنصر، أن تلك السياسات التي انتهجتها الريجيمات الجزائرية انطوت على شيئين: أحدهما سيئ والثاني جيد: بما أن صناع القرار رهنوا الاقتصاد الجزائري تقريباً في صادرات المواد الهيدروكربونية، بطريقة ما، قد حموا البلاد من مغبة الإفراط في استغلال الليبراليين للموارد الطبيعية. بعبارة أخرى، يضيف، إن ما تسبب في تأخر تنميتنا يمكن أن نجعل منه فرصة للنهوض في المستقبل. إن جزءا كبيرا من أرضنا الصالحة للزراعة بقي بكرا وغير مستغل.
مخاطر الفلاحة الصناعية: ماذا عن مستقبل الجزائر؟
الجزائر بلد أيكولوجي بشكل جزافي. لكن حتى متى؟ إن الانحراف الزراعي والكارثة البيئية المعلنة، التي تحدث في جنوب الجزائر، في وادي سوف على وجه الخصوص، مقلقة للغاية. في الواقع، بعد اتباع منطق مركنتيلي محض، تم تشجيع الزراعة شديدة التلوث في هذه المنطقة من البلاد. يتم إنتاج الطماطم والبطيخ هناك بكميات صناعية، وذلك باستخدام وإساءة استخدام الأسمدة الاصطناعية والمبيدات الحشرية وضخ المياه المتحجرة، غير قابلة للتجدد، المياه الجوفية. هذا لا يمكن أن ينجح، إنها زراعة محكوم عليها بالفشل على المدى الطويل لأنها لا تتكيف مع بيئتها. إذا اختار القدماء نسق الفقارة (Fouggarras)2، فليس بسبب نقص المعرفة أو الجهل، بل لأنهم عرفوا كيف يحافظون على وسطهم الطبيعي؛ لقد مارسوا، أبا عن جد، زراعة الكفاف، زراعة معقول ومسؤولة، لا تستنفد جميع الموارد المتاحة.
من واجب السلطات العامة والمجتمع المدني الآن التفكير في مستقبل جزائر ما بعد الهيدروكربونية، ومتابعة ما بحدث في العالم، واستخلاص الدروس اللازمة واختيار المسار الصحيح مسار كل ما هو عقلاني، مستدام وعادل.
إن برنامجا شاسعا؛ وتحديا كبيرا ينتظر الأجيال الحالية والمستقبلية، يقول الباحث، التحدي الذي ستكون نقطة انطلاقه بلا شك اعتماد براديغما جديدة، حيث ستحتل فيه البيئة مكانًا مركزيا.
إنها مجرد مساهمة، يقول فيصل، لا تحمل مفاتيح جاهزة، ولا تدعي تحليلا تفصيليا حول هذا المشروع الاجتماعي. إن مرماي هو أن أثير الانتباه وأشق طريقا للتفكير: حول مسألة كيف يمكننا إجراء تحول إيكولوجي في الجزائر، ولاسيما في المدن الجزائرية؟ بتعبير أدق، يتعلق الأمر بكيفية تقديم الزراعة الحضرية المستدامة (Permaculture Urbaine)، والتعريف ببعض مبادئها ومقاربتها الكلية، الهادفة إلى إنشاء أنساق بشرية مرنة ودائمة، ولها قابلية الإنجاز في مدينة مثل وهران، مثلا، حتى تخضر السطوح وتينع بدل أن تبقى غبراء توجع العين. (يتبع العدد القادم).
الفلاحة المستدامة الحضرية: مقاربة شاملة
في السبعينيات اخترع المهندسان الزراعيان الأستراليان ، بيل موليسون وديفيد هولمغرين ، مصطلح “الزراعة المستديمة” الحديثة ، والمفهوم مركب من كلمتين إنكليزيتين: “الدوام” و “الفلاحة” ” والمعنى هو الفلاحة الدائمة أو الثقافة الدائمة. وقد لخص أصحاب المبادرة بهذا المنهج مقاربتهم، تاريخيا ونسقيا في ذات الوقت، في كتاب من مجلدين بعنوان “الزراعة المستدامة” بكل بساطة، واضعين تصورهم للموائل البشرية والأنساق الزراعية
يتعلق الأمر بدراسة شاملة، ثمرة لقاء سعيد بين الأمبريقية والعلم، تشرح نسق التكيف مع بوسطهم الطبيعي ومعيشة الشعوب الأولى في أستراليا وتسمانيا. كما تروم هذه الدراسة أن تكون موديلًا كونيًا للإيكولوجيا الزراعية يكون في متناول المواطن العادي والمحترف على حد سواء ، كيفما كانت الوسائل المتاحة والقدرات المختلفة ؛ من الأراضي الخصبة في أوروبا إلى المساحات القاحلة في أستراليا. الزراعة المستديمة هي تقليد مستنير للأنساق الأيكولوجية الطبيعية ، وهي فن الملاحظة والتجريب. من خلال هذه الدراسة ، طور بيل موليسون وديفيد هولمغرين فكرة براديغما جديدة للعيش المشترك. للعيش بذكاء مع الطبيعة واحترامها. للقيام بذلك ، تدعو الزراعة المعمرة أولاً إلى أخلاقيات وتقترح فلسفة حياة تتمفصل مع ثلاثة مبادئ توجيهية
الانتباه إلى الطبيعة؛
-
الانتباه إلى البشر؛
-
التقاسم المنصف للموارد.