ما أحوج عالمنا إلى أمثولة برتراند راسل


*محمد أحمد السويدي

هل أصبح دور كلٍّ من الفلسفة والشعر ثانوياً في المرحلة الراهنة من بدايات القرن الحادي والعشرين؟

خطر ببالي هذا السؤال بينما كنت أراقب الفوضى التي تسود العالم حالياً، والتي قال عنها الفيلسوف والكاتب البريطاني بـــرتراند راسل في عبارة موجزة مفـــادها أن الأغبياء والمتشدِّدين واثقون بأنفسهم دائماً، أمَّا الحـــكماء فتملأهم الشُّكوك. وتظهر كلمـــات راســأل واضحة جلية إذا ما أنعمنا النظر في ما يحدث حولنا.
لقد ظنَّت البشرية أنَّ هناك سلاماً واستقراراً سيعقبان انتهاء الحرب الباردة مما سيؤدِّي حتماً إلى رخاء يعمُّ أرجاء المعمورة، وهذه دعوات لطالما ناضل راسل بدأب وإصرار من أجلها عبر مجاهرته وتأليبه العلماء والمفكِّرين والشعوب ضد انتشار الأسلحة النووية وامتلاكها، وتسخير العقل البشري لصناعة أسلحة فتَّاكة. وقد كان متخوفاً حيال ذلك لكونه سيقود إلى كوارث إنسانية مدمِّرة لاحقاً. برزت الدَّعوات إلى العولمة، وهو ما بشَّر به راسل حين دعا إلى انفتاح الدول بعضاًعلى بعض، وتوسيع التجارة الحرَّة في ما بينها، ولكن مهما قدم الفلاسفة من أدلة منطقية وعلمية ومهما علت أصواتهم ففي غالبية الأحيان لن يصغي إليهم صانعو السياسة، علماً أن راسل كان باحثاً ومهتمّاً بالمنطق الرياضي، وكان أول كتبه مطلاً في هذا الشأن، وهذا ما حدث بالفعل بعد تواري الحرب الباردة. فقد بدأت أشكال جديدة من الصراع تنمو وتكبر في أنحاء الكرة الأرضية، قوى جديدة دخلت إلى حلبة الصراع، فقويت شوكة الصين وكوريا الجنوبية، وبدأ صعود النمور الآسيوية، فيما كانت إمبراطورية الاتحاد السوفياتي تتمزق، والاتحاد الأوروبي يبلور أنماطاً من الاتحاد والتعاون، موطِّداً صلات بلدانه بعضها ببعض، حالماً باستعادة أمجاده القديمة.
اندلعت الثورة الرقمية والتكنولوجية، وكان تأثيرها أخطر وأسرع وأهم، من الثورة الصناعية، وأضحت عنواناً ورمزاً للتقدُّم. عقول تبدع التكنولوجيا في جميع المجالات، وتقفز بها من جيل إلى آخر في فترة وجيزة، وبلدان تستقبل هذه الاختراعات المذهلة كمستهلكة لا كمنتجة، أو مجدِّدة. إنَّ كثيراً من المؤسَّسات والأفراد والدول أقبلت على التهام قشور التكنولوجيا، ولم توظفها كما ينبغي، إن لم أقل أساءت استعمالها في غياب منظومة تطور شامل وخطط إنمائية مدروسة بدقَّة، تعود بالنفع على الإنسان العادي. وهذا أحد أسباب الالتباس الذي أحاط بفكرة العولمة في هذه الحقبة، وجعلها موضع شكٍّ وريبةٍ وتساؤل عن مدى القدرة على الأخذ بها وإثرائها بما يحفظ الكيانات القومية والوطنية، وعدم التفريط بالتراث الإنساني المحلِّي بعد أن هبَّت أعاصير التطرُّف المذهبي والديني، وبدأت نار الحروب الصغيرة المتنقِّلة التي تفاقمت في آسيا وأفريقيا والمشرق العربي وقوبلت بشنِّ حروب كبرى تحت شعار مكافحة الإرهاب.
كان راسل داعية سلام، ومناهضاً للإمبريالية، وهو المصطلح الذي كان يُطلق على التمدُّد العسكري والاقتصادي للولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، وساهم بفلسفته في خلق رأي عام معادٍ لحرب فيتنام، وفي الحدِّ من الأسلحة النووية، وضد إفقار الدول النامية أو الهيمنة عليها، مع أنه واجه متاعب شتَّى، سجناً، أو معاناة شخصية، أو اتهامات جوفاء، إلا أنه حصل على جائزة نوبل أخيراً، تتويجاً لجهوده. وهذا يصوِّر الحال الدرامية للفلاسفة والمبدعين عبر التاريخ البشري، اضطهاد ثم تكريم لاحقاً، ثم استذكار لعظمتهم وأهمية دورهم في ما بعد. وربَّما كانت عبارته التي بدأت فيها هذا النص حول ثقة الأغبياء والمتشدِّدين بأنفسهم، تنطبق على ما يشهده العالم اليوم من تضخُّم ظاهرة التطرُّف الديني وارتباطها بالعنف الأعمى تحت مسمَّيات مختلفة، ومن خطورة ذلك على جغرافيا الدول، ومحاولة استئصال الأقليَّات وإلغائها عن الخريطة. الغباء والتشدُّد نقيضا الوعي والاعتدال، خصمان لدودان للإصلاح والديموقراطية، ببساطة هما نتيجة تعطيل العقل، وتمجيد الأسطورة، وعدم النفاذ إلى ما وراء النص الرُّوحاني، وما نشهده الآن في ناحيتنا، هو غلبة الجهل على المعرفة، والسَّعي لحجب الشمس عن محو الظلام، واستغلال سوء الأحوال الاجتماعية لاستخدام العاطلين من العمل، أو المتعصِّبين، كأدوات تحت رداء دينيٍّ كاذب.
من أيقظ هذا الوحش من سباته؟
من أخرج هذا المارد من قمقمه؟
من صنع فرانكشتاين وأطلقه من عقاله؟
أسئلة تُقلِقُ العالم، لا يمكن الإجابة عليها بشكل ساذج، بل تحتاج، وبشكل ملحٍّ إلى إعادة تشغيل العقل وترجيحه، وإعادة الاعتبار للعلم والمعرفة والفلسفة، تنويراً، ثقافة، تصنيعاً، تواصلاً راقياً، وتلاقحاً بين الحضارات، كي لا يتحوَّل سكان العالم إلى أسرى تعصُّبٍ مقيت متبادل.
سيادةُ السَّلام في هذا الكون رغبةٌ جامحةٌ لكلِّ من يحب الحياة ويعشقها، رغبةٌ باركتها الأديان السماوية كلُّها، وأوَّلها الدين الإسلامي الحنيف الذي عزَّزت تعاليمه أهمية العلم والعلماء والتوسط والاعتدال. ولذا كان ضرورياً إزالة بؤر ما زالت تشكِّل مدخلاً الى صراعاتٍ عالمية طويلة الأجل إذا لم تتم معالجتها في شكل منصف وعادل. كان راسل مستقرئاً ومستشرفاً، لما ستؤول إليه الحال، حين كتب حول قيام إسرائيل، قائلاً: «لا يمكن إثارة أهوال الماضي بتبرير أهوال الحاضر». وحين وصف قيام إسرائيل، والدعم العالمي لنشوئها بأنهما «نفاق عظيم»، ونبَّه – وهو الفيلسوف الإنكليزي البعيد عن بلادنا – كيف يتم تفقير العرب الخارجين من تحت نير حكم استعماري دام عقوداً عن طريق المتطلَّبات العسكرية عوضاً عن دعم التنميه الوطنية.
هكذا إذاً يتساوى إرهاب الدولة بإرهاب المجموعات المتعصِّبة الدموية، دينيّاً أو عنصريّاً، وهو ما يبقي على أوار العنف مشتعلاً ومهدداً للسِّلم العالمي.
نبَّه راسل مراراً وتكراراً من خلال مقالاته وندواته وآرائه المعلنة إلى أن حلاً سلميّاً عادلاًَ للقضية الفلسطينية هو الكفيل بفتح نوافذ واسعة لسلام يعمّ الدنيا بأكملها، وأكد أنَّ وجود ملايين اللاجئين المشرَّدين أمرٌ يجافي الضمير الإنساني. وهكذا مثَّل هذا الفيلسوف المؤسسة إذ عادى بقلمه النازية والشمولية الستالينية، والإمبريالية، وبذل جهداً حثيثاً لمنع اندلاع حرب عالميَّة ثالثة إبان أزمة الصواريخ الروسيَّة في كوبا عبر مراسلة الرئيسين الأميركي والروسي. وهو الذي لم يتردَّد بالتنديد بالعدوان الإسرائيلي في حين كان العالم وما زال مغمضاً عينيه، لم يستفق بعد على خطورة النهج الصهيوني العنصري.
استذكاري لراسل، الفيلسوف الأممي، قادني إلى التفكير في ما أننا لو أردنا أن نضع العالم العربي في مصاف الدول المتقدمة، لاحتجنا الى الاشتغال على أنفسنا زمناً طويلاً، ووجب توظيف مليارات الدولارات التي تصرف على الحروب في مجال التنمية البشرية، متسائلاً: أيُّ مصلحة تجنيها الدول التي تدعم متطرِّفاً أو متعصِّباً من أي دين أو مذهب كان؟
وإنني لأدعو الإنسان العربي أن ينتبه إلى وجود شعوب استطاعت أن تشقَّ طرقها وتنهض، وتسبقنا على المستوى الحضاري، وقد كانت سابقاً تقبع خلفنا كماليزيا والهند… رغم تنوُّع الأعراق واللغات والانتماءات الدينية.
لا نريد إرسال أبنائنا إلى موت عبثي عدمي، بل نطمح إلى بناء مجتمعات متصالحة مع ذاتها تأخذ بالعقل والعلم والمعرفة. إنَّ مشكلة العالم بإيجاز هي أنَّ المتشدِّدين واثقون بأنفسهم أشد الثقة دائماً، أمَّا الحكماء فتملأهم الشكوك.
______
*الحياة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *