- إدريس هاني
لم يحصل بعد “تعاقد” بين السلطات العمومية وفيروس كورونا حول الشكل الذي تنتهي فيه هذه اللعبة، ذلك لأنّ هناك سوء ثقة سائد بين الفيروس والبشر، ولا شكّ أننا لا نعلم الأجندة التي يخفيها، لكن هناك من يفكّر في القضاء على فيروس انتصر في جبهة القتال من دون الخضوع والاستسلام لشروط المنتصر. ما هكذا ينسحب الفيروس، ومهما تمحجر البشر فهم لن يفعلوا سوى التخفيض من حجم الكارثة واتقاء ما هو أعظم.
لسنا وحدنا من يعمل على مواجهة خطر كورونا ولا حتى تلك المراكز الكبرى وحدها من يعمل على تفكيك شيفرة الوباء، إن كورونا حدث عالمي له زمن موضوعي للتخريب كسائر الأوبئة التّاريخية وهو وُجِدَ ويتحمّل ضريبة هذا الوجود لمعرفته المسبقة أنّ مآلات الفيروس في تاريخه هي الانسحاب.
لقد زالت الدهشة اليوم، ولعل من المفارقة أنّ الإنسان بات أكثر جرأة على ترك الحجر حتى أنه يخشى تبعات السلطات العمومية أكثر من خوفه من العدوى. لقد بات المحفّز هو القانون لا الخوف من الموت، وهذا شعور خطير يتجاوز قضية جهل المجتمع بل هي طبيعته أيضاً في التعايش مع الخطر.
المرحلة الثانية خطيرة والتحسس لخطورة الوضع يفوق المرحلة الأولى، ذلك أنّ الإنسان وبحدسه الجمعي يمارس شكلاً من الإيحاء الجمعي بحتمية انتصاره على الوباء. هل سنفترض أنّ الفيروس بقدر ما يفتك بالبشر يكشف عن جانب من شيفرته.. هل هؤلاء الضحايا هم ثمن مقاومة الجسد عبر ذاكرته الجمعية للوباء.. هل هذا العدد الهائل من الضحايا هم من ساروا فوق حقل ألغام ليمكنوا الباقي من القبض على العدوّ؟
يبدو لي أنّ كورونا لن يتركنا حتّى نخضع لقراره في تغيير العادات، وهو مع الزمن -حين نعلن الإفلاس- سيتركنا وينسحب من دون لقاح، ولا بدّ من الأخذ بعين الاعتبار أنّ الإنسان يتطوّر وثمة كائنات من حوله تتطوّر، إنّ ضريبة ما أنتجته حضارة الإنسان تبرّر ميلاد «كوفيد19» وما هو أخطر.
غير أنّ في خلدي يدور افتراض، وهو أنّ «كوفيد19» لن يمنح العقل البشري فضل هذه الانتصارات إذا لم يتحقق الانقلاب التاريخي في الذهن البشري، هناك سيلعب الجسد دوراً صامتاً، وهو نفسه -لا العقل- سيهزم أو ربما “سيتعاقد” مع الفيروس القاتل ووضع أجندة للانسحاب.
سينسحب كورونا ولكن لا بدّ من تغيير الطبائع والعادات، وهنا يكمن مربط الفرس. إنّ الفرضية التي تدور في ذهني تتعلّق بالأعمار الموضوعية للفيروس. وسبق وتحدثنا بما فيه الكفاية بأنّ الفيروس كائن معاق وشديد المراس في آن معاً، وهو لا يقوى على الاستقلال حتى حين يتمكّن من الجسد، لأنّ الجسد حتى في حال الموت يحكم على الفيروس بالنهاية الجماعية. ففي ذهني يلحّ هذا الافتراض ألا وهو أنّ للفيروس عمراً موضوعياً، وبأنّ الجسد في صمت يقوم بفكّ شيفرة الفيروس، والجسد له مخاتلاته وأساليبه ومكره، وحتى الحديث عن لقاح البلازما ما هو إلاّ تأكيد على أنّ اللقاح أصله مختبر الجسد نفسه في تطوير المناعة، وحينئذ إذا التقت نهاية العمر الموضوعي للفيروس مع فك الجسد لشيفرة الفيروس، قد نتوقع انسحاباً.
غير أنّنا نتساءل: ما صورة هذا الانسحاب وحيثياته؟
أقول: هذا الانسحاب يعني عملية تدجين للفيروس بحيث يصبح كسائر الفيروسات التي تتعايش مع الإنسان ويعالجها بما هو متاح من مضادات وبالمناعة الطبيعية كما هو الحال بالنسبة للزكام.
الفيروس “أذكى” من أن يمنح العقل البشري في شروطه المُزرية هذه فضل هذا الانتصار. نعم قلنا مراراً إنّ العقل سيهزم الفيروس بشرط أن ينصت للجسد ولا يراهن على أوهامه. وتبدو السياسات مانعة لتحرير العقل، والانسداد الحاصل نابع من أن العقل رهين لأنماط من التفكير تفضحها الكوارث.
إذا انسحب الفيروس فستكون الكارثة أعظم، وسيكون العقل أمام تحدي الاستفهام، وسينتصر الجسد، وهنا تنتصر الطبيعة وتتأكّد الفوارق بين الانطباعات والإدراكات العقلية. ولا معنى للحديث هنا عن وجود دور منطقي لأنّ ما نقوم به هو إدراكات لكنها موصولة بالانطباعات حيث منحنا الحدس دور المنقذ من الضّلال العقلي، وفي مواجهة الكوارث الطبيعية لا غنى عن الحدس أيضاً.
سينتصر الفيروس أكثر إذا لم تتغير عاداتنا، ليس الاجتماعية فحسب بل عاداتنا الذهنية وأنماطنا في التفكير، وهذا يفرض ثورة في حقول معرفية وعلمية شتّى لا تستثني الطّبّ نفسه.
هل يا ترى غيرنا عاداتنا في التطبيب وممارسة الهيمنة «العلموية» على جسد مدجّج بالذكاء نستغفله بأساليب ميكانيكية في العلاج.. هل تحققت ثورة في أنماط التعامل مع الجسد الجريح والعقل الجريح أيضاً؟
الأخطر في كل هذا وفي التحدّي الذي فرضته المرحلة الجديدة من مواجهة الوباء هو خطر الإصرار على تلك العادات كما لو أن لا شيء حدث بالفعل..!
*كاتب من المغرب
- عن تشرين السورية