أحمد الأغبري
تؤكد التشكيلية والناقدة والأكاديمية اليمنيّة آمنة النصيري (1970) في مجموعتها (سيدات العالم)، خصوصية تجربتها التقنية في التلوين، كما تثبت قدرة التشكيل على خلق فضاء حكائي خاص، يتجلى من خلاله الموضوع في فضاءات روحية أسطورية فلسفية، تقول الكثير دون أن تغادر الرؤية الإنسانية.
وتعكس تجربتها في هذه المجموعة، مدى قدرتها على التعبير عن أفكارها وفق رؤى تجريدية تستنطق الأحزان والأحلام في سياق رؤى إنسانية تنشد الجمال بمفهومه الذي يبدأ بالحرية رافضاً كل أشكال القمع.
تشتغل النصيري، وهي من أبرز فناني الجيل الثاني في المحترف التشكيلي اليمني، في معظم أعمالها على مجموعات، وكأن كثيراً من رؤاها تضيق في العمل الواحد، ولا يمكن التعبير عنها إلا في سياق مجموعة تستنطق ما تريد قوله.
ومن اسم المجموعة (سيدات العالم)، تريد النصيري، وهي ناقدة ومحاضرة في فلسفة علم الجمال في جامعة صنعاء، أن تحاور نماذج السيادة النسائية في العالم، وفق ما تحلم به مقارنة بما كان وما هو كائن، دليل للحضور الإنساني العام.. كل ذلك وفق رؤية، تتعامل مع نساء هذه المجموعة كرموز في سياق اشتغال موضوعي إنساني، انطلاقاً من إيمانها بأن الفن لا بد أن يكون إنسانياً بدرجة أساسية.. وفي هذا تعتقد أن الاشتغال التشكيلي، لا بد أن يكون أكثر فلسفية في طرحه الجمالي للقضية الإنسانية.
اشتغالها على المرأة في هذه المجموعة هو امتداد لعلاقة تشكيلية بالمرأة في تجربتها (نظمت أول معرض شخصي عام 1986)، وإن كان الموضوع هنا مختلفاً؛ إذ هي تحاور ما يمكن أن يكون عليه بناء على ما كان عليه حضور المرأة في ثقافات مختلفة؛ فلكل لوحة انتماء ثقافي مختلف، اشتغلت عليه النصيري، من خلال تصوير تشخيصي ومحاولة للربط الرمزي بين ما هو ثقافي وما هو اجتماعي، وما هو أسطوري أيضاً.. في سياق معالجة رمزية لموضوع إنساني أوسع، انطلاقاً من رمزية المرأة، باعتبارها أكثر تعبيرية عن المعاناة الإنسانية والجمال الإنساني.. وهنا تنفتح هذه اللوحات، موضوعياً، لتذهب بالقراءة في اتجاهات مختلفة.
آمنة النصيري، التي نظمت حتى الآن (17) معرضاً شخصياً، اعتمدت تقنياً في هذه اللوحات، على ألوان الإكريليك على قماش؛ وهي تقنية ملائمة تمنح التجريد إمكانات أكبر؛ والتجريد يبزر تجربة خاصة ومختلفة ومتميزة لدى هذه الفنانة، التي تشتغل على الأشكال الجمالية أولاً؛ ومن ثم تأتي لتشتغل على التفاصيل باعتبارها التي تحمل الرسائل.
ومن أبرز ملامح تجربتها التقنية، يبرز التلوين عنواناً عريضاً يتجلى، من خلاله، وعيها التشكيلي في علاقتها بالقيم الفنية الجمالية؛ إذ تدرك جيداً أن اللون وقدرة الفنان على استنطاق طاقاته، هو من أهم مفاعيل التعبير التشكيلي، وفي التلوين تبرز خصوصية علاقتها بالألوان المبهجة، تعبيراً عن هموم وانكسارات وأحلام أيضاً. كما يبرز التضاد اللوني من أبرز وسائلها في الاشتغال على رؤاها؛ علاوة على أن الألوان المشعة هنا، ساعدت الفنانة على إبراز معانِ ثقافية خاصة، سواء من خلال ألوان الشعر أو تقاسيم الوجه أو الملابس؛ ففي كل لوحة يحمل التلوين النص البصري إلى مناطق جديدة، تكتشف من خلاله أفقاً مختلفاً لهذه المجموعة، والتي يبرز فيها اللون مسيطراً على مسار الدراما في الحكاية التي ينسجها التشكيل.
التجريد من خلال اللون، يمنح أعمال النصيري لغة عالية؛ فاللغة اللونية الصارخة تبرز كصوت للوحات؛ ولهذا يعتمد التجريد في هذه الأعمال كثيراً على اللغة اللونية، وسبق أن عبّرت النصيري، أن اللون يعتبر مبدأً أساسياً في اشتغالها على التجريد، وفي هذا السياق تعتمد على أحاسيسها بطاقات اللون التعبيرية؛ وانطلاقاً من ذلك تعتبر اللون المرجع الأساسي في التعبير عن النص.
وبتأمل لوحات هذه المجموعة والتوقف عند التجريد، سنجدها قد جرّدت الوجوه من بعض تفاصيلها الواقعية، وأعادت ترتيبها وفق رؤيتها، التي أعادت من خلالها تأثيث النص في سياق رؤية إنسانية، تتجلى بوضوح في تعرجات الخطوط والتلوين ونفحات التلوين، بل إن كل تكوين هنا يتجلى وفق الرؤية العامة، التي يحملها النص؛ وهي رؤية ستختلف قراءتها من متلقٍّ إلى آخر؛ فتعرجات الخطوط وعدم اهتمام الفنانة بمعالم الجمال التقليدية، والاشتغال الجمالي وفق مفاهيم فنية فلسفية.. يؤكد عمق الرؤية التي اشتغلت عليها النصيري؛ فالجمال الذي تتمثله النساء هنا مختلف تماماً عن واقعيته المباشرة، فهنا ثمة رؤية تُعيد الاعتبار لفلسفة سيادة النساء كرمز لسيادة الإنسان.. انطلاقاً من قيم يجب أن يدركها العالم، ويُعيد من خلالها النظر في علاقته بالنساء والرجال والمجتمع؛ وهي دعوة لإعادة الاعتبار للذات الإنسانية، انطلاقاً من ذات المرأة كمحور للذات الإنسانية.. وربما أن الفنانة وهي تمزج بين تقاسيم وجه المرأة وتقاسيم وجه الرجل، تريد أن تقول إن المرأة هي رمز للمجتمع الذي ننشده ونحلم به.
قد يقول البعض: إن اللوحات صامتة وساكنة، وفي نفس الوقت أقرب للبورتريهات؛ إذ تستهدف الرأس والجزء العلوي من الجسد بشكل مباشر؛ وهي الأجزاء التي تستهدفها البورتريهات.. لكن هؤلاء النساء هن مجرد أشكال من نسيج خيال الفنانة، وقد اشتغلت على تفاصيلهن بتجريدية انتقلت معها اللوحات إلى عوالم جديدة تقول الكثير، وفي نفس الوقت لا يمكن الجزم بما أرادت قوله تحديداً، وهنا تتجلى قيمة العمل التشكيلي.
وفي محاولة للإمساك بقراءة موضوعية محددة لدلالات كل عمل، سنجد كل عمل يحتشد بتفاصيل كثيرة تفتحه لاتجاهات كثيرة؛ فما تزدان به هؤلاء النسوة، يعكس مدى حرص الفنانة على منح كل امرأة انتماءً معيناً في سياق حرصها على التنويع في المعالجات الموضوعية.. في دلالة على التنوع الذي أرادت للمرأة أن تكون رمزاً له، وعلينا أن نحترمه لنتعايش بسلام.
ومما سبق، فإن الاشتغال التقني والموضوعي للنصيري على هذه الأعمال، اتسع ليعكس خبرات وقراءات، نتج عنها قراءة واعية في محاولة لتصحيح قيم إنسانية.. وكأنها تقول لنا: متى ما أنسنا رؤانا وعلاقتنا بكل شيء حولنا، فإن أحلامنا ستتحقق وسيعم السلام عالمنا.. لكن علاقتنا بالمرأة (التنوع الإنساني) هي مبتدأ اختبار إنسانيتنا؛ فمتى ما تأنسنت هذه العلاقة بالتنوع، يمكن لإنسانيتنا أن تُعيد الاعتبار لعالمنا من خلال التعايش.
-
عن مجلة الشارقة الثقافية