*زاهي وهبي
كلما غاب شاعر نقص منسوب الجمال في العالم، هذا ما يردده الأدباء والنقاد رثاءً لراحل هنا ومغادر هناك، لكن السؤال المعلّق دائماً هو كيفية المحافظة على شعر الشعراء بعد غيابهم، وما السبل المثلى لِصَوْنِ إرثهم الإبداعي من النسيان والضياع، وهل يكفي البكاء على أطلال شاعر لِنفِيه بعض ما يستحق، ومتى (أقلّه) نقتدي بسوانا من أمم تحرص على مبدعيها في الحياة والممات.
المصري عبدالرحمن الأبنودي، السوري عمر الفرَّا، السوداني محمد الفيتوري والبحريني عبدالرحمن الرفيع أربعة ممن أثروا المشهد الشعري العربي بلغة الضاد وعامياتها رحلوا تباعاً، كأن العام ٢٠١٥ الميلادي المكتظ بالموت الزؤام، وبالجثث المتناثرة والرؤوس المقطوعة، المتشح سواداً المكفهر وجهاً وقسمات قد إنتخب بعض مَن يؤنس وحشته وفظاعة حتميته، فلم يجد خيراً من الشعراء يخفّفون عنه بعض ما تجني يداه. وما يهمنا في شعر هؤلاء الراحلين مسبوقين بكوكبة أخرى رحلت في العام ٢٠١٤ منها سعيد عقل وجوزيف حرب وسميح القاسم وأنسي الحاج وجورج جرداق، ما يهمنا فضلاً عن البيان والبديع ومهارة الصناعة هو ما يحمله شعر أي شاعر من سمات رفض وتمرد وخروج على الطاعة وانحياز الى الانسان الفرد والجماعة، وحقه في الحرية والعدالة والمساواة في الحقوق والواجبات.
قد يطلق الشاعر، أي شاعر، مواقف لا تعجب البعض هنا أو تغضب البعض الآخر هناك، وقد تكون له زلات أو هِنات بل سقطات أحياناً، اذ أنه في نهاية المطاف إنسان غير معصوم، لكننا لسنا الآن في صدد المساءلة أو المقاربة النقدية لآراء الشعراء الراحلين ومواقفهم، إنما نتطلع الى الإرث الشعري العام، والى القصائد التي تحيا وتستمر وتعبر في الزمان بمعزل عن شعرائها المحكومين كما البشر جميعاً بالفناء الجسدي، لِنَحضّ على صون هذا الإرث بوصفه عاملاً من عوامل الإرتقاء بقيم الحُبّ والخير والجمال وسواها من صفات نبيلة تسمو بالانسان الى أعلى.
في بلاد الدنيا، خصوصاً في الدول المتقدمة، تحرص الجهات المعنية من وزارات ثقافة وسواها على حماية ليس فقط حقوق الملكية الفكرية والأدبية للمبدعين، بل تقيم على أسمائهم المتاحف ومراكز البحث والكراسي الجامعية وغيرها مما يحفظ ذكرهم ويخلّد عطاءاتهم، وكم من مدينة حول العالم تُفاخِر بأنها تضم بين جنباتها وحواريها منزل هذا الشاعر أو ذاك الموسيقي، وبعض تلك المنازل متاحٌ للزوار والسياح بوصفه معلماً وطنياً ثقافياً لهذه الدولة أو تلك.
لن نعقد مقارنة ظالمة بين واقع الحال عندنا وعند سوانا، فالحقيقة مؤلمة وجارحة، وكم من مَعلم إبداعي صار الى زوال ليقوم مكانه مبنى إسمنتيٌّ بشع لا يمت لفضاء مكانه بأي صلة، ولئن كان الإرث الحضاري الهائل عرضة للتدمير والتخريب على أيدي مغول العصر في العراق وسورية وسواهما، فما بالنا بالمبدعين البسطاء الذين لا حول لهم ولا قوة سوى كلمتهم الحية المبدعة.
لعلنا لو ربينا أجيالنا منذ الصغر على تذوق الشعر والموسيقى والغناء والرسم والنحت والرقص وسائر الفنون، لعزّزنا في نفوسهم نزعات الخير والجمال ومنعنا انجرافهم في تيارات التطرّف والتشدد والعنف والتوحش، على أن يكون كلُّ هذا مسبوقاً أو معطوفاً على تنمية بشرية واجتماعية حقيقية، لا تقوم فقط على شعارات جوفاء واقتصادات ريعية و»نموٍّ عقاريٍّ» خُلَّبيٍّ بل على أسس علمية واعية منتِجة وعصرية.
كي لا نطيل شرحاً في ما بات بادياً للغالبية، ما نود قوله الآن في حضرة الغياب هو ما بدأنا به: صون إرثنا الشعري من النسيان والطمس والإندثار، والوقوف إجلالاً بين يديّ صنّاع البيان.
_______
*الحياة