“حيوات سحيقة” جمالية الثقافات وأبعاد الروح

* د. علياء الداية

 مدينة لندن تشكل في الرواية نقطة التقاء ثقافات “صالح” الخارجية والداخلية

 الرواية تنفتح على إمكانيات كثيرة وتأويلات لما يجري مع بطلها

novel

رواية “حيوات سحيقة” للروائي يحيى القيسي التي صدرت حديثاً 2020 عن دار خطوط وظلال في عمـّان، تغوص في عالم متشعب من الثقافات، منها ثقافات خارجية في البيئة المحيطة ببطل الرواية، وثقافات داخلية حيث يمضي في رحلة داخلية لم يخطط لها. 
لقد كانت الأحداث المفاجئة، إلى جانب شخصية صديقه المخرج البريطاني “غاريث”، وصديقته الجديدة “أليس” روابط لعبت دور الوسيط في إيقاظ تنبه بطل الرواية الشاب “صالح” إلى وجوده والبحث فيما وراء حياته اليومية المعتادة: “لا أؤمن بالصدف أبداً، فكلّ شيء في هذا الكون يبدو مرتباً، ويحدث لسبب معين.. فالمقادير تساق بأعنـّة خفية في ذلك العالم الغامض.. يخيل إلى صالح.. أن مخططاً كونياً جاهزاً لكل واحد منـّا كي يتورط فيه.. بدا له كل شيء مرتباً بشكل دقيق”.
ويبرع سرد رواية “حيوات سحيقة” في شد القارئ وتركيز انتباهه إلى المرحلة الوسيطة في حياة “صالح”، بين الثقافات الخارجية المحيطة به، والثقافات الداخلية التي تنطوي عليها شخصيته. وتتمثل هذه المرحلة الوسيطة في الحدث المهول الذي أدخله في تجربة ذات تأثير عميق على الصعيدين الفيزيائي والروحي. فقد انزلقت قدمه حين كان يقف وحيداً على مقربة من موقع التصوير حيث يعمل ضمن فريق، وهناك وسط الطبيعة والجبال والصخور، استيقظ ليجد نفسه عالقاً في كهف مخيف ليس فيه سوى التراب والظلام الذي أخذ يخيم على المكان وما من أحد حوله، “فيما هو يحاول أن يتشبّث بأيّ شيء تستطيع يداه أن تصل إليه خوفاً من النزول إلى الحفرة مجدداً، اكتشف أنّ عمقها إلى الأسفل لا يكاد يطاول جسده، وأنها تنفتح أكثر إلى الأعلى من الداخل. بدت له باباً لكهف مهجور، ربما لم يصله أحد منذ زمن طويل، أو ربّما نافذة تهوية لقبو سرّي؛ إذ من الصعب التأكّد من أيّ شيء وسط كلّ هذه العتمة.”

صالح لا يقف على أرض صلبة، كل ما يحيط به في حال من التغير والتبدل، صداقاته مع “غاريث” و”أليس”، تنقله من عمل إلى آخر، وهذا ما يحتم عليه أن يتقبل حياته كما تتبدى له في أطوارها وتحولاتها

صور قديمة:

لقد مرت التجربة ليتمكن من استعادة توازنه الجسدي، غير أن الجديد كمن في الصور الكلية التي تتراءى أمامه فيعيشها وكأنها مشهد من فيلم حقيقي هو بطل فيه. إن “صالح” يخرج من هذه التجارب بخبرة جمالية تدهشه، وفي الوقت نفسه تشكل صدمة إضافية له بعد صدمة الكهف، فهي توقظ فيه مشاعر العجز والذهول وقلة الحيلة والاستسلام، أمام صور قديمة تتجلى من عصور سالفة حيث عانى من واقع السجن أو الانجراف بسيل مائي هادر أو النبذ الاجتماعي، وهي ذات المشاعر التي تخلو منها حياته التي يعيشها، فمن أين اقتحمت هذه المشاهد وعيه؟ 
“أخبره بأنه توقف فجأة هناك حينما رأى سيلاً هادراً يتدفق إلى “السيق” من جهة اليمين؛ حيث يتلاقى هذا الشق مع مدخل لأحد الوديان. كان جارفاً وقوياً يكاد يرتفع نحو المترين. لهذا وجد نفسه يهرب إلى أي مكان مرتفع وقريب حتى لا يطاله الغرق. قال: إنه رأى مجموعة من السياح تبدو من ملابسهم أنّهم قساوسة ورهبان من الأجانب، وقد داهمهم السيل وجرفهم معه بقوة، وهم يصرخون. لم يكن الطقس ينذر بمثل هذه التقلبات، ولم يكن ذلك الممر الصخري على حدّ معرفته به، منفتحاً على ما تجود به السماء في الأودية المحيطة به، وحين بدأ باستيعاب ذلك غاب السيل فجأة كما ظهر، وعاد السّيق مثلما خبره قبل لحظات جافّاً، ووجد نفسه واقفاً دون حركة، وذاهلاً عن نفسه، و”غاريث” أمامه يهدئ من روعه”.

حيوات كثيرة: 

أسئلة تدور كذلك في خلد “صالح” ويحتفظ بها لنفسه: “هذه هي المرّة الثانية التي تداهمه فيها مثل هذه الحالة، حيث يختلط عليه الأمر، ويدخل في تشنّجات محيّرة، كما لو أنه عاش حيوات كثيرة من قبل، وها هي بعض أحوالها تحضر في حياته هذه بكل سطوة، ودون أيّ استئذان.” إلى أن تحين فرصة فيشارك صديقه المخرج “غاريث” ومن ثم صديقته الجديدة “أليس” هذه الهواجس، وهكذا فإن هذين الصديقين من ثقافة مغايرة يمهدان له طريقاً كي يلتقي في لندن بالخبيرة “دورثي” المتخصصة في التنويم المغناطيسي. فهو يفكر أولاً فيما تقوله “أليس”: “طلبت منّي أن أراجع طبيباً نفسياً، ما دام الأطباء الذين عالجوا جروحه لم يكتشفوا أي أثر لتلف في الدماغ، أو تأثير على الوعي، لهذا يمكن أن يسعى الطبيب النفسي لمعرفة نوبات الهذيان التي تنتابه، وبالتالي إمكانية معالجته.” 
كما فهم “صالح” من “غاريث” صديقه “أنه لا يؤمن بفكرة الحيوات السابقة رغم انجذابه للحكاية، ولا علاقة قوية له بالروحانيات، والظواهر الغامضة التي قد تجري أحياناً هنا أو هناك، لكن من الممكن أن يستفسر له عن هذا الموضوع من بعض أصدقائه في “لندن” الذين لهم مثل هذه الاهتمامات، أما ما يتعلق بالكهف، فقد كان مندهشاً جداً مما جرى فيه”.

اكتشاف الثقافات:

إن مدينة لندن تشكل في الرواية نقطة التقاء ثقافات “صالح” الخارجية والداخلية، فثقافاته الخارجية تظهر في كل ما يحيط به وما يقف على مسافة منه في الوقت ذاته، وتتمثل في كل من أصوله البدوية، وأسرته في مدينة الزرقاء ففيها والدته وأخواه اللذان يختلف كل منهما في مهنته وتوجهاته الفكرية، والجيران الذين لا يشاطرهم “صالح” سوى القليل من الأفكار والعادات والتقاليد، فهم عينة مصغرة من المجتمع بما فيه من أمور تقيد أفكار “صالح”، إذ “يمكن أن يتحول أي موضوع عادي إلى نكتة الموسم، أو يعرف القريب والبعيد بتفاصيل حياة أي شخص، ويتبرع في إضافة الكثير من الحكايات الفرعية إليها، أو رش “البهارات” عليها إضافة وحذفاً”. 

كل ما تبحث عنه ستجده في داخلك

إن صديقته “أليس” والمخرج “غاريث” شخصيتان قادمتان من ثقافة أخرى، تقع ضمن حيز الاستكشاف الجميل بالنسبة إلى “صالح” ويشعر بالارتياح إليهما مادام في مواقع التصوير ضمن بلده أو في مدينة “عمان” المألوفة لديه. أما دول الجوار فيجد فيها “صالح” بعداً ثقافياً متجانساً مع الموروث الاجتماعي في بلده ونمط القيم الأصيلة. ويشكل عمله الذي التحق به مؤخراً في مجال البحث الأكاديمي مكوناً ثقافياً جديداً بالنسبة إليه، ولكنه يغني تجربته ويتضافر مع التهيؤات التي أخذت تتجلى أمامه بعد حادثة الانزلاق. وتؤدي شخصية “بيركهارت” الرجل السويسري الذي يدور حوله الفيلم خلفية تاريخية للمنطقة، فقد أقام هذا الرجل في مدينة “حلب” حيث تعلم اللغة العربية، ثم جاء إلى “البتراء” متخفياً على أنه في طريقه إلى الحج.

الجمال والدهشة:

إن الخبرات التي طورها “صالح” خلال حياته تبدو أشبه بثقافات داخلية تشغل حيزاً في تكوينه وتلقي بظلالها على القرارات التي يتخذها، فحبه للطبيعة وإعجابه بجمالها وبمشاهدها الخلابة دفعاه إلى قرار انتهاز الفرصة والتقاط صور مميزة، مما جعله يغفل عن خطورة المكان فينزلق ويكاد يفقد حياته: “رفع رأسه باتجاه الأفق الغربي، وتنهد طويلاً وقد هاله ذلك الجمال المثير لقرص الشمس وهو يغطس ببطء ساحباً معه عباءة الليل، ومشكلاً لوحة فريدة لبقايا الغيوم التي تلونت ما بين الأحمر القاني والأصفر الذهبي، واشتبكت مع بقايا الضوء الواهن. أحس حينها أن مثل هذه اللحظة الكونية لن تتكرر مجدداً بمثل هذا البهاء نفسه، وفي مثل هذا المكان بالذات. لهذا بدأ بتغيير موضعه قليلاً للقبض على ملامح السماء في دهشتها البدائية عبر عدسة هاتفه النقال”. وعلى صعيد آخر فإنه لا يستطيع اتخاذ قرار بشأن صداقته مع “أليس” بسبب ما مر به من تجارب سابقة، أما الخبرة الأعمق أثراً فهي تخصصه في دراسة التاريخ، وتنقله بين عدة مهن ذات صلة به، كانت الأولى التدريس، والثانية العمل في نطاق الأفلام الوثائقية، والثالثة مهمة البحث ضمن مركز أكاديمي ذي مستوى رفيع.
لقد كان لقاؤه بالخبيرة “دورثي” في لندن بوابة أخرى نحو محاولة فهم ما يجري، تقول له: “يمكن أن أقول لك بشكل أولي: إن مشكلتك كما تبدو لي جسدية ونفسية معاً من زمانك هذا… كل ما تبحث عنه ستجده في داخلك”.
ومن ثم فإن الرواية تنفتح على إمكانيات كثيرة وتأويلات لما يجري مع بطلها “صالح”، ولا سيما أنه لا يقف على أرض صلبة، كل ما يحيط به في حال من التغير والتبدل، صداقاته مع “غاريث” و”أليس”، تنقله من عمل إلى آخر، وهذا ما يحتم عليه أن يتقبل حياته كما تتبدى له في أطوارها وتحولاتها. 

 

يحيى القيسي: روائي وباحث أردني مقيم حالياً في بريطانيا، من رواياته: أبناء السماء، الفردوس المحرم، بعد الحياة بخطوة.

  • د. علياء الداية : ناقدة وأديبة سورية، وأكاديمية في جامعة حلب

  • عن موقع: ميدل إيست أون لاين – بريطانيا

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *