مرايا الروح


*هدى درويش


بعض الكتابات لا تكون كغيرها ولا يمكن لها أن تكون، وحدها طقوس الحرف حين نمارسها طويلاً، تزرع في الأنامل يقين الأمكنة، لها أرواح كالبشر تشعّ في مرايا الروح وتترك أطيافاً تجعل الكاتب نبيّاً يبث في القارئ نَفَسَ البحث عن الذات، هي «وهران» بكلّ ما عليها ورغم أنّ الحداثة أفقدتها الرونق الذي في خاطري، تبقى في عقيدتي الورقية المدينة التي دائماً تنتصر وتشدّ وهج حقائبي من أبعد أصقاع الدنيا مناجاة لبحرها وعنفوان طنفها الليليّ وشواطئها الحجرية البعيدة، هنالك أين تجتمع -في نظري- كل الكائنات الحبرية وتنتظر على سرائر العابرين فرصة اكتشاف بوهيمياتها الغريبة. 
لا يمكن لبعض الشعر أن يكتب في غير منبر وحيه، والنثر أيضاً، فبعض الأماكن تمطر تراتيل الأمسيات ولا تتعب من مخاض الأوجاع ولا تكتفي من مواليد البوح، هي مدائن الأسرار الكبيرة التي تسع القادمين من رحم أسوارها دائماً ودون أن تعترف بمقاييس الديموغرافيا أو قوانين الأضواء الغفيرة، هي كما تقول الكاتبة الإيرانية زويا بيرزاد عن مدينتها طهران: «القبيحة المحاطة بجبال عظيمة»، وعلى الرغم من ذلك تبقى أجمل بقاع الأرض في وجدان عاشقيها.
إنّ المكان ليس مجرد حيّز من فراغ، هو هويّة قائمة بذاتها وقرينة حضارية لرابطة الانتماء بكلّ أبعادها، هو الكينونة الحيّة للجماد حين تحمل شقاء الحلم أو وجع الجذور.. ما زالت أجمل شرفة في «كلارمون فيرون» لا تعادل في ألفتي الجائعة بستان بيتنا العائلي القروي القديم الحافل بالتوليب والنعمان، عجيبة هي الذاكرة وأنا كلّما كتبت تشابكت من حولي أعصاب الحنين، ورتّلت على مسامعي الأنشودة الاستفهامية الكبيرة « من أين أتيت؟»، لا تتركني الأماكن الأصلية وشأني حيثما ذهبت، تشدّ أوتار الأنثى بداخلي وتحدّثني بصوتها العالي كشيزوفرينيا تحميني من الانفصام عن بعض الثوابت، ما زلت أستحضر أول قصيدة كتبتها كلما رفعت قلمي ونظرت من حولي إلى اختلاف كل شيء وأبتهج أحياناً من علاقة النفور التي تجمعني بكلّ ما هو دخيل على «الأنا الكلاسيكية»، التي تحيا بين ضلوعي بسلامها الأبدي الخامل.
ما زلت أحلم أيضاً بكتاب يكون عنوانه يوماً «وهران كانت لنا»، وأكون أنا كبينلوب رونالز، وتكون وهران كباريس بقاعات الأوبرا، ومكتبة في زاوية كل شارع، وقرّاء بالآلاف في ترامواي المدينة، وأكتب وأطبع وأقرأ وأستغني بكل إرادة عن تذاكر الأسفار والانتظار في المطارات الدولية، وأن تكون المدينة العربية بلا حدود، وألّا يسألني البحر عن شرعيّة أحلامي .
______
*الدوحة

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *