بول ريكور وفلسفة العصمة والخطأ

*د. نادية هناوي

 

الفلسفةُ شكلٌ مهمٌ من أشكالِ التفاعلِ الإنسانيّ التي بها يتجرد الإنسانُ من خصوصيات النظر الواقعي التقليدية ليغوص في عمومياتها،

متأملاً إياها بكليانية عقلانية، محاولاً الإحاطة بسطوحها وأعماقها. وبغيته من وراء ذلك البحث عن الحقيقة في تجردها ونقائها.

ومنذ فجر البشرية كان النظر إلى الوجود وما بعده مثار تحدٍ للانسان الذي انشغل مفكراً فيه، حتى استطاع بلورة الأساطير، محاولا فهم الوجود والوقوف على مقتضيات نظامه والكيفية بها صارت المتضادات أساس عمله. وبالرغم من أن ليفي شتراوس رفض في كتابه “الاسطورة والمعنى” وصف الشعوب الأولى بالبدائية، وفضَّل أن نستعمل بدلاً عنها عبارة ( الشعوب التي لا تكتب أو دون مستوى الكتابة without writing أو الشعوب دون مرحلة الكتابة)؛ فإنه وجد أن رؤى واعية ولا واعية استوعبها الفكر الانساني بطوطمية آنذاك، من قبيل تفسير حقيقة الليل والنهار وجدلية الموت والحياة وتعادلية الذكر والأنثى وحتمية الخير والشر وغيرها من الثنائيات الدنيوية التي أثارت الاستغراب منذ فجر التاريخ، حتى تمثلها العقل البشري جينالوجيا لتكون جزءًا من المخيلة الانسانية ومن التاريخ.

ولقد ذهب ليفي شتراوس إلى أنّ هناك تعارضاً بسيطًا بين الأسطورة والتاريخ بسبب وجود علاقة وسيطة مشتركة بينهما، في شكل نسق مفتوح، يسمح بالانتقال عبر الاجيال بطريقة اللاشعور الجمعي كشعائر طقسية واحتفالات موسمية وتوريات ثقافية في شكل رقى وتمائم لا تخلو من الخضوع والاقرار والتسامي والانبهار.

وتتسم هذه المرحلة بأنها رمزية استعارية كأحد أطوار اللغة التي مرت بها البشرية، وفيها بَحَثَ الانسان عن الحكمة ناشدا إياها في الحكايات الخرافية والملاحم الشعرية والامثال والشعر التمثيلي بنوعيه التراجيدي والكوميدي، غير أنَّ البغية ظلت هي نفسها أعني محاولة فك لغز الكون ومعرفة موقع الإنسان فيه. فكانت الملاحم (جلجامش والاوديسة والالياذة) والمسرحيات التراجيدية الأغريقية وغيرها، عبارة عن محاولات أبداعية في تفسير علاقة الانسان بالالهة وعلاقة الآلهة ببعضها، مستقية من الأساطير بعضًا من موضوعاتها، كي تعبر عما ينتظر الانسان في عالم غير أرضي سفلي مريع ورهيب، وما على الانسان سوى أن يعد العدة لهذا العالم، مثلما أستعد له أسلافه في العصور القديمة مرة في شكل اهرامات وزقورات، ومرة أخرى في شكل بيوت تحوي قبورهم، قربين من بعضهم احياء وميتين، تخفيفا عن وطأة ذلك العالم المرعب الذي يسكنونه أو سيكونون ساكنيه.

وعلى الرغم من أن الحكمة التي أرادها الانسان قديما درءًا كطقوس وأدعية، قد حققت للفرد السكينة وهيأت للجماعة الطمأنينة على الصعيد الديني، فإن ذلك لم يكن كافيًا على الصعيد الفكري عند أفراد شغلتهم مسألة الوجود وما بعده، وبهرهم الكيان الانساني ودقة خلقه وادهشتهم الطبيعة كما حيّرهم الشر، فانقطعوا إلى التفكر والتأمل، مرتفعين بالحكمة الى مرتبة أعلى هي الفلسفة التي فيها تجسّدت قوة العقل الإنساني وقدرته في النظر إلى الأشياء وتقليبها على مختلف الوجوه سطوحا وأعماقا، حتى دخلت البشرية على أيديهم مرحلة جديدة باتجاه التجرد من سطوة السحر والاحلام والاستبدال لها بالعلم والمعرفة.

هكذا ظهر فلاسفة أغارقة رواقيين وسفسطائيين ثم مصريين وبابليين وبوذيين وهندوس وصينيين وزارادشتيين، لكن المهم ما وصل إلينا من نتاج الفيلسوفين افلاطون وارسطو اللذين كان لهما أكبر الأثر في دفع الفكر البشري نحو الامام. فأما الأول فتأمل مدينة أرادها سعيدة توصل إلى حياة يعمَّها السلام والجمال، وأما الثاني فأولى العقل والمنطق والفن والشعر الاهتمام، واضعاً بذلك قواعد الفكر الإنساني.

وعلى الرغم من أثرهما البالغ في توكيد قوة الفكر وفعل المخيلة في الطبيعة، فإن الفلسفة اليونانية بعدهما شاخت حتى كادت أن تموت، ولولا أن هذه الفسلفة نُقلت إلى السريانية ثم إلى العربية أبان القرن الثالث للهجرة، لاندثرت هذه الفلسفة ولضاعت؛ ولقد أضاف الفلاسفة المسلمون إليها الكثير، معززين إياها بالرؤى والتصورات الإسلامية.

وواحد من الذين أسهموا بذلك افلاطون ولاسيما كتابه( الجمهورية) وفيه وقف مليّا عند المدينة الفاضلة وانشغل بالنفس الانسانية، التي هي عنده بمثابة حقل قوى، يتعرض للتجاذب المزدوج من العقل والمجاز والمماثلة والرمزية والمثال، ولأننا بواسطة النفس نعمل ونتعلم ونغضب ونرغب، عندئذ تبدو النفس التي هي الحد الثالث الذي يسميه افلاطون( تيموس ) لغزاً محيراً. ومعلوم أن المعرفة كنظرية هي السابقة على الإرادة كفلسفة، ولقد عالج فلاسفة كثيرين نظرية المعرفة مقدمين طروحات مختلفة.

من هذه التأثيرات والامتدادات انبثقت فلسفة الإرادة عند ريكور الذي حدَّد صيغها، وبيَّن تفرعاتها، وصنَّف أشكالها في كتابه( فلسفة الارادة الانسان الخطّاء) كما مثَّل على تموضعاتها التي تستند على دعائم فكرية مختلفة ذات مفاهيم خاصة وتجليات محددة.

ولا شك أنَّ للرؤية الأخلاقية للعالم أثرها في الذهاب بالفكر الى أبعد حد ممكن في هذا الاتجاه، لهذا كان استدلال ريكور على هذه الفلسفة ممنهجا بمفاهيم محددة واصطلاحات مخصوصة تنطوي على البعدين النظري والاجرائي؛ انطلاقا من حقيقة أنَّ تدشين المفهوم يتطلب ذوقاً فلسفياً خالصاً قد يعمل بالعنف وقد يعمل بالالماح، مشكِّلا داخل اللغة لغة للفلسفة، والمفهوم ليس فقط مجرد قاموس مفردات وانما هو سياق يرقى إلى مستوى سامٍ أو جمالي.

ويعد مفهوم اللاعصمة واللاتناسب من أهم المفاهيم التي عني بها ريكور بوصف اللاعصمة فكرة ترى أنَّ الانسان ميّال إلى الشر، ومهيأ للوقوع في الخطأ أو الأثم، ويشرح ريكور تلك الفكرة، بالقول: ( بما أني أنا لست الكائن الأعظم أجدني معرضاً إلى ما لا نهاية له من الاخفاقات، بحيث أنه لا ينبغي لي أن اندهش عندما أخطئ).

وإذا كان افلاطون قد وضع لغز النفس في ( التيموس) الذي هو انتقال من البيوس إلى اللوغوس أي من الحياة إلى العقل؛ فإن ريكور يرى في النفس هشاشة العاطفة التي فيها هشاشة الوعي وهشاشة الذات، وأن في القلب تتجسد لحظة الضعف، ومن ثم تصبح امكانية الخطأ محتملة، بمعنى أن ضعف الأنسان هو الذي يجعل الشر ممكناً، غير أن هشاشة الوساطة التي يجريها الانسان في الموضوع، لا تمنعه من أن يكون ( قادراً على الأمرين: الصواب والخطأ، الخير والشر، الحسن والقبيح).

وإذ توضح لنا سر الإنسان في كونه خطّاء، و(أن إمكانية الشر المعنوي منقوشة في تكوين الانسان)، فإن مفهوم اللاعصمة سيقودنا إلى محدودية المخلوقات بوصفها عدمًا ولا كينونة، وفي هذين الأمرين يكمن اللاتناسب بين الوجود والعدم. ولا يتوانى ريكور من تأكيد أنَّ اللاتناسب والبؤس هما اللذان يجعلان رهان فلسفة الشعور قائماً على الفارق بين التفسير المحض المتعالي للاتناسب والتجربة المعاشة للبؤس، مؤكدا أنَّ المسألتين مترابطتان مسألة المنهج والمضمون، ومسألة عدم تناسب فلسفة الشعور مع إنجاز التأمل، مشدداً على ضرورة حل هاتين المسألتين معا.

وهذا البرمجة الذهنية للإنسان الخطّاء هي علم التعاليم التي تعفي الانسان من الخطأ وتقيه الزلل، وكان سبينوزا قد حددها في المنهج القويم الذي يبين كيف ينبغي أنْ نوجه فكرنا وفقاً لقاعدة الفكرة الصحيحة أولاً، وآخراً كيف يكون توجيه الفكر وفقاً لمعيار الفكرة الصحيحة من كوننا نثبت ذلك بواسطة الاستدلال. وهو ما سيؤكده من بعده فردريك هيغل الذي لا يرى الحقيقة عملة مسكوكة يمكن للمرء أنْ يسلمها جاهزة ما دام هناك ثمة كذب أكثر من الشر. ولا ريب أن الشر والكذب ليسا إلا كليات، لكنه مؤمن بالعبارة القائلة إنه ثمة في كل كذب شيء من الصدق، فكلاهما يصح كالزيت والماء اللذين لا يختلطان ولا يترابطان إلا من وجه براني.

والحقائق عند هيغل أنواع منها التاريخية التي هي (ليست براء من حركة الوعي بالذات ولكي يعرف المرء واحدة منها يلزم الكثير من المقارنة والرجوع الى الكتب أيضاً أو كيفما كان الأمر ينبغي تعقب البحث فيها). بهذا تكون اللاعصمة دليلاً على ضعف الإنسان حين يتغلب عليه الشر، وبرهاناً على قوته باللاتناسب حين ينحسر لديه الشر ويطغى عليه الخير.

_______________________

*المصدر : المدى

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *