احتفاء فرنسي بمئوية بول ريكور



*أبو بكر العيادي

من النادر أن تشهد مئوية مولد مفكر معاصر ما تشهده مئوية بول ريكور (1913 – 2005)، فإلى جانب الملتقيات والندوات والحلقات الدراسية التي تنظم في مدن فرنسية كثيرة وفي بقاع أخرى من العالم، أعيد طبع مؤلفاته، وتهاطلت الإصدارات التي تعكف على درس فلسفته ومدى حضورها في المشهد الفكري الراهن، من بينها “بول ريكور” لجان غروندان، “عذاب وألم” لكلير ماران ونتالي زكّاي رينرس، و”صياغة الذاكرة “لمجموعة باحثين تحت إشراف فرانسوا دوس وكاترين غولدنشتاين.

ويعدّ بول ريكور من أهم الفلاسفة الفرنسيين الذين طوروا البحث في حقل العلوم الاجتماعية بصفة خاصة، والعلوم الإنسانية بصفة عامة. فقد جاب تقريبا كل مجالات المعرفة، من فلسفات الوجود والفينوميلوجيا والتأويلية والتحليل النفسي والألسنية والتفسير التوراتي، إلى الفكر السياسي والشعرية والتنظير الأدبي والإبستيمولوجيا والفلسفة التحليلية ونظريات العدل أو التاريخ، دون أن يتجنب مناقشة أفكار القرن الكبرى.
ومن الطبيعي أن يحصد اليوم ما زرع، وأن يكون للأفكار التي ما فتئ يسائلها حضور يشهد على جدة استكشافه ذاك. وما الكتب الصادرة بهذه المناسبة إلاّ خير دليل. لقد كان له في حياته جدل نشيط مع الآثار الكبرى لكثير من الفلاسفة عبر التاريخ، من أرسطو إلى كيركيغارد وياسبرس وسبينوزا وهوسرل وهيغل وهايدرغر وماركس ونيتشه وفرويد وآنا أرنت وليفيناس، تغذى منها وأضاف إليها، في سعي منه إلى فهم الإنسان، عبر ماضيه وحاضره، عبر فرحه وآلامه.
فلسفة الإرادة
قد تبدو فلسفة ريكور برغم ثرائها وتعقدها بعيدة نوعا ما عن الأفكار التي تتداول الآن، مقارنة بفلسفة بعض معاصريه مثل جيل دولوز وميشال فوكو وجاك دريدا وليفي ستراوس.. غير أنها أكثر ثراء، فهي لم تتخلف عن الخوض في عدة مفاهيم كتاب من الذات كشخص آخر لبول ريكور محورية كالذاكرة، والنسيان، والتاريخ، والمشترك، والألم.. وكلها مفاهيم لم يفقدها الزمن راهنيتها، فالأسئلة الأخلاقية، كونية كانت أم راهنة، لا تفتأ تتغذى من إسهاماته الفلسفية، التي تتميز بقدرتها على استيعاب اللحظة ومبدأ الحدث. حتى أن ريكور لا يزال، بعد وفاته بثماني سنوات، أكثر المفكرين الفرنسيين في القرن العشرين مقروئية وترجمة في العالم.
يندرج فكر ريكور ضمن التقليد الفلسفي التأملي كما عرفناه لدى ديكارت وكانت، ويتجلى أكثر ما يتجلى في إطار الفينومنولوجيا، هوسرل ومرلو بونتي بخاصة، كما في كتابيه البارزين “من الذات كشخص آخر ” و”الذاكرة، التاريخ، النسيان”، وكذلك في عشرات النصوص الأخرى مثل “فلسفة الإرادة”، “الزمان والسرد”، “الحب والعدل”، “العادل”.. فريكور كان حريصا على فهم الإنسان، الذي نذر له حياته، وعاين لديه خاصيتين متناقضتين ومتلازمتين في الوقت نفسه، فهو في نظره “فاعل” و”متألم”.
وأعمال ريكور في مجملها يؤلف بينها ذلك السؤال الأزلي الذي نشأ مع الفلسفة نفسها: ماذا يستطيع الإنسان؟ ماذا يعني جهده؟ وما هي إمكاناته وسبله؟ فهو يتساءل، مثل كانْت، عمّا يجعلنا نأمل، رغم نهايتنا المحتومة، ورغم تراجيدية وضعنا البشري وآلامه. ويجيب بأن حتمية انتهائنا تلك هي أصل كل الإمكانات البشرية. وهو ما ركز عليه جان غروندان في كتابه المذكور، حيث يقول “إن فكر ريكور هو فلسفة تحتفي بإمكانات الإنسان” بما تحمله من معنى حاد لمحدودية وجوده، أو للتراجيديا التي تسمّ جهده في تحقيق ذلك الوجود. إذا كان ريكور قد نهل من شخصانية إمانويل مونييه ووجودية سارتر، فإن أول ما اشتغل عليه هو فلسفة الإرادة، وهي فلسفة تحاور كل المعارف الممكنة، بمعزل عن الدغماتية. وقد أخذت هذه الفلسفة عنده شكل التأويلية، التي سار فيها على خطى ديلتي وهايدغر، وتعتبر الإنسان، بوصفه كائنا قابلا للانتهاء، بحاجة إلى تأويل، أي أنه لا يفهم ذاته بالرجوع إلى نفسه فقط، بل يحتاج أيضا إلى انتهاج مسلك طويل في تأويل النصوص لمعرفة نفسه، وخصوصا الكشف عن تجربة الألم. وهو ما تناوله كتاب “العذاب والألم” الذي ضم مساهمات متنوعة تحت إشراف كلير ماران ونتالي زكّاي رينرس. فالألم، بوصفه محصورا ومتواترا، مختلف عن العذاب، الذي يتميز بالجلَد والاحتمال والصبر، ويشمل كل مجالات وجود الفرد، ويشوّش علاقته بالعالم. فالوجود بالنسبة إليه هو أن يكون الإنسان قادرا على مواجهة العذاب والرد عليه. وانطلاقا من تلك النظرة إلى الألم، تتحول التأويلية عند ريكور إلى ما يسميه “أخلاقية صغرى”، تستوجب مساعدة الآخر الذي يتألم، في مسعى شبيه بمسعى إمانويل ليفيناس في أخلاقيته حول المسؤولية. هذا المبحث يتجلى في كتاباته المتعددة عن العدالة والحق، إذ كان يدعو دائما إلى حسن استعمال الذاكرة. وهو ما تعرض له بالدرس والتحليل فريق المساهمين في الكتاب المشترك “صياغة الذاكرة”. يقول ريكور : “تكون الذاكرة عادلة حينما يتعلق الأمر بمأساة، أما الذاكرة السعيدة فمحكومة بالنسيان. والنسيان أنواع، نسيانُ محو، ونسيانُ تحفظ، ونسيانٌ سعيد”. ولا تزال الذاكرة الوسط تغذي الجدل الحالي حول “استبداد الذاكرة”.
إضاءات مفيدة
برغم ما يشاع عن غموض مفاهيم الفينومنولوجيا وعلم التأويل، استطاع فكر بول ريكور أن يقدم إضاءات مفيدة، لأنه هو نفسه مدفوع بإرادة فهم العالم. ويمكن أن نجمل كل المسائل التي تناولها، كما لخصها هو نفسه، في أربعة استخدامات كبرى يمكن أن نحصل عليها من “أنا أستطيع”: أستطيع أن أتكلم (فلسفة اللغة)، أستطيع أن أفعل (فلسفة الفعل)، أستطيع أن أحكي (نظرية السرد)، أستطيع أن أتحمل مسؤولية أفعالي، وأن أعزوها إلى نفسي بوصفي فاعلها الحقيقي (فلسفة الأخلاق).
لقد كانت غاية ريكور “أن نتفلسف معا”، مثلما كان يحلم بفكر يستضيف فكر الآخرين، وأفكارا أخرى، ليعطيهم كل ما عنده. ومن ثَمّ جاءت أعماله شاملة للوجود الإنساني، استلهمت من القديم أقباسا وأضافت إليه مفاهيم جديدة لا يزال المفكرون يولونها بالغ الاهتمام.
______
*(العرب) اللندنية

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *