*رضوان السيد
عندما ألقى بول ريكور محاضرة «الحب والعدالة» عام 1989، كانت تحدوه ثلاثة هموم: هم الخروج على البنيويات والقطائع المعرفية، وهم فتح اللاهوتي على الفلسفي من طريق التأويل، وهم تعميق وتجاوز مفهوم جون رولز للعدالة في كتابه «نظرية العدالة» (1972). فقد جاءت البنيوية باعتبارها نقيضا للماركسية، لكنها ورثت عنها تبسيطيتها، أي البقاء ضمن الأبيض والأسود. فإذا كانت الماركسية أو المادية التاريخية تطورية في روحها ووعيها الذي يغرق فيه النص ويذوب لصالح رهاب التاريخ الهائل؛ فإن البنيوية تضع النص فوق التاريخ أو تعزله عنه في الزمان والمكان والذاتية الإنسانية بالمطلق؛ فإن البنيوية تفصل بين المعرفة والوعي، وتحيلها إلى سلطة (بالمعنى السلبي)، مصطنعة قطائع معرفية تشتت الزمان وانسيابيته بحجة التفاوت أو الفوات. في المادية التاريخية يصبح الدين مرحلة تطورية جرى تجاوزها. وفي البنيوية يتقطع الزمان تحت وطأة المكان ليصير كل تأمل للنصوص القديمة دينا جديدا. وقد قارب التأويليون (وفي طليعتهم غادامر وبول ريكور) البنيوية والوجودية مقاربة نقدية، من أجل اقتراح واجتراح قراءات أخرى لعوالم النص الديني، والموروث الديني، مؤسسين نظرية جديدة لقراءة «النصوص المقدسة» تنبثق عن الفيلولوجيا واللسانيات ونقد النص ونظرية الأدب والأنواع الأدبية، باتجاه حوارية خلاقة وانسيابية بين النص والذات والتاريخ وإنسانية الإنسان. وقد حام بول ريكور طويلا في كتب مثل «الذات عينها كآخر»، و«صراع التأويلات»، و«الزمان والسرد»، ليصل في أواخر التسعينات من القرن الماضي إلى الكتابة مباشرة في تأويل الكتابات المقدسة لدى اليهود والمسيحيين. وكانت عبارته المفتاحية في هذا المجال أن «الكتاب المقدس» أو «النص الديني» هو مرآة الذات! وما كان جون رولز في كتابه العظيم «نظرية العدالة» مهتما بفلسفة الدين أو لاهوته، بل كان يريد إيضاح الإمكانيات الكبيرة للفلسفة الليبرالية الكانطية من خلال تجلياتها في الدولة الديمقراطية الحديثة والمعاصرة. فتحت ستار فلسفة الدولة وفلسفة القانون، مضى إلى آفاق أو قطبي العدالة والإنصاف (Fairness + Justice) أو ما صار يعرف بالعدالة التوزيعية التي تعني واجب تحقيق العدالة، فالإنصاف لأكبر عدد ممكن من الناس بدوافع الاستقرار والتوازن، وما هو أعلى وأبقى: أي الواجب الأخلاقي الإنساني في أرقى درجاته وأكثرها تطلبا للإنصاف، وإذا اخترنا التعبير الإسلامي: الإحسان.
جاءت محاضرة بول ريكور في «الحب والعدالة» إذن كاشفة للعلائق العميقة بين المفاهيم التي تبدو لأول وهلة متناقضة، وفي بؤرتها التداخل المفهومي أو الأوجه المتعددة لقراءة النص الديني، باعتباره مرآة للذات الإنسانية في تساميها وأشواقها. وباعتبارها كذلك فهي تطل على لاهوت المحبة عند مفكري الدين المحدثين، ولدى فلاسفة المثالية الكانطية لأخلاق الواجب، كما لدى الدولة العادلة عند جون رولز.
إن بؤرة التناقض الظاهر بين العدالة والحب باعتبارهما قيمة، وباعتبارهما سلوكا، تظهر في قول المسيح: افعل للآخرين ما تحب أن يفعلوه لك! فهذه هي القاعدة الذهبية، أي التكافؤ والتساوي والتوازن. وإذا صلحت هذه «النفعية» أو النسبية في المجتمعات المتوترة والدول «الواقعية»؛ فإن مقولة المسيح الأخرى تنسف هذا التكافؤ والتوازن: «إن أحببتم الذين يحبونكم فأي فضل لكم؟ وإذا أحسنتم إلى الذين يحسنون إليكم، فأي فضل لكم؟ فإن الخطاة أيضا يفعلون ذلك. وإن أقرضتم الذين ترجون أن تستردوا منهم فأي فضل لكم؟ فإن الخطاة أيضا يقرضون الخطاة لكي يستردوا منهم بالمثل. بل أحبوا أعداءكم، وأحسنوا وأقرضوا وأنتم لا ترجون شيئا في المقابل!». هذا الافتراق الظاهر، يحاول ريكور تجسيره أو إيجاد جسر للتلاقي من خلال مفهوم وممارسة الهبة. فالهبة عطاء من دون مقابل، أو أنها فيض من التعاطف النفسي يتحول إلى فعل، بدلا من المعاملة بالمثل. وهنا ما يزال الحب في موقع المبادرة، بيد أن ريكور يذهب إلى أن لدى العدالة مبادرة أيضا. فممارستها وإن أغاظت بعض الأطراف، لكنها تقرب أطرافا أخرى من الود والتفاهم، بحيث يصح القول إن هناك فعلا تعاضديا بين الحب والعدالة. فالتعاطف يحدد الوجهة، والعدالة تحول دون التنازل عن الحد الأدنى. لكن العدالة إن لم تصحح مسارها النفعي؛ فإنها تنتهي إلى إلغاء للأخلاق. وهكذا يتلاقى الطرفان اللذان ظنا نقيضين على برنامج متقارب.
عند نشر هذه المحاضرة الغنية بالإشارات والإحالات، طلب ريكور من ناشره أن ينشر معها محاضرتين أخريين له هما: «الذات في مرآة الكتابات» (المقدسة)، و«الذات المنتدبة أو المكلفة»، كان قد ألقاهما في أوقات متقاربة مع المحاضرة السالفة الذكر. وهو يذهب في بداية المحاضرة الثانية إلى أنها مناقضة للأولى. ففي الأولى هناك خطاب يتحدى الفرد الذي يكون عليه أن يستجيب عدالة وحبا. بينما في الثانية، هناك الشبكة الرمزية التي من خلالها تفهم الذات ذاتها في التراثين اليهودي والمسيحي. وهنا يستعين ريكور بفتغنشتاين الذي يتحدث عن «الذات المستجيبة». ريكور مهتم بكيفية تحويل الوعي إلى الفعل تحت مظلة قيمة الحب. والنص الديني (وفي الغرب اليهودي والمسيحي: الكتاب المقدس) يصبح مرآة للذات، وتعددية خطابه الظاهر تؤول إلى الأبعاد الفردية المختلفة والمتعددة. يسمي ريكور المشهد اليهودي بالنداء النبوي، وهو نداء – كما يقول الغزالي – صادر عن عين الجود (الاصطفاء والانغمار) أو عن بذل المجهود (المشقة والامتحان والتجاذب). ويعود اختلاف العلائق بالله إلى إرادة الفعل لدى الذات، بين الانغمار والرضا أو الصراع على القرب والحب. والمترجم يسمي الذات هنا: الذات المنتدبة، وهي ترجمة حرفية عن الإنجليزية، وأنا أفضل: المكلفة أو المصطفاة. فالذات النبوية (في التراث العبري)، والمتألهة (في الموروث المسيحي)، هي ذات رازحة تحت عبء التكليف والمسؤولية، لكنها ممتلئة في الوقت نفسه بالحضور الإلهي، وحب البشر وإرادة افتدائهم. ولنلاحظ شبكة الرموز وحدودها وآفاقها في الوقت نفسه: فموسى يتملكه اشتياق الرؤية أو استلابها، فيحال إلى «العوسج الملتهب»، والمسيح يعطي كل شيء. وهذا يذكر من ناحية بالـ«Berufung» أو الـ«Devotion» عند ماكس فيبر، ومن ناحية أخرى بصورة «المعلم الباطني» عند القديس أوغسطين. فلدينا من جهة هذا الفيض من الحب والذي يتحول لدى الإنسان الكامل أو الساعي نحو الكمال إلى أخلاق الهبة والبذل وسلوك التفاني، ولدينا من جهة ثانية الذات المستجيبة الوارثة والمورثة، والتي يتشكل على أساس تجربتها التقليد الواقع بين التعلم أو الاكتساب أو التكليف أو الاصطفاء، وبين التعليم المستمر والمتوارث للتجربة وقيمها. ويريد بول ريكور – مضيا مع مقولة الذات المكّ لفة أو المنتدبة (أي لنفسها) – أن يشتق من ذلك موضوعة الضمير. فهنا تصبح الذات سلطة مستقلة، هي التي عرفت بالضمير أخذا من الثقافة الأخلاقية المتحدرة من الأنوار، والتي يراها بول ريكور ظاهرة عند كانط في نقد العقل العملي، وفي فينومينولوجيا الروح عند هيغل: «فالذات هي التي تستدعي الذات وتختبر قدرتها على الكينونة الأخص بها».
لدينا إذن أربعة أمور للتأمل بنتيجة قراءة المحاضرات الثلاث لبول ريكور: الحب والعدالة، والذات في مرآة الكتابات المقدسة، والذات المكلفة والنداء النبوي. الأمر الأول هو استخدام المنهج التأويلي في قراءة النص الديني، الذي يمثل خلطا كاملا للأوراق يقلب دراسة الدين وفهمه رأسا على عقب، ويفتح المجال واسعا للنظر في القرآن الكريم انطلاقا من هذه المقاربة، لكي نخرج من التأصيل والتاريخانيات والاستعارة من الديانات الأخرى أو افتراض القطيعة بيننا وبين ديننا ومواريثنا. وما من أمة تعرف توحدا بين الذات الإنسانية فيها، ونصها المقدس، مثل الأمة الإسلامية، فلماذا لا نقرأ القرآن باعتباره مرآة للذات في وعيها وفي تعدديتها وتوحدها؟ ولا يخلو الأمر بالطبع من صعوبات، بسبب التراث التفسيري القائم على القطيعة وليس على التواصل، والحصار التفسيري الذي تستنزفه «علمويات» القراءة وأصولياتها. والأمر الثاني: القول بالتقليد والتوارث والتواصل والتداخل بين المواريث الدينية والنصوص الدينية وغيرها. والقول أيضا بدخلنة القيم بحيث يجري التواصل على مستويين: بين المفاهيم المتداخلة في النص الديني، وبين النص والذات القارئة أو المستجيبة. والأمر الثالث: تجديد النظر في الدين ليس باعتباره عقائد وعبادات وحسب، بل باعتباره متضمنا لرؤية للعالم أو لفلسفة له. ويريد ريكور في هذا الصدد تغيير العلائق بين الفلسفة واللاهوت. والأمر الرابع: إمكان الإفادة من المنهج التأويلي في قراءة نصوصنا وتاريخنا الفكري والثقافي. فنحن نعلم أن علماء الكلام تصارعوا معتزلة وأشاعرة على مدى قرون في تقديم إحدى القيمتين: العدالة (المعتزلة) أو الرحمة (الأشعرية). وكل منهم يستند إلى نصوص قرآنية، وإلى فهم مختلف لمنظومة القيم ومقتضياتها (الذات والصفات، والأسماء والأحكام). والمعنى من وراء ذلك أن القيم المنزلة في النصوص والتي تسهم في تشكيل الذات، تعيد الذات من جهتها تشكيلها والتمري بها في عمليات بالغة الثراء ولا تنتهي.
نحن محظوظون بوجود ترجمات ممتازة لبول ريكور إلى العربية تشمل كتبه الرئيسية (ما عدا تأويلاته للكتب المقدسة). وقد قام بترجمة الكتاب الصغير الذي بين أيدينا حسن الطالب من المغرب، وهي ترجمة رائعة. أما المحاضرات نفسها فهي سحر يصعب الخروج من فتنته.
________
*(الشرق الأوسط)