سكان الفعل الماضي المبني على السكون

*إبراهيم نصر الله

ذات يوم كان الماضي عتبة للحاضر
في أيامنا هذه، الحاضر هو عتبة المستقبل
هذه الحقيقة لا تقلل من قيمة الماضي، لأن الحاضر بالنسبة له، كان في حينها مستقبلا، كما هو المستقبل حاضرنا الآن.
لكن عبادة الماضي لا تقتصر على السلفيين من كل دين وملّة وقومية وجنس، بل تمتد إلى معاصرين أيضا، ولكن ليس في إطار عقلية الوعي بالماضي والحاضر والمستقبل، بل من منطق القبيلة.
وسنبقى في الماضي القريب، حتى لا نفتح الباب لغلاة التزمّت والعمى وعبدة الحقائق المطلقة، باللغو، في مجال لا يحتاج إلى مواقف جاهزة، بل آراء. وثمة فرق بين الموقف في كثير من الأحيان والرأي، فهناك موقف بلا رأي، وهناك موقف يستند إلى رأي، وبالتالي فآفتنا هي موقف بلا رأي، موقف العمى والعصبية الذي ليس له من نشيد وطني سوى بيت الشاعر الجاهلي دريد ابن الصِّمَّة، في رثاء أخيه، عبد الله:
وما أنا إلا من غزيَّة إن غوت
غويتُ، وإن ترشُد غزيّةُ أرشدِ!
ما الذي يضير شخصا يحب جمال عبد الناصر، مثلا، أن يظهر زعيم جديد، يسير على خطى عبد الناصر ويطورّها، ويذهب بها إلى مدى أعمق وأبعد؟ ولماذا يقول شخص ما، منعزل عن الحاضر وتحولاته، لا يجوز أن نقارن القائد الجديد بقائد مثل عبد الناصر، لا لشيء إلا لأنه لا يفقه من عبد الناصر وتجربته، إلا حبه الفطري البسيط لذلك القائد.
ما الذي يضير شخصا ما، يحب شخصية وطنية صافية مبدئية، مثل جورج حبش، مثلا أيضا! أن يأتي إنسان يواصل طريق جورج حبش، ويحقق ذات يوم ما لم يحققه جورج حبش بسبب هشاشة الحياة الإنسانية، التي يترصدها الموت؟ ما الذي يضيره، ذلك المحب للحكيم، أن يكون هناك حكيم آخر، وهل يستطيع عاقل أن يتحزّب لمن وجد الطريق، ويقزِّم مبدئية من واصلوا هذا الطريق، ووسّعوه بأفكارهم ودمهم، ومعاناتهم، ووفائهم لكل من سبقوهم؟
بمعنى: هل الذين يواصلون الطريق أقل أهمية من ذلك الذي سار الخطوات الأولى فيه، أو وجده.
نحن لا نقدس الشهيد الذي سقط أمس، أكثر من الشهيد الذي سقط اليوم، والشهيد الذي سيسقط غدا، فلماذا نبجل الذي عاش أمس مبادئه، ونبخس اليوم من يعيش مبادئه؟
ما الذي يضير أحدهم، أن يبرز قائد مثل خليل الوزير أو ماجد أبو شرار أو مروان البرغوثي، أو جورج حبش، أو أبو علي مصطفى، أو غسان كنفاني، أو ليلى خالد أو عايشة عودة أو تريز هلسة، أو فاطمة برناوي أو يحيى عياش..، ما الذي يضيره أن يخرج اليوم فتيان وفتيات شباب أو شبه شباب، ويكونوا مثلهم، بل وأفضل منهم، أوَلم يقاتل أولئك كي يكون المستقبل أفضل؟
ربما نفهم قيام تنظيم ما بالدفاع عن تصوّره للحياة، تصوّره للصراع، تصوّره للمستقبل، لكننا لا يمكن أن نتفهم رفعه لشعار، أن من لا يهتف له، ويكون تحت سماء شعاراته، وخارج مسارات الطريق الوحيد الذي يحدده، هو خارج عنه وعن فلسطين؟! نحن بذلك أمام حزب متزمّت، يمينيا كان أم وسطيا أم يساريا، أم ما بعد اليسار، وبعد اليمين.
نحن هنا أمام حزب شمولي، حتى لو كان عدد أعضائه عشرة ملايين، أو مئة شخص.
لقد لاحظت غالبا، أن كثيرا من الذين يعبدون الماضي، هم أكثر الناس ابتعادا عن تقديم أي شيء حقيقي لتطوير الحاضر، ولا أقول المستقبل، فأغلبية هؤلاء، في حالاتهم الصحية، كانوا ذات يوم جزءا من الفعل، وتحولوا اليوم إلى جزء من القول، وليس في هذا محاولة للتقليل من قيمة القول، ولكن ما نعنيه، هو القول العام، الذي يرفض كل شيء، يرفض أن يعترف بأي تقدم يمكن أن يحدث، ويرفض أن يقف إلى جانب أي بارقة أمل، وتقوم نظريته الكبرى على نمط من ستالينية الوفاء للماضي، ولأبطال الماضي، لأنه يعتقد أن وفاءه هذا، هو الذي يجعله صورة لبطل الماضي، ولأنه لا يملك جرأة قراءة الحاضر ليقف معه، أو يدافع عنه. ولذا، فإن أفضل ما يمكن أن يقوم به، هو إنكار كل شيء جديد يتحقق، فالماضي مريح، يعطيه صورة المناضل الصلب، دون أن يكون مضطرا لتحمّل تبعات أن يكون مناضلا ضد أي شيء اليوم، أو أن يكون صلبا، سوى في رأيه الجاهز، الذي يُخرجه من الثلاجة كلما احتاج إليه، وهو يظنه جمرة، دون أن يحس بصقيعيته!
إنه يقدِّر كل ما جاء إليه جاهزا، قد يكون، آمن به في فترة من فترات شبابه، ثم أخذته الحياة ومشاغلها، وتحول إلى واحد من أفراد جيش الحنين لكل ما انقضى.
فإذا قرأ ذات يوم رواية وأحبها، ولم يقرأ بعدها بالطبع، فهي أفضل الروايات، والفيلم، فهو أفضل الأفلام، وإذا تحزّب لكاتب، فهو أفضل الكتّاب، ولزعيم فهو الذي لن تلده امرأة أخرى!
وبعد:
من جماليات نهر الحياة أنه يواصل تدفقه، ومثل أي نهر، يهدأ أحيانا، ويتعكّر أحيانا، وينعطف أحيانا لكي يواصل مسيره، إلى أن يصل إلى مصبه، وهذه هي الأنهار العظيمة، أما الأنهار الأخرى، التي لا ترى ما أمامها من ينابيع وجداول وأنهار أخرى تتحد بها، وغيوم أيضا، فهي غالبا ما تنتهي بركا صغيرة ومستنقعات.

____________
*القدس العربي

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *