فلورنسا مدينة بحجم الجنة

  • خاص – ثقافات

*د.عزيز الحدادي

  ليس دانتي وحده من يحب فلورنسا لكن هناك ليوناردو فينتشي أو ميكل انجلو ، هؤلاء الذين حرروا الشعوب الأروبية من بشاعة الاستبداد السياسي و الاقطاع الكنيسي ، فالنهضة الأوروبية بدأت في فلورنسيا ، ولذلك أجد نفسي مضطرا لوصف هذه المدينة انطلاقا من جمالها و تاريخها ، فهي بقدر ما أنها رائعة ، بقدر ما أنها تنام على على أحضان تراث النهضة الأروبية ، و لذلك ينبغي أن تزهو بنفسها ، و تقاوم كل عابر فقد لغته في الغربة .

  سأحكي متعة التجول في هذه المدينة الساحرة ، كالعذراء لا تحب من يغازلها …

  تبدو و كأنها في عرسها الأبدي محاطة بعناية العمران ، و لذلك لا يمكن لهذا العمران أن يصاب بالخراب ، ما دام أن سكانه اختاروه كاقامة للروح و كمأوى لوجودهم ، و كلما كانت الاقامة شاعرية ، كانت المدينة فاضلة ، و كان أهلها هم السعداء الذين قال عنهم الفرابي : (( و هؤلاء هم السعداء لأنهم يعيشون في المدينة الفاضلة ))

  كل الفلاسفة يحلمون بالعيش في هذه المدينة ، و ابن باجة نفسه لن يكتب رسالة الوداع كما فعل مع مدينة فاس لأنها كانت جاهلة وسكانها أشقياء لم يعرفوا السعادة و لا خطرت ببالهم ، فكيف يمكن العيش في هذه المدينة التي أغضبت ابن باجة وترك مدينة الجنة التي فرح بها دانتي ؟، الا نكون من المجانين الذين يحملون على سفينة تائهة قد يكون قدرنا مثل قدر مجانين فوكو ؟ وما الذي يرغمني على مغادرة مدينة الموناليزا ؟

  أفضل الأشياء عدم الاجابة على أسئلة هي ذاتها متألمة ولا تريد أن تستيقظ من الاغماء ، و بما أن حالنا يشبه إلى حد ما أحوالها ، فمن الحكمة أن نتركها تنام ، ونحمل حقيبتنا و نرحل إلى أن ننزل في محطة قطار غرباء بلا مستقيلين و لا ورود.

  كان لي أهل استنبتهم كالأشجار و صار لهم ظل على هذه الأرض ، لكن العاصفة خربتهم ، و حملتهم أمواج البحر كالحطام و رمتهم قوق رمال هذه الصحراء ، فأين هي فلورنسا لأعود إليها من جديد ؟

  أين يوجد دانتي ؟ أين ليونارد فيتشي ؟ أين ميكل أنخيلوا ؟ أين ميكيافيلي ؟ ألم يكن أولى بهم أن أجدهم في استقبالي ؟ أم أنهم لا يرغبون في الاستمتاع إلى معاناة أهل المدينة الجاهلة ؟

  الروح المشتركة تملك ذات الرؤية عن الحياة ، ذات الأذواق الفنية ، بيد أن ما تجده هاما أو عديم الأهمية يخضع لتأثير الجغرافية و العقيدة ، حيث الاختلاف يصبح سطحيا ، مما يشجع على المواجهة ، و التنميط ، إلى أن يحل الصراع ، بين روح الحداثة و روح التقليد ، هكذا يصبح الشيطان السياسي هو راعي هذا الصراع .

  من أجل أن نتيه في فلورنسا يجب تقسيم فضائاتها إلى أماكن مقدسة توجد الكنائس في قلبها و من حسن الحظ أنها تحولت إلى متاحف يسكنها العباقرة ، سكنى للأرواح الفنية ،ليس لها سوى الخلود للنوع الانساني .

  في هذه الأرض لا يوجد الأموات ، كلهم أحياء يحتفلون مع زوارهم بأعياد ديونيزوسية لا يستطيع الحزن أن يلمسها ، لأنه عندما تكون في قلب فلورنسا تنسى الحزن لأنك تصبح ثملا بالابتهاج ،و بين الحين و الأخر ينتابك الشعور بالغربة ، لأنك فقدت اللغة ، ثم تعود بواسطة الحوار .

  حين تساءلت عن أحوال الفلاسفة في هذه المدينة ، لم يتردد ميكافيلي بالإجابة مندهشا في هذه المدينة الغاية تبرر الوسيلة ، بيد أن صعوبة اكتشاف النفس الانسانية لهدفها ، يظل هو السر في تحويل الحوار إلى صراع ، و المشترك إلى تناقض ، و التسامح إلى تطرف ، ففي فلورنسا يتعلم الإنسان ما معنى الضيافة في حميمية هدف النفس .

  أيها الأموات عودوا إلينا فإن الأحياء فوق هذه الأرض قد ماتوا ، و لما سمعتني فلورنسا قالت لي بصوت حزين لا أدري ما الذي وقع في هذا العالم الذي تحول فيه الانسان إلى عدو للإنسان ، فالقضاء على النوع الإنساني سيكون بالنوع الإنساني ، و كأن العقيدة سكنى للموت ، ومع ذلك استمر في رحلتك و لا تتردد في تفجير أسئلتك على ساحة السيدة المقدسة .

   يا لها من رحلة غريبة في مدينة ساحرة لا يملك سكانها سوى ابتسامة خفيفة للترحاب ، وبين الحين و الأخر نتبادل بعض الكلمات من قبيل أين يوجد ؟ و أي طريق يؤدي إلى ؟ وبمجرد ما يبدأ الحوار بمجرد ما ينتهي ، لأن الزمن لم يعد زمنا للحوار فصراع الأديان مزقه ، ولعل أجراس الكنائس تذكر بذلك .

  في ظل هذا الحوار المستحيل ، ما دام أن الايديولوجية العمياء قد نشرت الإحساس بالخوف من الآخر ، هكذا كبرت الفاشيستية هنا و كبر التطرف الديني هناك ، و أصبحنا لا نأمن على أنفسنا هنا و هناك ، و لا أستطيع أن أخفي شعوري بالرعب من بعض العيون الحقودة و التي كادت أن تلوث مذاق هذه الرحلة ، فأعينهم كالحيوان المفترس لا يميزون بين الفيلسوف و العامة ، و لذلك تحولوا إلى أعشاب ضارة تمنع شجرة السعادة من النمو في هذه الفضاءات المبتهجة .

  و مهما يكن من أمر ، فإن نداء فلورنسا لا زال ينادي أصحاب القلوب اللطيفة الذين استطاعوا أن يحولوا المكان إلى مكانة ، لأن المكان الذي لا يؤنث ، غير جدير بالاهتمام ، لأنه يحرم الروح من تلك الكشوفات التي تنقلها من مقام إلى آخر بلغة ابن عربي .

  قلت لفلورنسا يا سيدة البهاء أنا مضطر لمغادرتك أعرف بأنك جنة ،لكن ماذا يفعل من حكم عليه بالعيش في جهنم ، ينبغي أن يوجه السؤال إلى دانتي وحده يعرف ما معنى العيش في جهنم ، و لذلك اختار الإقامة الأبدية فيك ولو لم تكن جنة لما فعل ، فالأثر التي تركتها أقدامي ستظل هنا ، فأنا الشاهد الذي لا شاهد له ، سأحمل بعض الذكريات و أتزود بها في مدينة المتوحد ، كما فعل ابن باجة .

  إلى اللقاء في مقام العابرين ، حيث يتحول الأنا إلى أنت ، و الأنت إلى أنا ، وتنعدم الهجرة ، و يختفي كل هؤلاء المهاجرون ، و الفاشستيون و أشباه العلماء . و من يدري بأنني سأعود إليك و معي هذه الشمس التي ستشرق ، و يشرق معها الأمل . فكلما كانت عميقة تلبي نداء الوجود الذي يناديها .

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *