مدينة بيز الحكمة والكنائس

  • خاص ثقافات

  • د.عزيز الحدادي

في هذا الصباح الربيعي وصلت إلى مدينة بيز الإطالية ووجدت ملكة الفلاسفة في استقبالي ,إنها مانويلا باسكي هذه المرأة المبتهجة بالماهية ,ذات إرادة قوية ورثتها عن الفلاسفة الألمان ,وخاصة كانط الذي اختارته كموضوع لاطروحة الدكتوراه .لم يكن الوقت يسمح بغير تلك الأسئلة والتي لا تتطلب وقتا للتفكير .

  حين سألتها “لماذا كل هذه الكنائس ؟ اجابت بسخرية سقراطية ” لم تعد كنائس لقد تحولت إلى متاحف ومكتبات من أجل نشر الثقافة في زمن بدأ يبشر بالأفول ,والثقافة هي ما يشكل هوية الشعب الإيطالي .وبالفعل فان هذا الشعب استطاع أن يصبح أمة عظيمة بفضل الثقافة .

  بيد أن هذه المدينة لا زالت تحافظ على عمقها الروحي وهويتها الطودوسكانية ,ومادام أن التغيير لا يكون من الوجود إلى العدم ,بل من العدم إلى الوجود ,لأن الروح لا تنمو في العبادات وحدها ,بقدر ما تنمو في الثقافة والعلوم والفلسفة ,هكذا تصبح فكرا يحاور الوجود بواسطة اللغة . واللغة الإيطالية تحولت إلى مأوى للوجود ومسكن للروح الرومانية التي حققت أمجادها في تلك الإمبراطورية العظيمة .

  وبمجرد ما انطلق الحوار انفتحت أمامي أزقة هذه المدينة المنظمة بهندسة معمارية غاية في الإبداع ,ولذلك لم أجد غير تلك الأسئلة الحميمية التي رافقتني خلال هذه الرحلة ,فبأي معنى يمكن للفلسفة والسينما أن تكون مدخلا لحوار الثقافات ؟وما الذي سأقوله عن معاناة الفلسفة والسينما في بلدي ؟ وهل ألتزم الصمت ؟وهل نسيت الحقيقة من جراء القمع ؟.ألا يكون الشعور بالغربة أعنف من الغربة ؟ .

    مهما يكن مهرجان بيز بسيطا لا يتطلب ميزانية كبيرة ,فانه استطاع أن يسجل حضوره بقوة في المدينة التي حولت الفن والفلسفة إلى كنز ثمين لجلب السياح , ولذلك نجد بيز توجد في قلب الجامعة والأماكن الثقافية , لانه لولا الجامعة لتحولت بيز إلى مدينة للمتقاعدين ,فمن خلالها انتقل الصراع إلى الطبقي إلى صراع معرفي , صراع من أجل القضاء على الجهل والرقي بالروح إلى مرتبة الوعي الإستطيقي الذي ساهم في تنمية المدينة ثقافيا وسياحيا ,إنها استراتيجية لا يمكن أن تنجح لا هنا حيث روح غاليليو تمد في روح المدينة .

  ثمة آراء أهل المدينة الفاضلة ترقص على أنغام السعادة والمرح لانهما نفس الشيء كما قال الفارابي , ولذلك لا أستطيع قراءة هذه السعادة المدنية سوى بفلسفة الفارابي , حيث المدينة الفاضلة تتأثر بأهلها فان كانوا سعداء تكون سعيدة وان كانوا علماء تكون عالمة ,لأن جدل العقل المستفاد والعقل الفعال تبدو تجلياته في المدينة وعلى وجوه سكانها .فالمواطن يصبح شغوفا بمدينته والمدينة مواطنة “فالمدينة التي يقصد بالاجتماع فيها التعاون على الاشياء التي تنال بها السعادة في الحقيقة هي المدينة الفاضلة ” كما قال الفارابي ,بل يكون سكانها من السعداء .

   لقد تذكرت الفارابي ومدينته الفاضلة التي أحملها معي أينما ارتحلت , عندما تعرفت على الدكتورة كريستينا دانكونا صاحبة كتاب بيت الحكمة  الذي قام بترجمته الصديق الدكتور عصام مرجاني , وهي متخصصة في الأفلاطونية الحديثة ومدى تأثيرها في الفلسفة العربية , وكان الحوار معها عميقا وممتعا استحضرنا الراحل جما الدين العلوي وكتابه المتن الرشدي الذي أحدث ثورة في حقل الدراسات الرشدية , كما تحدثنا طويلا عن المستقبل , فهي شغوفة بالاكتشافات وما يحمله المستقبل من جديد , ولذلك نجد حماسها متجها نحو كنوز المخطوطات الموجودة في خزانة  القروين والخزانات العالمية .دائمة الاتصال بالعالم اندرز وغيره فسعادتهما تنمو بحلقة الكندي وما قاله ابن النديم عن الترجمة للفلسفة اليونانية إلى العربية.وحين ودعتها اتفقنا على تنظيم مؤتمر دولي حول ترجمة الفلسفة العربية ودورها في نهضة المتوسط.

  قررت في هذا الصباح أن أترك أهل بيز ينامون في اطمئنان عن مدينتهم ,أما أنا فسأذهب للبحث عن غاليليو ، هذا العالم الذي تم تهميشه في حياته وبعد موته ، سألت عنه ، فأخبروني أنه يوجد خارج أسوار المدينة ، تمثاله يطل على النهر ، تمثال بسيط لرجل عظيم قام بثورة في علم الرياضيات ، لكن هذه الثورة انقلبت عليه فطرد من الجامعة و المدينة دفعة واحدة ، لأنه قال بأن الجسم الثقيل و الخفيف يسقطان بنفس السرعة ، و الاختلاف بينهما سببه مقاومة الهواء للجسم الخفيف ، ما يجعله يتأخر في السقوط ،لكن أعداء غاليلي رفضوا التجربة التي تمت على هذا البرج المائل ، ربما لأنه يخجل من هذه اللحظة التاريخية ، لحظة نكبة العلم بواسطة رهبان الكنيسة ، فهذه النكبة هي المشترك بين العلماء و الفلاسفة ، و لعل هحنة ابن رشد لأكبر شاهد على ذلك .

  فالتمثال ينقلنا إلى الأجواء التي تمت فيها محاكمة غاليلي ، و إلا ما معنى اللون الأسود ؟ و ما معنى هذا الأصبع الموجه إلى السماء ؟ بل ما معنى هذا التمثال البسيط لعالم عبقري غير مجرى الإنسانية ؟ ولماذا نجد تمثال الزعماء العسكريون بديعة الصنع و أمكنتها مختارة بعناية كبيرة وسط المدينة ؟

  أسئلة لا يمكن أن يجيبك عنها سوى غاليلي ، و لذلك سنتركها جانبا ، و نذهب إلى حقيقة هذه المدينة التي يكثر فيها عدد الكنائس ، فهناك دولة المسيح مقابل الدولة المدنية ، و لا أحد يستطيع أن يفلت من قبضتهما ، فهما معا قدر واحد ، فالخروج عنهما يعني العقاب ثم النفي ، و غاليلي قال الحقيقة العلمية ، و لذلك كان عقابه شديدا من قبل الحقيقة التيولوجية .

  و الحال أن بيزا تبدو مدينة حزينة مقارنة مع فلورنسا ، و الشاهد على ذلك أن الساحات المقدسة في فلورنسا حولها الفن إلى ساحات مبتهجة ، حيث الألوان ترقص  على إيقاع الموسيقه ، مما يجعل أهلها سعداء ، يضحكون و يرقصون ، الضحك و الرقص شعار السعادة عند زارادشت نيتشيه ، الذي بشر بالإنسان الراقي . ولا أستطيع غير القول بأن ساحات بيزا شبه صامتة و سوداء . و أهلها حذرون لا يتحملون ضجيج الغرباء .

  ومع ذلك فهناك نخبة مثقفة لامعة الأسماء تسعى إلى جعل من هذه المدينة ملتقى لحوار الثقافات ,لقد كان لي الشرف أن أتعرف على هذه النخبة ,وكان حوارنا مركزا حول احداث جسرا للتواصل الثقافي بين بيز وفاس , بيد أن الأحلام شيء والواقع شيء آخر فنحن كجمعية نصارع ونقاوم من اجل البقاء لأن اعداء  الفلسفة يوجهون مدفعيتهم نحونا ,نعم لقد حولوا فاس من العاصمة العلمية إلى عاصمة للفقر الروحي.

  هكذا وجدت نفسي في الطائرة التي حملتني إلى هذه المدينة الجاهلة , هربت منها وسأعود , فما الذي ينبغي على السجين الهارب من السجن أن يفعله غير العودة إلى سجنه والإنتظار  , فالسجناء في كهف افلاطون , حتى وإن أرغمناهم على الخروج ورؤية أشعة الشمس ومعرفة الحقيقة ,فإنهم سيهربون , ويفضلون إلى الكهف ومتعة الظلام والأوهام .

   مهما يكن من أمر ,فسبعة أيام في ايطاليا تساوي سبعة قرون في هذا البلاد الذي يضطهد محبة الحكمة , وسكانه لا يعرفون السعادة ولا خطرت ببالهم .وبما أن الطائفة الدينية تهيمن على ارواحهم ,فإن مصيرهم يظل دائما في طور الإنبثاق مثله مثل العدم ,مادام أن الحقيقة المطلقة توجد في التراث .مما يقود إلى استهلاك المعنى في المقدس ورفض العقل والتنوير والحداثة .

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *