خاص – ثقافات
*سعيد بوخليط
بوبر/ باشلار :
مثَّل بوبر إنجليزيا وعلى الجانب الآخر من أوربا، الثورة ذاتها؛ التي توخى باشلار على امتداد أكثر من ثلاثين سنة تكريس لبناتها، وفي حقول معرفية إنسانية متعددة. أشير هنا خصوصا إلى القسمين الكبيرين :الرياضيات والأدب.لكن عقلا موسوعيا كماالشأن مع باشلار، أدرك كيفية تأليف المتعدد؛بمنطقه الذي انزاح عميقا بالاستعارات من ترميزات رياضية وتمارين لغوية ،إلى افتتان بالوجود ثم تشكلات الموجود .
* أي شيء يجمع بين كارل بوبر وغاستون باشلار؟ .
1 – نحت الاثنان، مساحات كبيرة وعميقة وجديدة من التفكير الإنساني فترة القرن العشرين. صحيح أن أطروحاتهما،أصبحت اليوم مجرد ” أرشيف”؛لهذا التفكير قياسا لتطورات العلوم الحالية. لكن خلال لحظتها مثلت ثورة معرفية ومفهومية ومنهجية نوعية.كماأناجتهاداتهما الفلسفية/العلمية، شكلتا رافدا لامحيد عنه لاستيعاب المنظومة الابستمولوجية المعاصرة .
2 – دفاع بوبر وباشلار، المستميت عن البناء المستمر والدائم للحقيقة :
– مبدأ التكذيب عند بوبر .
– فلسفة النفي مع باشلار
وإدخالهما الخطأ إلى قلب التفكير العلمي ،على اعتبار أولانيته التأسيسية مثل” الصحيح” تماما “.
لقد رسما فعلا ذلك، ثورة بالمفهوم الكوبرنيكي؛وخلقا منافذ شتى أمام اجتهادات التفكير الإنساني. مما أرسى؛إطارا نظريا معرفيا ومفهوميا،لحقول البحث الجديدة التي جاءت بها النظريات الفيزيائية والرياضية في القرن العشرين.
3 – لعبت النظرية الإبستمولوجية سواء مع بوبرأوباشلار، دورا كبيرا في توضيح وتبسيط بعض التطورات العلمية كما الشأن بالنسبة لنظرية النسبية وكذا فيزياء الكوانطوم . أفق، استعصى على الكثيرين نظرا للتعقيد النظري والمفهومي، وكذا البناء الهندسي الغريب كليا لتلك النظريات .
4 –تأكيد باشلار وبوبر؛على القيمة المعرفية والتاريخية لانفتاح الحقيقة العلمية.سياقمختلف؛ غيَّر مسار تاريخ العلم، مؤسسا لديكارتية جديدة قادرة على الانصات لحيثيات هذا الواقع الجديد. فقد أعطى ذلك انعطافة جديدة لطبيعة المساحة التأملية التي يمكن أن تأخذها علاقة النظرية بالواقع . تراجعت نحو الخلف كل قاعدة مطلقة أو بداهة واضحة بذاتها.
ظل الاعتقاد راسخا؛انطلاقا من ثوابت المنطق الأريسطي بأن( أ = أ ) وكون الحقيقة تطابق الواقع. لأن العلم يقين مطلق. لكن نظرية بوبر وباشلار، وقد استندت أساسا على منطق ارتيابي متعدد الأبعاد، جاءت تعبيرا عن منظور الاحتمال والممكن الذي انتهى إليه تاريخ العلم .
5 – دافع بوبر وباشلار؛ غاية آخر يوم في حياتهما عن المجتمع المنفتح المؤمن بقيم التعدد والاختلاف.بالتالي، رفضهما لكل أشكال الدوغماطيقية والتوتاليتارية،التي تقود إلى أسوأ المؤسسات الاجتماعية؛ وأوليغارشيات سياسية تحكم الشعوب والمجتمع بالحديد والنار .
مجتمع يعانق مطلقا قيم الحداثة والاختلاف، ويدافع عن المدرسة خاصة لأنها الفضاء الذي يثري الأفكار بالحياة. وحدها الأخيرة؛تصنع تاريخا للمجتمع .
في هذا الإطار، اشتغل بوبر على كتابين أساسيين:
* عقم المذهب التاريخي.
*المجتمع المنفتح وأعداؤه .
بالتالي،أمضى صراحة؛بيانا ضد أعداء الحياة . كما أن مفاهيمه الإبستمولوجية، وخاصة تأطيره النظري لقابلية التكذيب والتفنيد؛سيشكل حاجزا وسدا منيعا أمام كل تأويل يتوخى بشكل من الأشكال إعطاء مبرر معرفي أو إيديولوجي لأية نظرية تتوخى الشمولية والتسيد المطلق .
صحيح أن باشلار؛ من جهته، لم يصدر عملا يظهر مباشرة شحنة إيديولوجية سجالية، بيد أن مشروعه العلمي والأدبي،سواء على مستوى العلم والشعر؛استند ضمنيا على قوة خلفية معرفية، تمثلت في الايمان ب: النفي والتجاوز المستمرين .
6- تذكرنا الموسوعية؛ التي ميزت فكر بوبر وباشلار،بالنظام المعرفي إبان القرن الثامن عشر . كما أن مفاهيمهما ، خلقت تفكيرا جديدا في علاقة الذات بالعالم والآخر . وبالتأكيد، فقد شهدت معارف القرن العشرين،ثورة على مستوى النظرية والمنهج وكذا المفهوم.
خلال إحدى مراسلاتي، فيما مضى مع الباحثة الأمريكية ” تيريزا كاستيلاو- لاولس”(1)؛ أخبرتني بأنها تفكر وتحدس الملامح الأولى، لمشروع بحث أكاديمي؛يتعلق موضوعه بممكنات الاتصال والانفصال بين باشلار وبوبر تقول:(( أما المقارنة بين غاستون باشلار وكارل بوبر فهو مشروع إجازتي نصف السنوية (شتاء 2005).من اللازم إذن،قراءة كل أعمال بوبر مسألة تتطلب الوقت. لحسن الحظ، كتب أغلب أعماله بالإنجليزية،بالتالي غير مطروح بالنسبة إلي،مسألة الترجمات غير الدقيقة لعمله … المداخلة التي ألقيتها ب “فيينا” بمناسبة مئوية ولادة كارل بوبر،شكلت تحليلا مقارنا بين بعض المواقف اللاوضعية. المظهر الأكثر قوة لهذا التماثل أن” التخمين” لدى بوبر يشبه دور الاستقراء في العلم بالنسبة لغاستون باشلار. لقد ابتدأ الاشتغال باكتشافي لعرض أنجزه باشلار سنة 1936 بعدصدور كتاببوبر” منطق الاكتشاف العلمي ” سنة 1934 بألمانيا. وأعتقد بأن باشلار لم يدرك النقطة الأكثر دقة لهذا العمل، ونظرا خطأ إلى بوبر كنموذج للوضعية. في الواقع، أعلن بوبرمنذ المقدمة بأنه يبتغي كليا إسقاط الوضعية المنطقية )).
أعجبتني الفكرة كثيرا، خاصة وأن اسم بوبر ظل يثير دائما مشاعر خاصة نحوه. منذ أواسط سنوات التسعينات؛عندما صادفت نسخة من كتابه: منطق الاكتشاف العلمي، بين رفوف خزانة المركز الثقافي الفرنسي بمراكش.بالتالي،فكرت أنا كذلك في جعله” ضيفا” على باشلار.
وبينما أنا بصدد تجميع متن بوبر.صادفت كتاب روني بوفريسالصادر حديثا آنذاك.توخيت بداية ،إنجاز مقاربة تلخيصية تعريفية للعمل كإصدار جديد .لكن بين طيات ذلك، تبين لي أن كتاب:العقلانية النقدية عند كارل بوبرثم السيرة العلمية لصاحبته، ينطويان على قيمة معرفية كبيرة.لذلك،من الأمانة العلمية والتاريخية إن صح هذا التأكيد إعادة كتابته باللغة العربية نظرا لي :
*اشتغلت روني بوفريس؛من بين أشياء أخرى،على كارل بوبر.وترجمت له بعض أعماله من الإنجليزية إلى الفرنسية؛لاسيما سيرته الذاتية.كما أن بوبر نفـسه؛أوكل لها مراجعة الترجمة الفرنسية لعمله الذائع الصيـت بؤس التاريخانية.
*اعتبرت روني بوفريس عملها هذا،تقديما عاما لمعجم بوبرالمفهومي. ساعية بذلك، إلى جرد ألفبائي للمصطلحات والمفاهيم التي وظفها بوبر،قصد صياغة مشروعه.لقد رصدت وفق تعريفات سريعة لكنها دقيقة وعميقة؛أهم المفاهيم سواء تلك التي نحتها بوبر،أو توخى في إطارها،على العكسمن ذلك،مناقشة أصحابها وإبداء رأيه حولها: العقلانية النقدية/ التحقق/ المعرفة الموضوعية /المحتوى/ النظريات العلمية / تحديد /الديمقراطية / المجتمع المنفتح/ مقولة الأساس/ قابلية التكذيب/قابلية التزييف والتفنيد/ الرائزية /التاريخانية / العقل و اللغة / اللاوعي/ الاستقراء / الوسائلية /الليبرالية / الماركسية/ الميتافيزيقا / العوالم الثلاث / المجتمع المنغلق /الوضعية/ القابلية / النسبية / الكليانية والطوباوية / التوتاليتارية….
خطاطة مفهومية،تعكس البرنامج النظري والمنهجي الذي خطه بوبر لنفسه.وقد توزع بين : منهجية العلوم؛ فلسفة المعرفة العامة؛ البيولوجيا؛ علم النفس؛ العلوم الاجتماعية؛ تأويلات الفيزياء الحديثة؛ تاريخ الفلسفة؛ فلسفة الأخلاقو السياسة؛ نظرية العلوم الاجتماعية .
أرضية فكرية وعريضة، يتجادل ضمنها مع: أفلاطون وسقراط وهيغل وماركس وفتجنشتاين وهيوم وكانط …إلخ. منحازا أو مختلفا،لكن بمعنى يتجاوز حدي منطق الميتافيزيقا الغربية الثنائي القيمة :صادق أو كاذب، ولا يوجد احتمال ثالث. لأن بوبريؤكد نصيب الحقيقة من الخطأ. السمة الفكرية التي تهمه؛أكثر من اليقين والاعتقاد المطلقين.
هكذا ظل بوبر رافضا باستمرار،لكل أنواع الطوباويات والاطارات الشمولية المنغلقة؛بل والأفكارالرومانسية المنتهية حتما إلى العقيدة الجامدة والدوغماطيقية؛لأنها تستند بدءا وانتهاء على المرجعية الأحادية.
لم يكن من باب الصدفة إذن، أن يخرج بوبر آخر أعماله تحت عنوان مثير:أسطورة الإطار،في دفاع عن العلم والعقلانية. يقول بوبر في تأويل لما أشرت إليه : (( وعلى الرغم من أنني معجب بالتقاليد وعلى وعي بأهميتها. فإنني في الوقت ذاته أكاد أكون مناصرا أصوليا للا-أصولية : إنني أستمسك بأن الأصولية هي الأجل المحتوم للمعرفة، مادام نمو المعرفة يعتمد بالكلية على وجود الاختلاف. وكما نسلم جميعا، الاختلاف في الرأي قد يؤدي إلى النزاع، بل وإلى العنف. وأرى هذا أمرا بالغ السوء حقا، لأنني أستفظع العنف، غير أن الاختلاف في الرأي قد يؤدي أيضا إلى النقاش، وإلى الحجة وإلى النقد المتبادل. وإني أرى هذه الأمور ذات أهمية قصوى، وأزعم أن أوسع خطوة نحو عالم أفضل وأكثر أمنا وسلاما، قد قطعت حين وجدت حروبالسيف والرمح لأول مرة من يضطلع بها، وفيما بعد حين حلت محلها في بعض الأحيان حرب الكلمات ))(2).
ولكي يتم تسليط الضوء بقوة،على الأفق المتطور لهذا الفكر الإنساني في جوهره، أسرعت بوفريس غير ممتثلة لترتيبها الألفبائي؛نحو الصفة التي عشق بوبر،أن يسم بها اجتهاداته الفكرية والمنهجية. أقصد تصنيف: العقلانية النقدية .
فما هي إذن أبرز ملامح وتجليات هذه الفلسفة ؟ ثم كيف عملت بوفريس على توظيف ذلك حين مقاربتها مشروع بوبر؟ لاشك،أن الإجابة عن بعض هذه الأسئلة تخول من جهة أخرى؛إثارة انتباه القارئ نحو أهم أطروحات هذا العمل، قد وصله أيضا بالسياق الإبستمولوجي والمفهومي للترجمة التي أنجزتُها لكتاب : العقلانية النقدية عند كارل بوبر.
ظل بوبر يرفضالماهوية ، التي يعتقد بأن أصولها النظرية ترتبط أساسا بفكر أرسطو. مستبعدا في سياق ذلك النقاشات والجدالات الفلسفية الساعية إلى توجيه الأسئلة وكذا إيجاد الأجوبة انطلاقا من بحث: “لماذا” ؟داعيا في المقابل،إلى تحليل القضية انطلاقا مما سماه ب : أوضاع القضية.
لقد تأسست العقلانية ضدا علىالاعتباطية،تتوخى تفسير الوقائع بأن تجد لها تعليلات عبر التدليل بالبراهين والحجج. مما يحتم إيجاد أرضية أساس،تشكل هذا اليقين الذي يمكن من إقامة ثابت لمعرفتنا .
بهذا الخصوص،تقاسم اتجاهان تاريخ المعرفة :
*الاتجاه العقلاني،الذي ارتبط بتيار فكري امتد من أفلاطون إلى ديكارت .
* الاتجاه التجريبي،وقد راهن على معطيات الحواس؛واستلهام التجربة كأساس لصياغة المعرفة الأولى .
غير أن التصورين معا،تعرضا للإخفاق ووصلا الباب المسدود. فلا شك أن أكثر الأفكار انسجاما ووضوحاوبساطة وبداهة، تظهر غالبا خاطئة ما إن نتوخى التأثير في العالم. أيضا، تبقى التجربة وحتى عبر سلسلة لانهائية،عاجزة عن إدراك الحقائق العامة التي قد تشكل أساسا لمعرفتنا .
يصعب إذن، بالمطلق الدفاع عن وجهة النظر التجريبية أو العقلانية.الأمر الذي يعطي معه حيزا أكبر لمختلف الاتجاهات اللاعقلانية والتيارات الشكية،التي تجزم بعدم إمكانية البرهنة على كون معرفتنا حقيقية وتدرك الواقع .
وضعية يائسة بالتأكيد! لذا يجب الإقرار بما يلي:
-
لا يمكن مطلقا تجنب الخطأ،فلا يوجد أساس يقيني لمعرفتنا .
-
حينما نقر بالخطأ ،يمكننا البرهنة عليه .
يقوم المبدأ الأساسي لعقلانية بوبرعلى التصور التالي :
يجب أن نضع موضع اختبار جل أفكارنا.فلايمكن تأكيد قيمة إقرارها إلا بعد البرهنة عليها. التجربة سبيلنا نحو ذلك،وسواء كان الاختبار إيجابا أو سلبا؛ تستفيد الذات بكيفية مزدوجة،وتكتسب الرهان في الحالتين : ((إذا تم دحض نظريتي ، فإن عدد النظريات التي لازالت قائمة قد تقلص . أما إذا صمدت أمام هذا الدحض ، فإنني أكتسبها بنوع من الصلابة ))(3) .
تتجلى أساسا إجرائية النظرية وقوتها،في قابليتها للتكذيب والدحض وليس العكس،أي صمودها أمام التجربة كما ظل الاعتقاد سائدا. لذا فإن العقلانية النقدية،تشير حتما إلى ضرورة التملص من النظريات اليقينية الاعتقادية؛ونراهن أساسا على النظريات الجريئة والغنية أي تلك القابلة للتزييف والتكذيب .
يمثل التفنيد والدحض،معطى إيجابيا للنظرية يكسبها مناعة أكثر؛حينما يتم تأكيدها تجريبيا للمرة الثانية. لذلك،عندما تكتسب الذات معرفة انطلاقا من دحضها أولا، فإن ذلك يقوم عندها بنوع من القوة والتماسك.
لا يجب بتاتا،الإيمان بالثبات المطلق لنظرية ما. تؤكد العقلانية النقدية،بأن النظرية تظل مجرد فرضية،ولو اجتازت مجموعة من الروائز والاختبارات بنجاح، فاليقين جهل وموت. أبرز مثال في هذا الاطار، الثورة التي حققتها نسبية أينشتاين في علاقتها بالعلــم النيوتوني، وكيف أبرزت ما يمكن تسميته بإبستمولوجيا الخطأ .
على ضوء ذلك ، أكد بوبر قابلية العلوم التجريبية للخطأ، ناظرا إليها كدوكسا doxa. استنادا على التمييز الأفلاطوني بين الإبيستيمي والدوكسا. نظرا لواقعية وحقيقة الخطاب مع الأول؛ ثم التباسه وتقلبه ارتباطا بالثاني .
لا يمتلك العلم الحقيقة،بل يسعى إليها من خلال ديناميتها؛في بحث دائم عن نمو هذه الحقيقة وتطورها. تطور يأخذ خطا لا نهائيا؛مادام يستلهم بشكل دائم المنهجية والرؤية النقديتين.توقف هذه الحقيقة،لا يعني أنها قد أدركت المطلق، لكن ذلك يفسر بأن قضيتها أصبحت بلا معنى. وحينما يخرج هذا العلم إلى العالم ،نظرا لكونه جزءا من الكون وتحولاته . فعليه التخلص؛من كل تعامل حتمي مغلق مع هذا العالم .
حققت المنهجيةالسالبة لعقلانية بوبر،قطيعة كبرى مع الفهم المألوف والمعتاد لما يصطلح عليه بالعقلانية وفق التصور الكلاسيكي؛بحيث مثلت وجها كليا للدوغماطيقية حينما ننطلق من مبدأ جوهري،نتوخى به أساسا ويقينا ثابتين ثم نستبعد كل شيء لم يتم تأكيد حقيقيته.
اعتبر الخطأ مع الكلاسيكيين سواء كانوا عقلانيين أو تجريبيين، بمثابة زلة لأن صاحبه أخفق في الإمساك بهذا المصدر الأساسي والخالص للمعرفة،بداهة الحدس عند العقلانيين ومعطيات الحواس لدى دعاة التجربة،إنها سلطة الواحدية في نهاية المطاف .
لذلك سعى فكر بوبر،إلى التخلص من مرجعية كتلك،بإيجاده الأسس الإبستمولوجية لعقلانية جديدة غير سلطوية؛تتميز بتعدديتها وانفتاحها،لأنها نقدية أساسا. تقطع تماما مع العقلانية الدوغماطيقية الزائفة :
– تسلم هذه العقلانية الجديدة بالخطأ كمصدرللحقيقة . في المقابل،لا تمنح أي امتياز للحواس أو الحدس أوجعلهما مصدرين للمعرفة .
-
لا يمكن البحث،عن يقين . في حين نحتاج إلى معيار لاختبار وتمييز النظريات.
-
لاينبغي النظر،إلى الخطأ باعتباره صخبا.الخطأ شيء طبيعي؛يصعب تجنبه.
-
يؤدي حتما الدفاع عن الحوار والإقرار به وتخصيب وجهات النظر،إلى تأسيس معرفة صحيحة .
-
تنطبق العقلانية النقدية على كل المبادئ وتستلهم منهجيتها مختلفالتخصصات : العلوم الإنسانية وعلوم الطبيعة.مؤمنة بجدلية التحقق وارتكاب الخطأ؛لكنها تتقدم وتتطور باكتشافها لأخطائها.
إذن يحدد بعقلانيته النقدية،مجموع الفلسفة التي يتوخى الاشتغال عليها؛أي الفلسفة السياسية وفلسفة العلوم.مع الإقرار بجهلنا وقابليتنا للخطأ .
تعتقد بوفريس بأن الأصل الفكري لمنهجية بوبر،تمتد تاريخيا إلى الفيلسوف اليوناني سقراط. وتتحقق تاريخيا في ارتباط أنطولوجي بحتمية” المجتمع المنفتح “؛حيث تحل الأفكار محل العنف.
لاشك أن منهجية بوبرالتزيفية،حالت بينه وكذا توظيف “الاستراتيجيات المحصنة”. من بينها مثلا فرضيات “لهذا الغرض”Ad hoc”،داعيا إلى استبعادها.فرضيات يتم توظيفها؛للإجابة على قضية خاصة .لكن قد يحدث الالتجاء إلى فرضيات مساعدة ،شريطة أن تكون قابلة للاختبار والتجربة .
ماهي خصوصية التزييفعند بوبر،مقارنة مع معيار التحقق عند حلقة فيينا. هل المفهوم ذاته،من الناحية الإبستمولوجية ؟
يعتبر معيار التحقق عند حلقة فيينا معيار دلالة، هكذا ميزت الحلقة بين علم يشترط المعنى ثم الميتافيزيقا التي تشبه قضاياها” رطانة ” .
التزييف عند بوبر غير وضعي ولا تحققي . لذلك لم يتردد في إظهار استيائه حينما تُرجم كتابه : بؤس التاريخانية إلى الفرنسية،نظرا لترجمة مفهومه” رائز” ب “اختبار ” .
تستند كل مهمة لفلسفة العلوم،على محاربة وتجاوز مختلف أشكال الدوغماطيقا ، وبالتالي السعي إلى معالجة الإشكال الكانطي : كيف يمكننا تمييز الخطاب العلمي عن آخر شبه علمي؟ هل نستلهم الاستقراء باعتباره منهجية العلوم التجريبيةفي تقابل مع تنظيرات الميتافيزيقا والاستنباط الرياضي.لكن ما أظهره بوبر: ((أن كل هؤلاء الذين يجعلون من المسار الاستقرائي مفتاح المنهجية العلمية غير قادرين على إعطاء معيار للعلم التجريبي ، وبالتالي من اللازم اقتراح شيء آخر )) (4).
يركز هذا المجهود التصنيفي،على بعض القضايا شبه العلمية والتي تتوخى العلمية . إذا أمكننا الإشارة سابقا إلى حقول مثل : علم التنجيم والخيمياء و الميتافيزيقا .ففي عصرنا الحديث، بوسعنا الحديث عن التحليل النفسي والماركسية، باعتبارهما أنظمة تأويلية قوية تبحث دائما فيما وراء السلوكات الفردية أو الاجتماعية عن شبكة من التفسيرات المضمرة،تتمظهر أنظمتها الرمزية سواء من خلال الذات الفردية أو المجموعة الاجتماعية.
ينظر بوبر إلى العلم ،حسب رؤية تطوريةتقوم على مبدأ الدحض.لذلك ينفي صفة العلمية،عن الأنساق التي لا تتطور وتأخذ سياقا دوغماطيقيا .
فهل يعتبر معيار التحقق، فاصلا أساسيا لتأكيد علمية الماركسية والتحليل النفسي أم لا؟ فقد أكدت مجموعة من الوقائع صحة كثير من تأويلاتها،إضافة إلى أن أخذ مفهوم التحقق مطلقا،يقصي تعسفيا مجموعة نتائج قابلة للاحتمال.ماذا يمكن أن نقول مثلا عن النظرية أينشتاين التي لا تحيل سوى لاثنين أو ثلاث” تحققات ” واضحة ! لذلك من الضروري فقط تكذيب العبارة العلمية وليس التحقق منها .
بناء على هذا المبدأ، يفصل بوبر بين العلم الواقعي والأنساق التأويلية . فهذه الأخيرة غير قابلة للدحض،لأنها لا تستبعد أية واقعة محتملة . كما أن التأويلات الماركسية وكذا تلك التي جاء بها التحليل النفسي،تنضبط وتتكيف حسب مختلف الحالات ؟ !وضع يستحيل معه إيجاد براهين قادرة على إبطال نتائج هذين المبحثين: (( ماإن تفتحون أعينكم عليها، حتى تلاحظون أمثلة تؤكدها في كل مكان))(5) .
لكن وانسجاما مع ثوابت العقلانية النقدية،فإن عدم قابلية تلك الأنساق للدحض ،لايعني قوتها وتماسكها؛بقدر مايكشف حقيقة عن ضعفها ووهنها: (( توخي أقصى ربح يؤدي في واقع الأمر إلى خسران كل شيء. إن نظرية لا تسعى إلى المجازفة نحو بالفشل.لا يمكنها النجاح مطلقا))(6).
كلما توخى التحليل النفسي تأكيد علميته،جاعلا نظرياته فوق كل دحض وتفنيد( متوهما بذلك العلمية )،إلا ووضع ضمنيا نظامه خارج العلم حسب معيار التحديد عند بوبر. يكمن البعد الذي يمنح نظرية قيمة تأكيدها العلمي،في قدرة صاحبها المنهجية على أن يقدم مند البداية الشروط التي تسمح بتزييف وتكذيب نظريته؛أي المجازفة بالغلط : (( المثال النموذجي الذي يتعارض مع موقف المفسرين الماركسيين وكذا المحللين النفسانيين، يحيل على أينشتاين؛وقد اعتمدت كل نظريته عن النسبية العامة على تجربة واحدة منذ كسوف ماي 1919 ))(7). لقد تعارضت نظرية أينشتاين مع بعض النتائج المحتملة للملاحظة.
يلزم العلم أن يثير ويستفز ويجازف. وليس المطلوب منه اقتفاء مسالك للأمان والائتمان. وكل نظرية لا يتأتى لها ذلك، أو لاتعطي لنفسها إمكانية من هذا القبيل؛تتحول بالتأكيد إلى عقيدة جامدةوتقترب من الدين وتقطع كليا مع العلم .
يؤاخذ بوبر- مع جزمه كذلكبأن قسما كبيرا مما قاله فرويد وأدلر، وملاحظاتهما المهمة التي بوسعها لعب دورا كبير في صياغة علم سيكولوجي قابل للاختبار– على التحليل النفسي:(( الخاصية الدائرية لأغلب التبريرات النفسانية ونزوعها إلى أن تصير واقعا لذاتها))(8). ذلك أن التفسيرات السيكولوجية، تنزع غالبا إلى الاستناد على تطبيقاتها السالفة،ومن ثمة تعميمها للتأكيدات والحقائق .أيضا،قد نتوهم علمية التحليل النفسي نظرا لاستناده على ملاحظات إكلينيكية،لكننا ننسى أنها ملاحظات تظل بدورها :(( تأويلات على ضوء نظريات))(9).
يدافع بوبر،عن موضوعية المعرفة . مسألة قد تفهم من خلال منحيين :
-
الوجود الفعلي والواقعي للعالم؛بحيث يتكلم العلم عن عالم واقعي موجود أساسا .
-
تنفصل المعرفة عن الذات .
تتبلور تصورات كتلك،ضد التأويلات الذاتية للفيزياء المعاصرة ، منطق حكمها لفترة طويلة. تتأتى المعرفة الذاتية من هذه العلاقة السلبية المنقادة وراء أشياء العالم . إنه الاعتقاد الذي قامت عليه الأطروحات المفهومية للإبستيمولوجيات التجريبية .في حين يؤكد الاتجاه العقلاني،على أن المعرفة بناء ذهني .
يميز بوبر بين المعرفة الذاتية والموضوعية . تتأتى الأولى من موقف سلبي أولي بالأشياء نتيجة : “اعتقاداتنا وانتظاراتنا ثم استعداداتنا للتأثير” . بينما تقوم المعرفة الموضوعية على نظريات مرتبطة بعلاقات محض منطقية؛تشكلت لسانيا .
كذلك،يرفض بوبر،مسألة الرهان على اليقين؛ مهما بلغت قوته، بخصوص إمكانية إثباته مقولة معينة. يقول بشكل جازم :(( لاأومن بالاعتقاد ))(10).
والأساسي أن يخضع رجل العلم نظريته على ضوء معايير عقلانية ، وانتقاد النظريات التي تمت صياغتها موضوعيا . لذلك: ((فالاستقرائي الذي يؤمن بالتراكم السلبي للملاحظات،لايمكنه إلا الخلط بين الموضوعي والذاتي. ثم المسار العلمي والاعتقادات الاحيائية )) (11).
توظيف بوبر لمفاهيم الذاتي والموضوعي،تجعله قريبا من كانط .لأن المعرفة الموضوعية عنده تعني تلك المعرفة التي يمكن تبليغها إلى كل العقول،أي تأكيد لحقيقة الحكم؛ وتكون كذلك مقبولة بين الذوات. إلا أن مبدأ التزييف البوبري يفصله عن الكانطية.
يستحيل حسب بوبر؛الحديث عن تجرد مطلق لرجل العلم عن الأحكام والتعميمات الجاهزة والقبلية، فالتحيز العاطفي والوجداني؛لامناص منه.فقط الاشتغال الجماعي على المنهجية النقدية، يعطي إمكانية للانفلات والتخلص من هذا النزوع الفردي والسيكولوجي لظاهرة العلم .
انتقلت بوفريس بعد ذلك،إلى حديث بوبرعن نمو النظرية العلمية وماهية محتواها المنطقي ؟ يؤكد الفيلسوف من جديد قائلا : ((ليس هناك إلا طريقة واحدة ،بغية تقديم دلائل عقلانية لصالح اقتراحاتي.تحليل نتائجها المنطقية: إظهار خصوبتها، ومدى قدرتها على توضيح نظرية المعرفــة))(12). يتجلى المحتوى المنطقي لنظرية ما في : (( صنف كل نتائجها اللاحشوية ))(13)،ومشيرا إلى ما سماه بالمحتوى الإخباري لنظرية ما .تلك النظرية التي تستبعد حالة أشياء ممكنة، وتكون أقل احتمالا. لذلك فهي إخبارية .
كيف فهم بوبر قضية تطور المعرفة ؟ .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ