مثلما هي البناءات التخييلية المتينة، تتداعى بين العبارات الحسية المدسوسة ببن الأشياء المتغيبة وتمثل صور الباطن ،تقرؤك قصيدة الشاعرة سعاد الوردي، مستحيلة إلى رسوم وأبهاء منظومة مطرزة .
يتداخل التخييل بالمحاكاة، فتصير مستقلة بذاتها “مقصورة بحسن هيئة تأليف الكلام” بتعبير القرطاجني.
عندما يؤول السؤال إلى شك، والشك إلى حديث مفتون، والقلق الوجودي إلى حالة تفكيك قيمي، تتمظهر مشاعر، هي مزيج بين استدعاء الذات ومخاطبة الأخر.
يصير المتخيل هنا واقعا ينزلق شيئا فشيئا، ليصير عنوان تجسد ورؤيا.
القصيدة تكاد تنطق في مسار واحد، لا ينفك يحفر في جلمود الصمت، الكمون الواثق بخطو الارتياب. كلما تسارعت الأسئلة وازدحمت، كلما انقادت العبارة طيعة غائلة منسابة كطرف العين الخؤون. وهو ما يتأكد منذ بداية الديوان في قصائد ” مقايضة ـ أسطورة الرمال ـ دخان الأشباح ..” كأنما انخلقت العبارات الشعرية من وابل اللايقين. حقيقة ن أت أن يتسربل الوميض من بين هذا الصراخ، النزيف المستمر. دون أن يجد العقل ضالته، فيقرر الاستباق غير عابئ بما تقتفيه مثالب الحياة وأهوالها.
الشاعرة أيضا تحتفي بالرموز الكبرى لعوالم السحرة، كأنما تريد تطويع الكينونة وجرفها عبر استيهامات التخييل السردي، وهي تحكي قصة الصياد الذي وجد كنزا في مدينة جميلة، سرعان ما يراكم الهموم وتزحف به الأوهاد والحتوف إلى مقاتر الجبال ومتاهات الأفول.
إن النص الشعري هنا يتحول إلى سؤال ديكارتي محتوم، تعوزه التذكرة القابضة على جمر التحول وإعادة التدوير.
منذ البداية وسؤال الديوان يقوم على مبدئية ” كيف لنا أن نعرف أن ما نراه من حولنا حقيقي و ليس وهمًا كبيرًا لا نعلم به؟” . وهو ما يحضر في قصائد الديوان :” أختلف عنكم” و” مياسم على جدران متحف” و شذرات من وحي الصحراء ..” .. والسؤال هنا مركب، جزء كبير منه ينماز عن وحدة السؤال الإشكالي : لماذا؟ .. بل إنه يقيم نسقه على فكرة الربط بين الإرادة والتخيل الإيجابي.
تجد ذلك وتضحا ومنكشفا في عبارات شعرية حرى كمثل :
” أنا الشهيد هنا وهنا وهناك .. دمي في كل الأنحاء ؟” ص 41
” أنا هنا يلفني دفء الشاي ..عزف الناي .. ضوء القمر؟” ص 34
تقوم هذه السواريالتخييلية على منشأة الترميز الواعد للأنا ، تميل حيث يميل اقتدار الموضوع، تيمة السؤال ووقوده المعرفي.
عمن تتحدث الشاعرة في قصيدتها الموسومة ب”أختلف عنكم؟” . لا بد وأن القارئ سيحتمل اقترابات الهوية واللغة والانتماء، حدود التشابك بينها وبين الفعل، الزمن وامتداده السيروري في الذاكرة والمتاهة؟
… لا تسألوني لأنكم لن تفهموا ..
.. أنا سلسلة الأمازونات .. ارتديت جلد الأفاعي .. ص 35
ثم تضيف كأنها تخرق كل مواضعات الاستيهام في حيوات تسترد حرقتها الضارية من جوانية الحدس، الرؤية التي انخلقت من شأفة الديوان، نصا عميقا متصاعدا، ونافذة مطلة على مزيد من أسئلة العشق الصوفي.
ولولا ذلك ما انشغل ذهن الشاعرة بأيقونات من تجليات النفس والروح ، قصائد ” حين يتكلم الرمل” و” حين يحمي القطا الخبا” ..ففيها ما يشفي الغليل ويبلغ الشأو والعلا الأخلاقي العفيف.
لا أجد غير هذا المرمى السابر لغيلة السؤال وغلبته سوى الانزياح خلف تمظهرات النظام المعرفي المتموقع بإزاء فكرة حلول الديوان وأسباب قيامته.
فالديوان نص متقاطع دون وحدة موضوعية، لكنه يشرب نبيذا متواطئا مع ترف الأفكار السادرة المثيرة لقضايا الوجود واضطرابات الحياة والهزيمة واستقرار النفس وتعالقاتها ..
* التقديم الذي تصدر الباكورة الشعرية للكاتبة سعاد الوادي ” ترانيم في حضرة الوطن” الصادر مؤخرا عن دار المعارف الجديدة بالرباط 2019