“صيف مع العدو” لشهلا العجيلي الرواية التي تستعيد حياة مدينة عامرة من تحت أنقاضها

*مفيد نجم

عبر تاريخ عائلة إقطاعية الجذور تستعيد شهلا العجيلي في روايتها صيف مع العدو جزء مهما من تاريخ مدينتها الرقة خلال العقود الأربعة الماضية، وكأنها تريد أن تسترد هذه التاريخ وحيوات أشخاصه الطافحة بالحياة والفرح والخيبات، من تحت أنقاض خرابها وموتاها، لكي ندرك المعنى التراجيدي لاغتيال مدينة، أريد لها أن تتحول إلى بؤرة حرب دامية، يتصارع فيها وعليها جميع الأطراف الضالعة في صناعة الخراب السوري.

تتميز الرواية بكونها رواية شخصيات يغلب عليها طابع المكان. تدور أحداثها بين الرقة وألمانيا وحلب ودمشق وجيورجيا، وفي هذا المكان تتقاطع مصائر شخصياتها الأساسية وتفترق، لتعود وتلتقي من جديد مع تصاعد الخط الدرامي لأحداثها. تفتتح الكاتبة روايتها بعتبة مكانية، في حين أن زمن الرواية يبدأ من النهاية ومن مدينة كولون الألمانية، ثم يعود إلى زمن البدايات صعودا حتى نقطة بداية السرد، ما يجعل زمن الرواية دائريا يعود في نهاية الرواية إلى نقطة البداية. الراوي في هذه الرواية هو البطلة ابنة هذه العائلة الأصغر، والتي تطاردها لعنة مصائرها، كما تطارد مدينتها. تكشف تبة السرد المكانية منذ البداية عن اهتمام الكاتبة بسرد تفاصيل المكان نظرا للدور الذي يلعبه في إكساب أحداث الرواية وشخصياتها مظهرا مماثلا للواقع.

مدينة مستباحة

الخراب والقتل اللذين تعرضت لهما مدينة الرقة بعد سيطرة داعش عليها، وجعلها عاصمة لما يسمى بدولة الخلافة، حوّل المدينة الصغيرة التي كانت مصيفا للرشيد، إلى بؤرة حرب مهولة، جعلت الكاتبة ابنة هذه المدينة تولي الراوي/ البطل مهمة تقديم صورة واسعة، من حياة هذه المدينة، إلى جانب انطباعاتها عن أحداثها وشخوصها، ما يجعل السرد ذاتيا وتحليليا، ويضفي على العلاقة بين السارد والمتلقي نوعا من الحميمية بسبب العلاقة المباشرة بينهما. وإذا كانت بطلة الرواية تبدأ سردها من نقطة النهاية لتعود بعدها إلى مرحلة طفولتها، في بداية ثمانينات القرن الماضي، فإنها تستعيد من خلال سيرة أفراد عائلتها مراحل هامة في تاريخها، مثل الفترة التي شهدت حرب فلسطين، وتعرف جدها إلى زوجته الأرمنية الأصل، والتي كانت أحد أعضاء فرقة بديعة مصابني الغنائية. تركز بطلة الرواية على سرد تجربة حياتها، التي عاشتها وحياة نساء أسرتها أكثر من الاهتمام بسرد الأهوال، التي عاشتها المدينة في ظل سلطة داعش، إذ تتحدث بصورة مكثفة عنها.

تقاطع مصائر

ما يميز هذه الرواية على كثرة شخصياتها، هو تقاطع مصائر شخصياتها الأساسية، وبالتالي تقاطع الأزمنة والأمكنة فيها. تستبدل الكاتبة التقسيم التقليدي للرواية بالعنونة، التي تتيح للكاتبة حرية الحركة في السرد، من خلال التقطيع المشهدي، وذلك وفقا للرؤية التي تنطلق منها في بناء عالمها السردي، وترتيبها الحكائي. وبقدر ما تهتم الكاتبة بسرد تفاصيل المكان، فإنها تهتم بوصف شخصياتها أيضا، لكن ما يلفت الانتباه في علاقات هذه الشخصيات مع بعضها البعض، وهي تتقاطع في مدينة الرقة ثم تفترق، أنها تعود وتتقاطع ثانية في كولونيا الألمانية بعد وصول بطلة الرواية، إلى هناك بمساعدة من نيكولاس الفلكي الألماني الذي جاء إلى الرقة يقتفي أثر الفكي البتاني. تتقاطع المصائر الحزينة والقاسية، التي تجمع بين بطلة الرواية وبين كارمن الألمانية، إذ إن كليهما نجا من حرب مدمرة، وعاش أهوالها وفقد عائلته فيها، ثم هرب إلى بلد آخر . كما تجمع بينهما الكتابة، وخيبات الحب وانعكاساته النفسية، على علاقاتهما مع الرجل.
وكما اختفى عبود رفيق طفولتها وسنوات مراهقتها الأولى، يعود ليظهر فجأة أيضا بعد وصولها إلى ألمانيا، بعد أن قامت كارمن بشكل سري ترتيب لقائهما من جديد، وكأن ظهوره المفاجئ هو تعويض عن كل ما فقدته من أهل ووطن في غربتها.

مصائر درامية

تتميز شخصيات عائلاتها بمصائرها الدرامية، بدءا من علاقات زواجها وحتى هروبهما منه واختفاء أثرهم، على الرغم من حالة ثرائهما ووضعهما الاجتماعي المميز. ولا تختلف كثيرا مصائر نسائها عن مصائر الرجال من حيث مأساويتها. لكن الأكثر درامية وغرابة هو موت خال البطلة تحت التعذيب في فروع أمن النظام، بسبب انتمائه الماركسي وهو سليل الإقطاع.
مع تطور أحداث الرواية تظهر شخصيات جديدة، سوف يكون لها أثر هام في حياة بطلة الرواية بعد هروبها إلى ألمانيا من جحيم الحرب. يعد نيكولاس وكارمن الألمانيان هما الشخصيتان اللتان ستلعبان دورا مهما في حياتها، بعد أن كان الأول سببا في سخطها على والدتها، التي كانت تتنافس معها على العلاقة معه، أثناء عمل والدتها كمساعد له في مرصده الفلكي، الذي أقامه هناك. تستخدم الكاتبة التناسل الحكائي في سرد أحداث الرواية، خاصة في الجزء الأخير ما يجعلها تتناوب على السرد مع شخصية كارمن، التي تروي لها حكاية عائلتها مع بداية الحرب العالمية الثانية، ولجوئها من بولونيا إلى ألمانيا واستقرارها فيها، ومن ثم حكاية خيبتها مع زوجها الفلسطيني السوري الذي عاد معها من دمشق، حيث كانت تتعلم اللغة العربية هناك، وأثر ذلك على وضعها النفسي وعلاقتها بالرجال. كما تتحرك أحداث السرد مع ظهور عشيقها رجل الأعمال الكبير الذي يغرقها بعشقه ويأخذها إلى جورجيا، دون أن ينهي كل هذا خوفها من العلاقة مع الرجل. تستخدم الكاتبة الوثيقة أكثر من مرة في متن السرد، كما تستفيض في الحديث عن إنجازات البتاني وأوهام بطليموس، وكأنها تريد أن تظهر الدور الذي لعبه هذه المدينة علميا.

المدينة المنتهكة

تعيش بطلة الرواية طفولة متميزة بسبب انفتاح أسرتها من جهة، وانشغال أمها بمشاكلها المستمرة مع والدها. كما يلعب وجودها في حارة عاد العديد من شبابها مع زوجاتهم الأوربيات الشرقيات من دراستهم هناك، في تعزيز هذا الواقع، الذي تتعرف فيه إلى رفيق طفولتها الدائم عبود. لكن ما يحدث بعد الثورة السورية والمصير الذي أريد للمدينة أن تلعبه، أعاد المدينة إلى عصور الظلام الداعشية. يشتد قصف التحالف على المدينة، فتقرر البطلة الخروج مع الهاربين من السكان بعد أن فتحت قسد طريقا لخروجهم (مشى الرتل برؤوس مطاطئة، مثل قطيع خيول باكية، لكن لا يسمع لها صوت حمحمة ولا وقع حوافر. لا أحد يسأل أحدا شيئا، ولم يودع أحد المدينة أو يلقي نظرة أخيرة على جثمانها المتهالك. لا أحد يريد أن يتذكر شيئا، أو يتألم أو يحزن أو يفكر. نريد أن نصل الجسر وبعدها هناك وقت طويل لدموعنا وأحزاننا). ينجح الجميع في اجتياز مناطق الخطر وهناك يبدأ التدافع للصعود في المراكب التي ستنقلهم إلى الضفة الأخرى. فجأة تشتعل السماء ويدوي انفجار لغم ، فيرتمي الجميع أرضا، وعندما تبحث عن والدتها تجدها قد فارقت الحياة، وأن قدميها قد بترا، فترفض ركوب المركب وتصرّ على نقلها معها ودفنها في الضفة الأخرى للنهر. تستعين بمدرب الفروسية القديم لتحقيق هذه الغاية، ثم تمضي بعد ذلك إلى دمشق، ومن هناك إلى ألمانيا بعد أن رتب لها نيكولاس أمر مجيئها.

رجال كارمن الثلاثة

في ألمانيا تخوض تجربة حياة مختلفة، يظهر فيها الاختلاف الثقافي بين شخصيتها وشخصية كارمن باعتبارهما يمثلان مجتمعين مختلفين، لكن ذلك لا يقلل من حميمية العلاقة. كارمن الخائبة في عشقها وزواجها ترتب لها لقاء مع رفيق طفولتها عبود، الذي تحول إلى طاه مشهور عالميا بعد عودته مع أمه التشيكية إلى براغ. تحاول الكاتبة من خلال وصف تفاصيل المكان أن توحي للقارئ بالطابع الخاص للمكان ومعرفتها الواسعة بأنواع الورود. بعد لقائها بعبود ينفتح أفق جديد للعلاقة وللحياة لديها، لكن الكاتبة تترك نهاية الرواية مفتوحة لكي يكملها القارئ، بوصفه منتجا آخر لها.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *