فريدا كاهلو.. شريط ملوّن حول قنبلة

فريدا كاهلو.. شريط ملوّن حول قنبلة

 

*أسامة فاروق

في أحد المنتجعات السياحية الفاخرة المنتشرة على طول الساحل الشمالي المصري يطل وجه فريدا كاهلو عبر جدارية ضخمة، أصبحت مزاراً سنوياً لزوار تلك البقعة الشهيرة، ومركزاً لالتقاط الصور، حيث تطل فريدا بوجهها المميز وألونها البراقة الفاتنة.

صحيح أن فريدا أصبحت أيقونة بمرور الزمن، وصحيح أنها أصبحت تنظر إلينا من أغطية أعواد الثقاب وحتى أغلفة الروايات وكتب الطبخ وربما مراييل المطابخ، لكن تلك الجدارية بالتحديد تعكس حقيقة ما وصل إليه وجه فريدا كسلعة تجارية عالمية، خصوصاً أنها موجودة بالضبط حيث لم تكن تتمنى أبدا، بل ربما حاربت وجود هذه الأماكن من الأساس من خلال نشاطها في الحزب الشيوعي المكسيكي.

هل يدرك زوار الجدارية، القصص المخفية وراء وجه فريدا الجامد؟ هل يعرفون أن وراء ذلك القناع عاشت امرأة، 47 عاماً قصيرة، لكنها كانت أعواماً مليئةً بالاحتفالات والتحديات، الانتصارات وخيبات الأمل. وجوه متعددة خلف ذلك القناع الملون، “شريط ملون ملفوف حول قنبلة” هكذا وصفها السريالي أندريه بريتون. أما هي، فلم تعتبر نفسها رسامة سريالية، وإنما فنانة اكتشفها رسامون سرياليون، وصرحت للأصدقاء وللنقاد على حد سواء، في العديد من المناسبات، بأن لديها رأيها الخاص بهذا الشأن “لقد اعتقدوا بأني كنت سريالية، لكني لم أكن كذلك. لم أرسم أحلاماً قط. لقد رسمت واقعي الخاص”.


هذا بالضبط ما يلفت الانتباه في السيرة التي كتبتها كلوديا شيفر عن حياة فريدا، وصدرت مؤخراً ترجمتها العربية تحت عنوان “الحب المقدس والمدنس في حياة فريدا كاهلو”. تلك القصص التي يمكن فهمها من وراء لوحاتها، والتي يمكن ترجمة حياة فريدا كاملة من خلالها، لأنها كانت ببساطة تجسيداً فعلياً لمعاناتها الممتدة.

في السيرة التي يعيبها غياب الصور واللوحات، تأكيد متواصل على أن الاختفاء الجسدي لم يكن له أي تأثير في إعادة صنع وجه فريدا كأيقونة في كل مكان، بل في أقل الأماكن توقعاً. حضورها الكبير، بمثابة اختزال لقصصها التي لا تُعدّ ولا تُحصى، بحسب كلوديا التي ترى أيضا أنه سيكون من الصعب إيجاد وعاء فارغ يتسع لجسدها الممزق وحكايتها المعذبة: “إن فريدا مثل رسم الطبشور لضحية، قام به محققو الشرطة في مسرح الجريمة: إن قصتها موجودة هناك ليتم ملؤها بكل رواية”.

كمحققي الشرطة، تتبعت كلوديا سيرة فريدا من خلال تحليل صورها ولوحاتها ويومياتها، لترسم لوحة ضخمة لتلك الفاتنة المعذبة، من لحظة ميلادها الساعة الواحدة صباح 6 يوليو 1907 في بلدة كويوكان الشاعرية وسط المكسيك، وحتى لحظة وفاتها بعد عيد ميلادها السابع والأربعين في 13 يوليو 1954، تلك الوفاة التي لم تكن مفاجأة لأصدقائها أو للمكسيكيين عموماً الذين اعتادوا على الربط بينها وبين المعاناة، إذ كانت مريضة معظم حياتها، ولم يعد للطب ما يقدمه لها أكثر من تخفيف بسيط لآلامها المبرحة. الفن وحده أنقذها من الموت.
تحكى كلوديا كيف انتهت حياة فريدا الطبيعية، قبل أن تبدأ، عندما أصيبت بشلل الأطفال في سن السادسة، معاناة تفاقمت في شبابها. ففي أحد الأيام، لم يكن القدر في صفها، حيث كاد تصادم عنيف بين عربة قديمة الطراز والحافلة الحديثة التي تركبها أن يقتلها. أصيبت بجروح بالغة، والنتيجة فترة طويلة من النقاهة في السرير. وهي مستلقية على ظهرها، لديها منظومةً خاصة لحامل لوح الرسم، وبكرة ابتُكرت كي تنظر إلى وجهها في المرآة وترسم ما تراه “إن استخدامها للصور الذاتية كعلاج يبدأ هنا”، تقول كاتبة سيرتها. مسمّرةً في مكانها، بدأت فريدا عملية من التحليل الذاتي لحياتها بالكامل حتى تستمر في رسم صور ذاتية لنفسها خلال فترات العزلة الطويلة. أصبح جسدها محل تركيزها، ومن خلاله أصبحت تعي كل شيء وأي شخص من حولها.

عندما عادت فريدا للرسم مجدداً، بعد تلك الحادثة التي كادت تفقدها حياتها، كان ذلك بسبب أن دييغو ريفيرا -زوجها الذي حلمت بالزواج منه وعانت بسبب خيانته طوال حياتها- أمضى الكثير من الوقت بعيداً منها منشغلاً بمهام الجداريات. في العام 1929 رسمت لوحة “الحافلة The Bus”، وهي رسم صغير لركاب داخل نوع نموذجي من وسائل المواصلات، لم تكن الحافلة المشؤومة نفسها في الحادث، هذه الصورة لستة ركاب في حافلةٍ خشبية رُسمت من زاوية في ممشى الحافلة، تراقبهم عمن قرب وتصور اللباس التقليدي وسلوك الرجال والنساء في طريقهم إلى العمل أو أداء مهامهم.
الناظر إلى المشهد، بحسب تحليل كلوديا شيفر، يجلس كواحدِ من بين الركاب. أم وطفلها، رجل يرتدي بذلةً ذات ثلاث قطع ويحمل حقيبةً صغيرة، عامل في بزة عمل، امرأة من الطبقة الوسطى مع سلة تسوق مصنوعة من الليف، وتكمل المجموعة.. شابة جذابة في فستان حديث تلبس حذاء بكعب عال مع وشاح أحمر متطاير.

الألوان صامتة، وهناك تلميح للتوجه من جانب الريف نحو المدينة، حيث أننا نرى الأشجار على جانب واحد من الحافلة التي تتجه نحو المصانع والمداخن في الجانب الآخر. يظهر هذا النمط من وسائل النقل في عدد من لوحات فريدا ربما كطريقة متكررة للسفر بالنسبة لها، أو ربما كدليل على روتين الحياة اليومية للقوى العاملة التي كانت تنتقل بشكل متزايد من المناطق الزراعية إلى المدن المتنامية.

بعد ذلك تُظهر الصورة الذاتية “في كرسي in a chair” فريدا بشعر قصير، مع أقراطها المميزة، ونظرة الحزن العميق. بالطبع لقد صورت نفسها كامرأة منعزلة في صور ذاتية سابقة لكنها الآن تبدو يائسة.

تفسر كلوديا: “كانت عيناها بنيتين وكانت دائماً قد رُسِمت ببعض ظلال هذا اللون، لكن هنا تبرز الحدقة على نقيض البياض الواضح للعين. ربما كان المقصود بالقتامة أن تعكس بعضاً من مفهوم الحصانة، بعض التلميح بأنه حتى القرب من دييغو لن يسمح له بأن يدخل إلى أعمق أفكارها. ربما تغيرت الفتاة البسيطة الصغيرة في صور طفولتها لتصبح داخليةً جداً حيث أن الوصول إلى عواطفها الحقيقية لم يعد ممكناً. ومهما يكن الأمر فإن نظرة هذه الشخصية المرسومة تغلق باب الحوار معها. هناك نقطة ضوء في كل حدقة، بريق لشخص أو شيء تنظر له بينما تجلس وتشاهد نفسها في المرآة ولكننا نراها هي فقط. يبدو الشعر المقصوص بعناية كما لو أنها خضعت لنوع من العلاج أو عانت من المرض، وهو أقسى مما كان عليه في صور سابقة”.

تستمر السيرة عبر اللوحات، راصدة تحولات فريدا وتطورات حياتها. كانت قد حصلت على ما أرادت – الزواج من دييغو – لكنها لم تنجب الطفل الذي تاقت إليه. وأصبح ذلك الطفل هو رمز كل الأمور التي سارت على عكس ما تمنت، حتى أصبح يُلجم الموضوع في محادثات الحياة اليومية إلى أن بدأت تتردد في رغبتها بإنجاب الطفل مع مرور الوقت.

في العام 1932 عانت فريدا من آفة في إصبع قدمها وكان هناك دائماً إمكانية انتشار الآفة أو الالتهاب. بينما فكرت بالأطفال، خشيت أيضاً من العواقب. اتضح أنه لن يكون لديها الكثير من الخيارات. في منتصف 1932 أُدخلت لمستشفى (هنري فورد Henry Ford) وكانت تعاني نزيفاً حاداً. شخص الطبيب النسائي الإجهاض التلقائي أو خسارة الحمل أحد الأمور التي ستعاني منها طوال حياتها. في المستشفى، رسمت لوحتين هما “ولادتي My Birth “وفريدا والإجهاض Frida and the Abortion”، هنا ترصد كلوديا كيف استخدمت فريدا الرسوم التشريحية لوضع الألم الجسدي والمعاناة الذهنية الناجمين عن هذه الأزمة في شكل تصويري تماماً “ممددة على سرير محاطة بالأجنة المشوهة، بقايا تكنولوجيا، برك دم، وعظام الحوض المحطمة، مع مدينة ديترويت (حيث كان يعمل دييغو) بعيداً جداً عنها”.

تلمح السيرة إلى أنه في الوقت نفسه الذي وثقت فيه فريدا لحظات تاريخية من حياتها، بدأ فنها يتخذ أغلب خصائصه المبدعة: طريقة لتوثيق الأبعاد الخفية للألم ووسيلة لمآسي المرأة الداخلية الأكثر دراماتيكية. محولة نفسها من الداخل للخارج، جعلت المشاهد ينظر للأعمال الداخلية للجسم البشري كفن، تماماً كما مجد دييغو العمال والسكان الأصليين للأميركتين قبل دنس الاحتلال الإسباني، لقد وجدت فريدا موضوعها في متناول اليد، ولم تكن المرة الأولى التي يصبح فيها الفن علاجاً لها.

بعد وفاة والدتها، تاقت فريدا للعودة إلى الوطن، وكانت مع زوجها في أميركا وقتها، وتعطينا اللوحة الزيتية المسماة “ثوبي معلق هناك My Dress Hangs there” كل ما نحتاجه من أدلة لنشعر بمدى إحساسها بالوحدة بعد أن فقدت والدتها “إن كمية التفاصيل الموجودة في هذه اللوحة الصغيرة – التي لا يتعدى مقاسها 18×19 إنشاً – مثيرة للإعجاب”.

استمرت فريدا في رسم صورها الذاتية، لكن السيرة تبرز لوحة صغيرة – بالكاد حجمها 12×15 إنشاً – لخصت فيها كل حياتها بالفن، وكان لها هذه المرة شكلاً جديداً أيضا. اللوحة هي “ريكوردو Recuerdo – أنا أتذكر أو ذكرى”، التي رسمتها عام 1937 وفيها تضع نفسها واقفةً بطولها الكامل في منتصف اللوحة محاطةً بغيوم عاصفة ذات اللون الأزرق الغامق وتحت قدميها هناك في أحد الجوانب محيط بأمواج متلاطمة وعلى الجانب الأخر خط الشاطئ البني الغامق لإحدى القارات. إحدى قدميها تحولت إلى قارب شراعي على وشك أن ينزلق إلى البحر، والقدم الأخرى موضوعة على الأرض بالقرب من قلب كبير ودام جداً قد استئصل من جسدِ ضخم جدا وترك مُلقى هناك، وسيف يوجد على مقبضه ملاك مجنح صغير يخترق صدرها في المكان الذي يجب أن يتواجد قلبها فيه. وتظهر مرتدية ثوباً شديد البياض وسترةً قصيرة معاصرة عليها بعض الرسوم.

كل نوع من الملابس يغلف جزءاً من تاريخ فريدا حسب تفسير كلوديا: أولاً أيامها في المدرسة، ثم أيامها زوجة لريفيرا. إن وجه فريدا مغطى بالدموع وشعرها قصير جدا والسمة الوحيدة التي يمكن التعرف عليها من لوحاتها الشخصية السابقة هي الحاجب المفرد المجنح. هل كانت قد تركت أشياء خلفها – ملابسها وسنوات من حياتها وعلاقاتها الشخصية – حتى ولو كانت تلك الأمور قطعت أوصالها عن جذعها وهي تحاول إكمال حياتها؟ أو هل تُظهر هذه الصورة بأنها قد جرت ماضيها معها وبقيت متعلقة بالأذرع المقطوعة خوفاً من خسارة كل شيء؟ اللوحة تؤكد بأن لا شيء اختفى وإنما تحول إلى جزء مما ستصبح عليه فريدا في النهاية.

في العام 1935 أصبحت العلاقة بين دييغو وكريستينا-أخت فريدا- واضحة بشكل لا يطاق، مما دفعها للانتقال إلى شقة خاصة بها في “مكسيكو سيتي”. بدأت فريدا بمعاقرة الشراب بكثرة ولأسباب يعود بعضها للانتقام من دييغو كما تقول كلوديا، بدأت بإقامة علاقات مع رجال ونساء تعرفت عليهم سواء مؤخراً أو في وقت سابق “يُقال بأن دييغو لم يمانع علاقاتها مع النساء ولكنه كان يشعر بالغيرة بسبب علاقاتها مع رجال آخرين”!

تروتسكي كان أحد هؤلاء الرجال الآخرين، وبعد انتهاء علاقتها معه بدأت فريدا الرسم كمتفرغة، وكان الموضوع المتكرر في الفترة من 1937 إلى 1938 هو الأمومة كما تظهر السيرة في عدة أعمال، كما ترصد أيضا حياة فريدا بعد الطلاق، وفى هذه الفترة رسمت أحد أشهر أعمالها “ذا تو فريداز The Two Fridas اثنتان من فريدا” 1939 بمقاس أكبر بكثير من المقاسات المعتادة عندها – حوالي 68×68 إنشاً – صورة ذاتية مزدوجة اعتبرتها كاتبة السيرة بمثابة صورة أشعة لفريدا في لحظة كان ألمها الجسدي وألمها العاطفي يتسابقان للإطاحة بها. الغيوم الزرقاء الداكنة الحائمة خلف شخصين جالسين ليست جديدة على لوحاتها إذ ظهرت في أعمالِ قليلةٍ سابقة، إنما هنا تهدف إلى إبراز مدى الاضطراب الذي يعاني عنه الشخصان الجالسان أمامها. تندمج خلفية الصورة وأماميتها لكي تبقيا المتفرج غير متأكد من المقصد. كانت صورها الذاتية السابقة هادئة في الغالب بالمقارنة، وموضوعة ضمن إطار من الخلفيات الحمراء أو البنية الداكنة وتظل ساكنة عموماً، والآن كل من الطبيعة والطبيعة البشرية تتحدان لتملآ المشهد بتوتر يحزن القلوب.
____________
(*) كتاب “الحب المقدس والمدنس في حياة فريدا كاهلو” تأليف كلوديا شيفر، وترجمة محمد الفشتكي، وصدر عن دار ألكا.
*المصدر: المدن.

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *