*تحسين الخطيب
“ولدتُ غانية، ولدت رسّامة”. وبين هذين القدرين قضت فريدا كالو حياتها بعنف المرأة التي ترقص على حافة الجنون. كانت ترسم بنهم الشهوة، وتناوم النساء والرجال على حدّ سواء.
كانت تلتهمهم بضراوة النمرة التي تعقد حاجبيها كجناحيّ طائر طنّان فوق عينيها الشاخصتين. فعلت ذلك قبل زواجها من عشيقها دييغو ريفيرا، الرسام المكسيكي الشهير، والذي كان يكبرها بعشرين عاما، وأثناء زواجهما، وبعد طلاقها منه مرّتين، وحتى الرمق الأخير من حياتها التي انتهت بجرعة زائدة من المورفين في “البيت الأزرق”، لم ينج من شهوتها أحد، حتى ليون تروتسكي ذاته، عاشرته في بيتها، بعد هروبه وزوجته من النرويج إلى المكسيك هربا من ستالين.
كان ولع كالو بذاتها هو باعث شهوتها الأكبر؛ ويكشف لنا نثر يوميّاتها الهادر عن شعريّة باذخة لا تقلّ عنفا عن البورتريهات السورياليّة التي رسمتها لنفسها، نثر قائم بين “ملاطفة الأقمشة ولون الألوان والخيوط والأعصاب وأوراق النباتات والغبار والحرب والشمس”، نثر شبقيّ بلا تقاويم، بأحبار ملوّنة، بُريت أقلامها الكاتبة “بحدّ الأبد”.
“لا مثيل ليديكَ”، كتبت فريدا في دفتر يوميّاتها إلى دييغو، “ولا شيء كالأخضر الذهبيّ لعينيك، جسدي طافح بكَ لأيام وأيام. أنت مرآة الليل، وميض البرق البطّاش، رطوبة الأرض، غور إبطيك ملجئي، وأصابعي تلمس دمك”.
كان دييغو، بالنسبة إلى فريدا، مسالك أعصابها التي لا تكفّ عن الدوران، هو المصباغ وهي حاملة اللون، هو رائحة خلاصة البلوط وهي ذكريات الجوز، هو النفَس الأخضر وهي شهادة الزجاج؛ “عيناك سيفان أخضران في لحمي”، خاطبته قائلة في رسالة أخرى، “وكلُّكَ في فضاء طافح بالأصوات، في الظلّ والضياء.. أنتَ تُلبّي وأنا أحوز، كلماتك تطوف الفضاء كلّه، وتصل إلى خلاياي التي هي نجماتي، ثم تذهب إلى نجماتك التي هي ضيائي.. وكان عطشُ عديدِ سنينَ قد لُجِمَ في جسدي، كلمات مصفّدة لا نستطيع قولها إلّا على شفاه الأحلام. وكان كلّ شيء مطوّقا بالمعجزة الخضراء لمشهد جسدك، وعلى قدّكَ، سياط الأزهار.. سيرة الثمار في عصارة شفتيك، دم الرمّان.. ضممتك إلى صدري فاندسّ شكلك في دمي، عبر أطراف أصابعي.. أنتَ هنا، غير محسوس، وأنتَ الكون كلُّه، الكون الذي أشكّله في فضاء غرفتي. غيابكَ يتدفق مرتعشا في تكّة الساعة، في نبض الضياء؛ وأنت تتنفّس في المرآة. منكَ إلى يديّ، أمسّد جسدكَ كلّه.. ودمي المعجزة التي تسري في خلايا الهواء.. تصبح المعجزة الخضراء لمشهد جسدي في جسدك الطبيعةَ كلها.. إنه ليس حبّا، ولا رقّة، ولا عاطفة، إنه الحياة نفسها، يا حياتي، أن أجد ما رأيته في يديك، في فمك وفي شعرك وفي ثدييك. في فمي، طعم الجوز من شفتيك”.
كان دييغو ريفيرا هو مرآة الليل بالنسبة إلى المرأة التي وصفها أندري بريتون ذات يوم “بالشريط الملفوف حول قنبلة”. ولكنها كانت كل شيء بالنسبة إلى نفسها، كانت امرأة القلادة اليَشب وظلّ الشارب فوق شفتيها، امرأة القلادة الأشواك، تاج المسيح، وفي جيدها الطائر الطنّان.
امرأة الشعر الأجعد والقرط الدائري الأزرق في شحمة الأذن، امرأة قناع الموت وأيامه، بالزهرة الصفراء، تحت سماء عاصفة، تميل. امرأة رأس النمر الخشب، امرأة الفخذ المجروحة ويد تحت التنورة تستمني.
امرأة في مرآة مؤطّرة بالأصداف والمحار وخيوط عنكبوت حول عنقها، امرأة منمنمة في الخشب ووردة حمراء قانية على رأسها كأنها النار. امرأة بحاجبين كجناحي نسر مفتوحة في الأعالي، وعبّادة شمس في حر الظهيرة، امرأة بكتفين غرابين متقابلين. امرأة القرد، سيّد الرقص ورمز الشهوة، وقد طوّقها بذراعه. امرأة الجناحين القشّ والشرائط المدقوقة بالأرض.
امرأة فراشات القيامة، والجسد الشمع المقطّع أوصالا. امرأة السرير الذي في الغمام، السرير المقصلة والهيكل الورقيّ على ظُلّته ينوس. امرأة الجسد الكرمة، الجسد المُشلَّع، والعشاء الأخير، امرأة الزهرة الزرقاء والببغاء الأصفر الحزين. امرأة السيكارة المعروقة بين الأصابع، والضفيرة التّاج.
امرأة ثمار الأرض، امرأة الزهرة اللّهيب، امرأة الساعة الحادية عشرة وثلاث دقائق بالجرس ذي الحلقة النحاس على تكّاتها. امرأة جوز الهند والبطيخ، امرأة الجذع النافذة، والعمود المكسور والمِشدّ الحديد؛ المرأة ذات الشعر الطويل حتى سنابل القمح. امرأة الشمس الساطعة بين نباتات كأنها قضبان رجال وأرحام نساء؛ المرأة الغزالة الرامحة منخوبة بالسهام.
_______
*كاتب ومترجم من فلسطين مقيم في الأردن/ العرب