يحيى القيسي: أعمالي مفخّخة بالتابو الفكري.. وأؤمن بالرواية المعرفية

*جعفر العقيلي

في روايته الرابعة “بعد الحياة بخطوة”، يقترب الكاتب الأردني يحيى القيسي من “الموت” بوصفه الحقيقة التي تؤرق البشر، معتقداً أن الراحلين من عالمنا يواصلون حياتهم بشكل آخر في عالم آخر. أي أن الموت ليس النهاية، بل هو البداية لحياة جديدة موازية للحياة السابقة/ الأرضية.

وبحسب مقولة الرواية الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت (2018)، فإن الحياة الأخرى حافلة بالعمل من أجل الترقّي لما هو أفضل من حيوات أخرى لاحقة. أما أولئك الذين فشلوا على الأرض بسببٍ من أخلاقهم الدونية، وجرائمهم التي تكبلهم، وطاقاتهم السلبية، فتنتظرهم “أرض أخرى” تسمى “الحضيض”!

وُلد القيسي في بلدة حرثا شمال الأردن عام 1963، وأصدر قبل “بعد الحياة بخطوة” ثلاث روايات هي “باب الحيرة” (2006)، “أبناء السماء” (2010) و”الفردوس المحرم” (2016)، ومجموعتين قصصيتين بدأ بهما مسيرته الأدبية، هما: “الولوج في الزمن الماء” (1990) و”رغبات مشروخة” (1996)، بالإضافة إلى كتابين في الحوارات والترجمة.

تالياً حوار مع القيسي حول روايته الجديدة التي تُظهر اهتمامه في كتاباته الأدبية بالمسائل الروحانية والماورائيات:

في التعريف بروايتك الجديدة وأجوائها، هناك إشارة الى انها تكمل مسيرة رواياتك الثلاث السابقة لتشكل هذه الأعمال معاً رباعيةً بمعنى ما، هل القصد تتابع الأحداث أو متابعة مصائر الشخصيات وسيرورتها، أم إن المناخات أو الثيمة واحدة؟
انشغلت في رواياتي الثلاث “باب الحيرة” و”أبناء السماء” و”الفردوس المحرّم” بموضوعات تتعلق بالعوالم اللامرئية أو الميتافيزيقا، والبحث العلمي في أسرار الكون، وما يتعلق بالسيطرة على البشر ليغدوا قطيعاً يساق بحسب ما يريده مَن يحكمهم بشكل سرّي، إضافة إلى البحث عن جذور هذه الميتافيزيقا في التراث العربي والإسلامي بشكل خاص، وقد وجدت ذلك جلياً عند المتصوفة وإرثهم الغني الذي وصلنا.
لهذا فإن “باب الحيرة” مثلاً انشغلت بسؤال الشكّ والإيمان، والبحث عن اليقين، عبر شخصيتها الرئيسة. فيما جاءت “أبناء السماء” لتبدأ حفراً معرفياً في إمكانية الإيمان عن طريق العلم والاقتناع وليس الإيمان التقليدي. وركّزت “الفردوس المحرّم” على ضرورة أن ينتبه البشر إلى التضليل الكبير الذي حدث لهم في العلوم، وأيضاً عند تزوير التاريخ، حيث قدمت الرواية مقاربات جريئة وجديدة لفكرة نشأة الإنسان على الأرض، أيْ فردوس آدم المفقود وأين هو، وما جرى في تلك الحقبة المبكرة للبشر، ضمن رؤية سردية تشتغل على عناصر التشويق وحركة الشخصيات والمخيال الجامح.

أما الرواية الجديدة “بعد الحياة بخطوة” فهي مختلفة تماماً عما سبق من ناحية الشخصيات والهواجس والانشغالات، لكنها تلتقي مع ما سبق من ناحية المناخ العام، أيْ بحث الشخصيات عن المعرفة واليقين، وهذه المرة عبر سؤالٍ عن الموت المحيّر وأسراره.

تشتغل على ثيمة الماورائيات. ما الذي قادك إليه: عطش الانسان للمعرفة أم توق الروائي للمغامرة.. أم ماذا؟
منذ صغري وأنا دائم البحث عن سؤال الحياة، وأسرارها، وما ورائها، وهذا الأمر قادني إلى التقلب في أفكاري بين الشك والإيمان، وبين القلق والاطمئنان، وقد تنقلت بين الإيمان التقليدي القائم على الوراثة من الأهل والمجتمع القروي المحافظ إلى الشكّ الديكارتي وأفكار نيتشه وماركس، خصوصاً مع التأثر بالأدباء اللّا دينيين خلال التسعينات مع انطلاقتي الأدبية في القصة القصيرة والصحافة الثقافية أولاً ثم مسيرتي مع الرواية لاحقاً.
بعد تلك المرحلة –الثانية- بدأت بالشكّ مجدداً بهذه الأفكار المادية التي تبدو بلا أمل ولا تقود إلى شيء غير الهباء، وكان أن وجدتُ نفسي مطمئناً إلى المرحلة الثالثة التي تزاوج بين العلوم الحديثة وبين الروحانيات والتصوف والإيمان القائم على التأمل والمعرفة.

لهذا يمكن القول إن رواياتي رافقتْ تطوراتي الروحية ونضجي المعرفي، وأنا بطبيعتي أؤمن بالرواية التي تقدم المعرفة وليس الحكاية فحسب، فالرواية وعاء ضخم لاستيعاب طرح الأسئلة الوجودية الكبرى، والبحث الدائم، كما إنني أدرك أن الكتابة نوعٌ من الخلق، لا يجوز العبث به، أو القيام بخلق كائنات مشوهة من خلالها لتزيد القبح في هذا العالم. الكتابة التي أتبنّاها تحتفي بالجمال وتنتصر لقيم الخير والنور، لا كتابة الحضيض السفلية التي تجعل الحياة أكثر سوءاً مما هي عليه.

تكتب عن وقائع وأحداث تمزج بين الواقع وبين الخيال العلمي. هل تفكر بمسألة إقناع القارئ بالأحداث وأنت تكتب؟
أكتب دون سطوة من القارئ عليّ أو تدخّل أو تأثير منه، وأحاول قدر الإمكان الهروب أيضاً من تنظيرات النقاد وتأطيراتهم للأعمال الأدبية ضمن آفاقهم النقدية ودروسهم الأكاديمية. ومع ذلك أدرك بعد نحو ثلاثين سنة من الكتابة أنها عمل شاقّ، ويحتاج إلى نضج معرفي وخبرة، وبالتالي فإنني أراقب ما أكتب جيداً، أيْ أضع رقابة داخلية من خلال خبراتي وقراءاتي الكثيفة، فالرواية عمل أدبي أولاً وأخيراً، فيها من الخيال والتحليق في عوالم مثيرة ومشوقة للقارئ الكثير، وثمة أساليب للسرد، وتقنيات ولغة صحيحة وفي مكانها المناسب، وحوارات وأفكار ومعارف.. وكل هذه العوامل يجب أن تكون متقَنة وفيها روح خلاقة وإبداع جديد.
الكتابة لا تأتي من فراغ، بل تحتاج إلى خبرات مقطَّرة وقراءات كثيفة ورؤية فكرية خاصة بالكاتب لينقلها للقارئ، ولهذا أترك الأمر للقارئ ليحكم على العمل وليتفاعل معه بطريقته أو يرفضه إن أراد.

في النهاية لا يوجد قارئ واحد ولا ناقد واحد، بل لكلٍّ ذوقه الخاص ومعارفه المسبقة، وأنا أحترم وجهة نظر كل قارئ أو ناقد في النهاية، لكني لا أكتب إرضاءً لأحد، ولا تحت ضغط أحد.

تكتب في منطقة تقترب أحياناً من التابو. كأن تجعل الإنسان يعيش حياة أخرى بعد حياته الأرضية؛ فإما الارتقاء وإمّا الحضيض! ألا تخشى من ردة فعل أولئك الذين ينصبون أنفسهم حرّاساً على الفكر؟
رواياتي كلها بالمناسبة مفخّخة بالتابو الفكري، وهي تقدم وجهة نظر مغايرة لما وصلَنا من اجتهادات الأقدمين، ولكن هدفها ليس الاصطدام مع هذه الطروحات ولا نقضها، بل تقديم رؤى مغايرة تحاول أن تجد لها مكاناً في عقول القراء.
قلت في ما سبق إنني أؤمن بالرواية المعرفية لا بالرواية المبنية على الحكاية فقط، أؤمن بالرواية التي تقدم الفكر السلس للقارئ، عبر حكاية وشخصيات وحبكات وتقنيات سردية. وهو ما يجعل الرواية قادرة على الإسهام في تغيير المجتمع ولو بشكل بطيء، وأن تكون رافداً إبداعياً للفكر النظري الجاف.

وحين أنشر عملاً، لا أسعى للدفاع عن طروحاته الفكرية وما يتضمن من رؤى قد تكون صادمة لبعضهم ومرفوضة من آخرين. في النهاية ستجد الرواية قراءها المتحمسين لها ولو بعد حين. أما ما يتعلق بحراس الأفكار المتربصين بالخارجين عن فكرهم، فأتمنى أولاً أن يتورطوا في القراءة المعمقة والمتأملة في الأعمال الأدبية، وعندها من المؤكد أنهم سيتغيرون!

وفي كل الأحوال، أرى أن على الأديب أن يقوم بدوره في مواجهة الفكر المتطرف من خلال كتاباته ومقالاته بشكل غير مباشر، وأن لا يركن إلى أن المجتمع سيتغير من تلقاء نفسه.

هل استعنتَ بمصادر معرفية وأنت تؤثث معمار روايتك. أقصد المنحى الفلسفي أو سؤال الرواية أو مقولتها؟
القراءة المعمَّقة في الموضوعات التي تتناولها الرواية مسألة مهمة، وأيضاً مشاهدة الأفلام الوثائقية، والتأمل أيضاً، كلها مسائل تسبق الكتابة، لأني أجد أن الروائي في حال بدء الكتابة سيكون تحت تأثير كل خبراته وقراءاته وخياله الخصب ليؤثث عالمه الروائي.
في الحقيقة، منذ سنوات طويلة وسؤال “الموت” يؤرقني، وقد اطّلعتُ بالطبع على المدونة التراثية الإسلامية في ذلك، إضافة إلى رؤية بعض الفلاسفة الغربيين والشرقيين له، كما انشغلت طويلاً بمشاهدة بعض تجارب “الاقتراب من الموت” التي مرّ بها بعض الأشخاص الذين خضعوا لعمليات جراحية صعبة، أو اختبروا الموت من خلال غيبوبة طويلة، وبالتالي ما كتبته في الرواية مقاربة خاصة لهذا الموضوع المؤرق لبني البشر، وأنا أؤمن بها، فالحياة تستمر، والموت وَهْم، وخاص بالجسد المادي فقط، وهذا ما تقوله العلوم الحديثة أيضاً، فالمادة لا تفنى ولا تُستحدث، بل تتحول من شكل إلى آخر، والجسد المادي يتحلّل، لكن الجسد الأثيري باقٍ، بكامل وعيه. صدّق ذلك مَن صدّق، وكذّبه مَن أراد!

بدأت قاصاً، ثم ذهبتَ لمنطقة الرواية. أما من عودةٍ للقصة. أما من حنينٍ لها؟
انقطعتُ عن كتابة القصص القصيرة منذ عام 2000 تقريباً، ولم أعد من ذلك الحين أفكر بكتابة القصة، ويبدو أنني هجرتها إلى الأبد، أو بشكل أصح هي التي هجرتني وسلّمتني إلى الرواية، أمها الكبرى!
وما أزال أتذكر حواراً أجريته مع الروائي الراحل الصديق مؤنس الرزاز ذات يوم وقد وجهتُ إليه هذا السؤال نفسه، وأذكر أنه أجابني إن القصة القصيرة تمرين مسبق على كتابة الرواية. ومع إيماني بأهمية القصة وعالمها المختلف تماماً عن الكتابة الروائية، إلا أن الحال بالنسبة لي أنني لم أعد أفكر بالعودة إليها، دون أسباب وجيهة غير ما ذكرتُه أعلاه!
_______
*المصدر: ناشر

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *