اكتشافُ هوية دينية وأيديولوجية للعلم والمعرفة كان وما زال أحدُ الأحلام الكبيرة للجماعات الدينية في عالم الإسلام. وقد ظهرت الدعوةُ لذلك قبل أكثر من نصف قرن في كتابات أبي الأعلى المودودي، وتقي الدين النبهاني، وغيرِهما، ممن حاول أن يخلع غطاءً دينيا على علم الاقتصاد الحديث وعلوم الإنسان والمجتمع والفلسفة الحديثة. وانخرط بهذه الدعوةِ جماعةٌ من المفكرين المسلمين في البلاد العربية وإيران وباكستان وماليزيا واندونيسيا وتركيا والولايات المتحدة، وأخذت عدةُ مؤسسات على عاتقها النهوضَ بهذه المهمّة، وعقدت عشراتُ الندوات والمؤتمرات والحلقات النقاشية، لدراستها. وحسب رصدنا للمشهد الثقافي في العالم العربي وإيران والإنتاج الفكري الإسلامي بالعربية والفارسية في السنوات 1980 ــ 2000 ، وجدنا أن جماعةَ “إسلامية المعرفة” في العالم العربي يمثلون أبرزَ جماعة تعمل على خلق هوية دينية وأيديولوجية للعلم والمعرفة، وكانت خلاصةُ جهودهم تأسيسَ “المعهد العالمي لإسلامية المعرفة” سنة 1981، وتكفّل المعهدُ بإقامة الكثير من الحلقات النقاشية والندوات والمؤتمرات، وأصدر عدةَ دوريات، وعددا وفيرا من الكتب في مجالات المعرفة البشرية المختلفة مع دمغها بصفة الإسلامية.
وعند التأمل في دعوة إسلامية المعرفة يمكننا إثارة عدة تساؤلات لم تجب عليها. إذ لما كانت إسلاميةُ المعرفة تجد مبرراتِها في تحيّزِ وتمركزِ المعرفة وتنوّعِها، تبعا للتعدّد والتنوّع في المعتقدات والأديان والهويات، فإن هذه الدعوةَ تثير سلسلةً من الإشكالات والاستفهامات الحائرة التي يمكننا إيجازُها بالآتي:
1ـ الوثوقيةُ والإطلاقُ في إسلامية المعرفة تنتج تهافتا في منطلقاتها، ففي حين تشدّد إسلاميةُ المعرفة على أنها ترتكز على تحرير المعرفة من التحيزات والتمركزات والرؤى والمواقف الاعتقادية النسبية، تتورط هي في تبني رؤية اعتقادية للمعرفة تفضي إلى نسبية من نوع آخر، لأن المعرفةَ عندها تصطبغ بهوية دينية وأيديولوجية، فبدلا من معرفة لادين لها، يغدو للمعرفة دين، وبدلا من معرفة بلا ايديولوجيا، يغدو للمعرفة ايديولوجيا، وبدلا من معرفة بلا تحيّز وتمركز، تغدو المعرفةُ متحيزةً ومتمركزة، وبدلا من معرفة ليست نسبية، تغدو المعرفةُ نسبية. حتى تنتهي إسلاميةُ المعرفة إلى نفي للمعرفة.
2ـ لماذا يتجاهل مشروعُ إسلامية المعرفة الأطرَ الاجتماعيةَ للمعرفة التراثية بالخصوص، ويعمل على تعميمِ الأفكار والمفاهيم التراثية المنتِجة في البيئة الإسلامية، وتأبيدِها للعصور والأزمان كافة، بعلى الرغم من أنها معرفةٌ بشريةٌ مشتقّةٌ من فضاء حضاري، وثقافي، وسياسي، واجتماعي، واقتصادي خاصّ بها، في حين يذهب الى تحيّزِ ونسبيةِ ومحدوديةِ المعارف والعلوم البشرية المنتِجة في بيئات أخرى، ويشدّد على عدم إمكان سلخها عن محيطها الحضاري الذي ولدت في فضائه؟ أين هي المراجعةُ النقديةُ للتراثِ التي تحرّرنا من الاستسلام لرؤيتِه للعالم ومناهجِه ومنطقِه، ومشاغلِه ومداراتِه، وقضاياه وهمومِه؟ ولمن ينتصر دعاةُ أسلمة المعرفة حين يسرفون في تبجيلِ التراث ومديحِ أعلامه في ظلّ الهجاء المتواصل للعلوم والمعارف الحديثة؟ إن كان للزمن تأثيرُه في تاريخيةِ الفكر الإنساني وتحديدِه بالبيئة والحاجات التي أفرزته، فلماذا التهاونُ، بل إغفالُ النظرة التاريخية في دراسة التراث وتحليله؟ إن “المعهد العالمي للفكر الاسلامي” لم يخفق في ذلك فقط، بل وعجز حتى عن مراجعة أفكاره وبرامجه التي طرحها بنفسه؟
3ـ ألا يفضي تجريدُ العلوم الاجتماعية الغربية الحديثة من مناهجها وأدواتها ولغتها ومعاجمها الاصطلاحية ومرتكزاتها، الى نفيها وتفريغها من محتواها، ومن ثم ستنتهي عمليةُ أسلمتها الى تناقض منطقي، استنادا الى أن ماهيةَ العلم تعني موضوعَه، وإن تمايزَ العلوم بتمايز موضوعاتها كما قرّر المناطقةُ من قبل، فإذا جرى تغييرُ موضوعِ العلم وأدواتِه ومناهجِه يتغير محتوى العلم وينتفى، وإن اسميناه بالاسم السابق نفسه؟
4- حين يصرّح دعاةُ إسلامية المعرفة بأن العلومَ والمعارفَ لا تنطبق إلا على حالة معينة وجغرافيا بشرية وثقافية محددة، وهوية خاصة، فانهم يجرّدون المعرفةَ من طبيعتها العامة الشاملة، أي إن المعارفَ والعلومَ تتعدّد وتتنوّع لديهم تبعا لتنوّع الهويات والمعتقدات والأديان والخصوصيات الحضارية، لكنهم لا يتنبهون الى أن هذه المقولةَ تستبطن نفيَ ذاتها، إذ كيف تكون المعارفُ كافة محليةً نسبيةً منبثقةً من بيئتها، ما خلا “إسلامية المعرفة” التي تستثني نفسَها من ذلك، أي إنهم عندما يرفضون شمولَ المعرفة وعمومَها، ويتنكرون الى أن المعرفةَ بحدّ ذاتها، حتى في العلوم الاجتماعية، لا هويةَ لها، فأنهم يفترضون أن معرفتَهم ومقولاتِهم فقط كونيةٌ عامةٌ شاملة، لا موطنَ لها. ألا تنظوي هذه الدعوةُ على مفارقة وتناقض؟
5ـ إن العلومَ الحديثةَ تنبثق عن رؤيةٍ للعالم جديدة، وهناك فارقٌ شاسعٌ بين الرؤية القديمة والجديدة، بنحو لايمكن القول معه إن العلمَ الحديثَ يمثّل تواصلا للإرث العلمي القديم، فقد انبثق العلمُ الحديثُ من رؤية الإنسان البديلة للطبيعة، والإنسان، والحياة، وهي رؤيةٌ انبثقت في فضائها مكاسبُ العلم ومنجزاتُه. فقد تجلّت الطبيعةُ للعلماء في العصر الحديث بشكل مختلف، فأصبحوا يجدونها مدونةً بلغةٍ جديدةٍ لا تشبه اللغةَ التي قرأ بها القدماءُ الطبيعة. يقول غاليلو: “الإله دوّن هذه الطبيعة بلغة الرياضيات”، ولايمكن لغير العارف بها أن يطالع كتابَ الطبيعة. إن الباحثَ الحديثَ اكتشف طبيعةً أخرى، كُتِبت بلغة ثانية، فعمد الى إتقان تلك اللغة، واستطاع قراءتَها، وحقّق مانراه من اكتشافات ومكاسب متنوعة. كان الإنسانُ يرى هذه الطبيعةَ نفسَها، لكنها كانت تتجلّى له بلغة ميتافيزيقية. الطبيعةُ واحدةٌ لكن كلا الطرفين حاولا اكتشافَها، وتجلّت لكلّ منهما بصورة خاصة، والتحول الذي طال الرؤيةَ الى العالم هو الذي أدّى الى ظهور العلم الحديث، وقد تجسّدت العقلانيةُ الغربيةُ بالمضمون ذاتِه، فحقّقت نتائجَ علمية هامة. اذن، كيف نستطيع بناءَ منظور علمي حديث للعالم والإنسان والطبيعة، مادمنا ننهل من الرؤية التراثية التقليدية التي يريد جماعةُ إسلامية المعرفة تكرارَها بأسلوب مبتذل، بذريعة الهوية والأصالة والخصوصية، والتشديد على نفي كلّ ما هو كوني في المعارف والعلوم الحديثة؟
6ـ ربما تمثل إسلاميةُ المعرفة عمليةَ تعويضٍ نفسي للمسلم الضائع الذي لم يحقّق ذاتَه في العالم اليوم. المسلمُ لم يسهم في مكتشفات واختراعات ومكاسب العلم والمعرفة الحديثة بإسهام كبير، لذلك يحتاج أن يعوّض ذلك بتوهم أنه ممن أنجزوا العلم، وأسهموا في إنتاج المعارف الحديثة، وممن يسهمون في صناعة العلوم و المعارف.
7ـ لماذا تُتخذ آثارُ ابن تيمية مرجعيةً شاملةً لجماعة إسلامية المعرفة، على الرغم من أن آراءَ ابن تيمية في العقيدة والتفسير وعلوم القرآن والفقه وغيرها، على عمق بعضها، آراءٌ تنتمي للأفق التاريخي الذي عاش فيه صاحبُها، مضافا إلى أنها آراء خلافية، وقف منها كثيرٌ من العلماء في عصره والعصور اللاحقة موقفا ناقدا، فهي فضلا عن تاريخيتها وتعبيرها عن عصرها، لم تكن موردا للقبول العام، بل إن الجماعاتِ السلفيةَ المتفشيةَ في مجتمعاتنا تستقي مشروعيتَها من ميراث ابن تيمية وتلامذته، وتستند الى آثاره كمرجعية في تكوينها وتثقيفها ودعوتها، وتستلهم فتاواه في مذابحها الشنيعة؟
8ـ أليست دعوةُ “إسلامية المعرفة” في مضمونها قضيةٌ فلسفيةٌ ترتبط بتفسير ماهية المعرفة ومصادرها وحدودها وقيمتها في المرتبة الاولى، كما ترتبط عضويا بمباحث فلسفة العلم، غير أن الدراساتِ التي يكتبها دعاةُ هذه القضية لم تقاربها من منظور فلسفي، مضافا الى عدم استيعابهم النقدي لآثار الفلاسفة والمتصوفة والعرفاء والمتكلمين والمناطقة، مع أن ميراثَهم يشتمل على آراء تتسم بالتنوع في تفسير طبيعة المعرفة, ومصادرها، وقيمتها. وربما كان الاستسلام للموقف التراثي السلبي من الحكماء والمتكلمين والمتصوفة والعرفاء هو الذي حال بين دعاةِ إسلامية المعرفة وصياغةِ رؤية حيال هذه المسألة البالغة الأهمية. فهل إسلاميةُ المعرفة قضيةٌ فلسفية من دون مضمون فلسفي، وقضيةٌ معرفية من دون مضمون معرفي؟
9ـ تبدو إسلاميةُ المعرفة وكأنها ضربٌ من الموقف تسلطي، يهدف الى هيمنة الإسلاميين على ما تبقّى من معطيات العقل والخبرة البشرية، بعد هيمنتهم على معظم الحياة الدنيا، فضلا عن الاستئثار بالآخرة، بمعنى أن إسلاميةَ المعرفة تظهر وكأنها حيلةٌ فكريةٌ للجماعات الدينية، بغية احتكار الحياة العلمية والفكرية والثقافية، واستبعاد الآخر من الميادين كافة ؟
10ـ لماذا لم تتشكّل حتى اليوم النواةُ الجينيةُ لعلم اجتماع إسلامي، أو علم نفس إسلامي، أو علم اقتصاد إسلامي… الخ، بالرغم من مضي أكثر من ربع قرن على هذه الدعوة, ومعظمُ الكتابات لم تتبلور فيها رؤيةٌ نظريةٌ واضحة حيال هذه العلوم، فضلا عن عدم إنجاز أيّة محاولة جادّة لصياغة وبناء أيّ علم بصبغة إسلامية؟
11ـ على الرغم من وجود إنتاج فكري في الحوزات في النجف وقم وغيرهما، وعلى الرغم من تنوّع الأفكار الخلافية التي يزخر بها راهنُ التفكير الديني في الحوزات, غير أن “المعهد العالمي للفكر الإسلامي” لم يزل بعيدا عن ذلك، مع أن فكرةَ “إسلامية المعارف والعلوم” واحدةٌ من أبرز المسائل إثارةً وأكثرها مناقشة، حيث يدافع المحافظون عنها، ويعملون على صياغة تصورات ورؤى وتبريرات بشأنها، من خلال مؤسّسات متخصّصة في ذلك، في حين لا يقبلها المفكرون الإصلاحيون ويذهبون الى أنها تستبطن تهافتا وتناقضا منطقيا.
12ـ على الرغم من أن الملاحظاتِ التي أوردتُها تشمل على كلّ محاولات إسلامية المعرفة بتسمياتها وعناوينها المختلفة عند المفكرين المسلمين السنة والشيعة عل اختلاف مواطنهم، لكني كنتُ أتمنى أن يتواصل المعهدُ العالمي للفكر الإسلامي مع المحاولات المبكرة لأسلمة المعرفة في أعمال السيد محمد باقر الصدر، والسيد محمد حسين الطباطبائي، وتلميذِه الشيخ مرتضى المطهري، ود. محمد نقيب العطاس، ود. حسين نصر، و محمد أبو القاسم حاج حمد… وغيرهم. مثلما كنتُ آمل أن يتسع صدرُ القائمين على المعهد العالمي للفكر الإسلامي للاستيعاب النقدي لبعض آثار أولئك المفكرين ممن أسّسوا هذا المعهد، فلم أعثر حتى اليوم على أيّة محاولةٍ نقديةٍ علمية لكتابات المؤسّسين من تلامذتهم أو غيرهم من دعاة إسلامية المعرفة.
13ـ لماذا تُهمل في مشروع إسلامية المعرفة مباحثُ فلسفة الدين، التي تعالج ماهيةَ الدين وحقيقتَه، وجوهرَ الدين، ومجالاتِ الدين وحدودَه، وآفاقَ انتظار الإنسان من الدين، وماهيةَ التجربة الدينية… وغيرها.
ولماذا لاتهتم إسلاميةُ المعرفة بالاتجاهات التأويلية الجديدة في قراءة النصّ الديني، وما موقفُها من طبيعةِ اللغة الدينية وكيفيةِ التعاطي معها؟
14ـ هل يمكن تحديثُ التفكير الديني من دون السعي لتحديث علم الكلام، وفتحِ باب الاجتهاد في أصول الدين، والسعي لصياغة ثيولوجيا تتحرّر من بعض مقولات الإلهيات التقليدية، التي كرّست صورةً مرعبةً للإله، مشتقةً من نموذج الطغاة والخلفاء والسلاطين الجبابرة، والعملِ على بناء “علم كلام جديد”، يصوغ لنا صورةً رحيمةً للإله، تخلّصنا من العلاقة الصراعية المأزومة بين الله والإنسان، وتنقلنا الى نمطِ علاقةٍ حميميّ شفيفٍ دافئ، يقوم على المودّة والشفقة، ويستقي من روح المحبة، لأن الإنسانَ بطبيعته لايستطيع أن يودّ إلها مرعبا؟
15ـ إن أيَّ حديث عن إسلامية المعرفة دون أن يسبقه تحليلٌ لطبيعةِ الوعي البشري وكيفيةِ تكوين المعرفة، ثم تحديدُ ما هو بديهيّ منها والذي تبتني وتشتقّ منه المعارفُ الإنسانية، وهو حديث يكشف عن التباس في استيعاب أساليب التفكير السليم منطقياً، في زمن عاد الوضوحُ المنهجي الشرطَ الضروري لكلّ تمييز بين الكلام العلمي الجادّ وبين التخليط.