طريق الحكمة، طريق السلام: كيف يفكّر “الدالاي لاما”؟ (2)

       

*ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي

 

    يُعدّ الدالاي لاما إحدى أكثر الشخصيات أهمية في عالما المعاصر ، وتأتي أهميته من كونه يطرح مفهوماً للدين هو أقرب إلى النسق  المجتمعي – السايكولوجي – الثقافي المغاير للمنظومة اللاهوتية الفقهية المتداولة ؛ وعليه سيكون أمراً مثمراً الإستماع إلى آرائه التي يطرحها في شتى الموضوعات المهمة على الصعيدين الفردي والعالمي .

   أقدّم في هذا القسم ( وأقسام أخرى لاحقة ) ترجمة لأجزاء منتخبة من بعض فصول الكتاب المسمّى ( طريق الحكمة ، طريق السلام ) الذي أوشك على إتمام ترجمته .

   إعتمدتُ في ترجمة هذا الكتاب على النسخة الإنكليزية التي نشرتها دار نشر ( Crossroads Publishing Company ) عام 2004 .

                                                   المترجمة

 

                          غاندي والطبقات المتمايزة

   عندما إلتقيتُ الدالاي لاما للمرة الأولى في خريف عام 1988 بمناسبة لقاء جمع ممثلي مجلس الكنائس العالمي كان التبتيون الذين حضروا من سائر أنحاء سويسرا ينتظرون بصبر بيّن في مقدّمة قاعة المدخل في مكان الإستقبال إطلالة قائدهم الروحي والديني الذي يمثّل التجسيد الحيّ لِـ ( Bodhisattva Chenresig * ) ، ثمّ ظهر الدالاي لاما آخر الأمر وهو يخطو بخطوات ثابتة مرتدياً رداءه المعروف ذا اللونين الأحمر ( بلون الرمّان ) والزعفراني الأصفر : الأحمر هو لون التعاطف ، والأصفر هو لون الحكمة . ينحني التبتيون بأجسادهم على الأرض لدى مقدم الدالاي لاما ، وفي رمشة عين يحصل أنّ الراهب  الذي يبدو في حوالي الخمسين من عمره ( الحقّ هو في التاسعة والستين ؛ فهو مولود في تموز من عام 1935 ) ينحني ليساعد البوذيين الشباب في النهوض ثانية . ترك هذا المشهد أثراً لايمكن محوه من ذاكرتي ؛ فقد عبّر عن روح متواضعة ، وروح ذات تصميم ذكي رشيق ، ومشاعر يكتنفها الحبّ حتى أبعد مدياتها .

   وقف الدالاي لاما أمام الصحافة ليجيب بكلّ معرفته الفياضة عن الأسئلة التي توالت عليه بشان آخر التطوّرات الخاصة باستخدام القوة المفرطة للسلطات الصينية في منطقة التبت ، ومعاناة شعبه المقموع . يصرّح الدالاي لاما بأنّه ” سياسيّ يعمل بالضدّ من إرادته الشخصية ” ؛ ولكن برغم ذلك فإنّ شخصيته كانت السبب الأهمّ الذي جعل دراما التبتيين العالقين في ( سقف العالم ) – حيث الأرض الصقيعية في قمم الهيمالايا – عصية على التجاهل والنسيان بصورة كاملة من قبل المجتمع الدولي . كانت الكاميرات لاتنفكّ تومض في وجه الدالاي لاما ؛ لكنها لم تكن قادرة ( وليست خليقة أبداً ) على جعله يغادر روح التواضع والدماثة المتجذّرة عميقاً في روحه ، وفي سياق جوابه على سؤال حول الأمور المميزة التي تجعله مختلفاً عن المهاتما غاندي إكتفى بالقول : ” نرتدي كلانا نظارات مختلفة !! ” ، وعندما سأله بعض الجمع المحتشد حول خصائص ” تنويره الداخلي ” راح على الفور يقتبسُ القول المأثور التبتي مع ابتسامة دهشة مرتسمة على شفتيه : ” كلّ ( الكائنات التي بلغت مرتبة التنوير ممتلئة بالمعرفة ؛ لكنها برغم ذلك لاتمتلك أدنى فكرة عن أيّ شيء . ” . إنّه لجزء متأصّل في الفلسفة البوذية للحياة ذلك الذي يرى أنّ هذا العالم ، هذا الوادي من المعاناة الذي ينبغي أن نجتازه ، ينبغي أيضاً أن يكون مكاناً للضحك والبهجة .

   إستقبل رئيس سويسرا المحايدة الدالاي لاما في آب ( أغسطس ) للمرة الأولى عام 1991 ، وحتى ذلك الوقت كانت الإعتبارات الدبلوماسية تجاه الصين ( مثلما كان الأمر مع بلدان عديدة أخرى بجانب سويسرا )  قد وُضِعت في الحسبان لدوافع إقتصادية قبل كلّ شيء آخر . قدّم الدالاي لاما شكره العميق للمواطنين السويسريين بسبب هذه الإيماءة التي تنمّ عن كياسة وحسّ إنساني ، واعتذر بأدب جمّ بشأن الصعوبات التي قد تنشأ في بلدهم بسب ذلك الإجراء . كان الدالاي لاما قدم مراراً إلى سويسرا منذ عام 1985 لأنّ التجمّع الأكبر للمجتمع التبتي خارج آسيا ، والبالغ تعداده قرابة الألفين ، يعيش في سويسرا  ،  وكانت لدى تينزن غياتسو** Tenzin Gyatso كلّ سمات الحب ، والشفقة ، والتفهّم التي خصّ بها الجميع ولم يستثنِ منها حتى مناوئيه السياسيين ، وحتى عندما يتمّ تناول الإنتهاكات الوحشية الجسيمة للحقوق الإنسانية والتي يتمّ إرتكابها بحقّ شعبه فإنّه – وهو المدافع العنيد عن مبدأ اللاعنف – ينأى بنفسه عن كلّ شكل من أشكال إبداء الكراهية تجاه الصينيين .

   هذا التوجّه الواضح لدى الدالاي لاما هو مايميّز هذا القائد الديني للتبتيين عن الأصولية الدينية المتعصّبة التي باتت خصيصة مقترنة بجماعات طائفية عدّة ومنها طالبان الوهابية في أفغانستان على سبيل المثال – تلك الجماعة التي تبشّرُ بالكراهية ولاتتورّع عن ممارسة أكثر أفعال القتل والتدمير شناعة ووحشية ، ومن جانب آخر فقد خاض لاهوت التحرير المسيحي في مخاضات معقّدة وسط بيئة تحفل بكلّ أشكال التنافرات الصراعية وبخاصة في أمريكا اللاتينية ؛ إذ باتت الكنيسة على شفا الخطر المنبئ بأنها صارت نصيراً متواطئاً مع الطبقات الحاكمة التي لاتستطيع في العادة الحفاظ على مواطئ أقدامها في السلطة إلّا من خلال فرق الموت ، وصارت سهام النقد توجّه بصوت عالٍ للكنيسة بسبب صمتها المريع حول الحالة الإستقطابية شاسعة البون بين الطبقات الإجتماعية ( من حيث الغنى الفاحش والفقر المدقع ، المترجمة ) ، وعلى الجهة الأخرى لم يتورّع لاهوتيّو التحرير في أحيان بعينها عن المناداة باستخدام السلاح في سياق دعوتهم المكرّسة لمناصرة المجتمعات الريفيّة المقموعة ، وقد إنتهى الكثير منهم ليجدوا أنفسهم وسط  لجّة طوفان من الغضب العارم الذي تتناهبه سورات من العنف والعنف المقابل بلا هوادة .

                         فيلسوف مبتهج ووادي المعاناة

   لدى إحدى خدمات القدّاس الكنسية في آب ( أغسطس ) عام 1991 ، وفي سياق ” الإحتفالية العالمية ” للمئوية السابعة بتأسيس الإتحاد السويسري في زيورخ ، أنشد الدالاي لاما أنشودة بوذية قديمة بملء روحه – تلك الروح التي تخلّلت المكان وجعلت شخصية الدالاي لاما تأسر الحاضرين التي تجاوز عددهم الألفين في القاعة الكبيرة بأعظم مايمكن تصوّره ، وبعد أن إنتهى الدالاي لاما من أنشودته جاء الدور على المنشقّ الكاثوليكي الذائع الصيت ( يوجين دريويرمان ) من بلدة بادربورن الألمانية ؛ فبدا الرجل شاحباً ومكتئباً إلى حدّ كبير !! . الدالاي لاما ” فيلسوف مبتهج ” ، وحاله في هذا يشبه حال المفكّر الإغريقي العظيم ديموقريطس ، ويعرف الدالاي لاما أنّ التعاطف الحقيقي والشفقة العاطفية أمران متمايزان وليسا الشيء ذاته .

   حصل في ربيع عام 1993 أن إلتقيتُ الفائز التبتي بجائزة نوبل للسلام بمناسبة مؤتمر فيينّا لحقوق الإنسان ، وقد سعى الصينيون لمنع الدالاي لاما من الحديث أمام الأمم المتحدة حول معاناة شعبه ذي الستة ملايين نسمة تحت حكم السلطات الصينية ؛ غير أنّ هذا المسعى لم يُسفِر سوى عن جذب إهتمام عالمي أعظم بقضية التبت . إنّ الاهتمام والإنشغال المفرط من جانب الصينيين بشخص الدالاي لاما نراه ظاهراً في العبارة التالية التي قيلت على لسان ماو ؛ إذ بعد ان تناهى لسمع ماو خبر الرحلة الناجحة بالطائرة للدالاي لاما عام 1959 قال كما ينقل مراسلو الصحف : ” أعتقد بأننا خسرنا المعركة من أجل التبت ” ، ومن المؤكّد أنّ تقييم ماو للشعب التبتي كان صائباً في هذا الجانب ، وحتى في يومنا هذا وبعد أكثر من أربعين عاماً من الدعاية ( البروباغاندا ) المضادة للمعتقدات الدينية لاتزال التبت واحدة بين أكثر المناطق تشبثاً بمعتقداتها الدينية ، وظلّ الدالاي لاما في المنفى شخصية رمزية ممثّلة للمقاومة غير العنفية .

   خلال كلّ محاوراتنا اللاحقة كانت ضحكة الدالاي لاما الفذة المميزة التي لاتضاهيها ضحكة أخرى تجلجل بين آونة وأخرى ، وقد أسرّت لي زميلة في إحدى المرّات أنها تواظب على الإستماع لضحكة الدالاي لاما المسجّلة على شريط تسجيل لديها كلّما داهمها الإكتئاب واعتورت الظلمة حياتها . كان الرهبان والطاقم المُكلّف بخدمة الدالاي لاما لايتعبون من الحركة رواحاً ومجيئاً في بين غرف ذلك الفندق الفييناوي ، ولم يكن المرء يخطئ ملاحظة الخشوع والهيبة المرتسمة على هيئاتهم ، وقد إستمع قائد التبتيين لكلّ كلمة قلتُها بكلّ جوارحه ، وكان المشاركون في الحوارات مفتونين المرة بعد الأخرى بقدراته الإصغائية الفريدة . أجاب الدالاي لاما على كلّ أسئلتي بلغته الإنكليزية المتعثّرة  التي لايمكن أن يخطئها المستمعون ، ولم يتوقّف الرجل طيلة الحوارات عن تحية كلّ من يدخل غرفة الحوار بإيماءة مميزة من رأسه ؛ فهو لايريد أبداً أن يترك شعوراً لدى كلّ فرد من الحاضرين بأنه فردٌ زائد عن الحاجة أو مُهمَلٌ متروك جانباً . إدراك وجود الآخرين فضيلة بوذية في غاية الأهمية .

                       التأمّل وسياسات السلطة 

   الدالاي لاما كائن بشري مميّز وفريد من نوعه حقاً ؛ فهو يجمع السمات السلوكية غير المشهودة بيننا  لِـ ” الطفل السماوي ”  مع الدوافع المحرّكة لأيّ سياسي محترف  إلى جانب الرشاقة الفكرية لأي مفكّر نال حظاً عظيماً من المران الفلسفي ، وفي الوقت ذاته فإنّ شخصيته تشعّ طيبة وكياسة ودفء قلب مكتنز بالمشاعر الحارة ، وتلك سماتٌ كفيلة بطرد كلّ مشاعر التوجّس والريبة وعدم الأمان لدى كلّ من يلتقيه . تبدو لغة الدالاي لاما لغة اقرب إلى اللغة الطفولية في بساطتها المفرطة ، وقد تبدو لغته أحياناً ساذجة وعادية ؛ وبرغم ذلك فهي كفيلة دوماً بجعل الطبقات العميقة من الروح تشرع في التناغم الرنيني مع كلامه . لايبدو أنّ التأمّل اليومي قد نقل الدالاي لاما لعوالم روحية بعيدة التخوم ؛ بل على العكس من ذلك يمنحه ذلك التأمّل القدرة على الإحتفاظ بأصالته حتى أثناء اللقاءات التي لاتحصى له حول العالم والتي يتخللها في العادة ظهور إعلامي تصحبه تغطيات صحفية معمّقة ، ويبدو الأمر معه كما لو أنّ حكمةً غير مثلومة تمتدّ بجذورها لآلاف السنوات السابقة تحكي عن نفسها من خلال شخصية الدالاي لاما وهو يجسّد البوذية التبتية التي لاتزال حتى يومنا هذا الشكل الأكثر نقاءً والأكثر إكتمالاً بين أشكال البوذية في كلّ العالم ، وعلى الرغم من كلّ صروح الأفكار التي قد تبدو ملتوية ومعقّدة فإنّ كلّ فرد يستمع إلى الدالاي لاما يمكنه أن يتابع كلماته التي تشعّ إنسانية وحكمة .

   تحدّر ( تينزن غياتسو Tenzin Gyatso ) ، الدالاي لاما الرابع عشر ، من عائلة مزارعين ، ولاتزال ملامحه تشعّ بسمات الصلابة الفلاحية بأفضل ماتوحي به المفردة من معنى ، ولم ينل من التعليم سوى ماجادت به التقاليد الضاربة في القدم ؛ ولكنه برغم ذلك نجده في يومنا هذا ، وعلى خلاف أسلافه من الدالاي لامات ، يتحرّك بخفة ورشاقة في أرجاء المشهد السياسي العالمي من أجل نصرة قضية شعبه التبتي ، وبالإضافة لمساعيه السياسية فإنّ الدالاي لاما مولعٌ بالمبتكرات التقنية الحديثة ويعشق دوماً تبادل الأحاديث مع العلماء الغربيين بشأن أحدث مكتشفاتهم العلمية .

   يبني الدالاي لاما الجسور بين عوالم مختلفة وبطريقة لايقوى عليها – تقريباً – أحدٌ سواه : عوالم تبدأ من أصول البوذية التي تمتدّ لأكثر من ألفين وخمسمائة سنة خلت وحتى آحدث الأطروحات الحدسية المدهشة للفيزيائيين النوويين ، ومن الإتساع الشمولي لرؤية الشرق الأقصى وحتى العالم الغربي المتعجّل ، ومن التعاليم الدينية وحتى إنشغالات السلطة السياسية ، ومن التأمّل الذاتي وحتى التداخل الفعّال بشؤون العالم ، ومنذ أن مُنِح الدالاي لاما جائزة نوبل للسلام عام 1989 فقد غدا واحداً بين أعاظم القادة الروحيين في يومنا هذا من خلال إلتزامه المكرّس الذي لايطاله التعب أو الفتور تجاه عالمٍ أكثر تمثّلاً للقيم الإنسانية الحقيقية .

* بحسب البوذية يمثّل الحب والتعاطف الكونيّ حجر الإساس في كلّ الروحانيات البوذية ؛ غير أنّ تلك الخصال لاتتجسّد في شخصٍ بأوضح من تجسّدها لدى Chenresig الذي يمثل – من أوجه عدّة – التعبير النمطيّ النموذجي الأعلى مقاماً للتعاطف الذي يقود لبلوغ حالة التنوير الذاتي الداخلي . ( المترجمة )

**  هو الاسم الحقيقي للدالاي لاما الرابع عشر ، وهنا ينبغي الإشارة إلى أنّ الدالاي لاما هو صفة تُخلَعُ على خليفة بوذا وليست إسماً شخصياً للفرد .  ( المترجمة )

___________
*المصدر: المدى.

 

 

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *