الرواية وجماليات الموسيقا في حلب

(ثقافات)

الرواية وجماليات الموسيقا في حلب

*د.علياء الداية ـ جامعة حلب

 

حلب مدينة تحتفي بالحياة، وبالموسيقا قديماً وحديثاً، بوصفها من أبرز الظواهر الملتصقة بالحياة واستمراريتها. فالموسيقا تعتمد على مفهوم الحركة، في مفارقة وتتابع بين الصمت والصوت، فهي إنتاج لمنظومة من الحركات تختلف شدتها وتتنوع في أدواتها. قد تكون ما يشبه المحاكاة لأصوات الطبيعة، معتمدة على الآلات أو الصوت البشري، فـ”الصوت البشري هو أقدم وسائل إنتاج الصوت التي يمكن استنباط الموسيقى منها بشكلٍ واعٍ، وأكثرها طبيعية”(1). شغلت الموسيقا حيزاً مهماً منذ أقدم العصور التاريخية فبدت ذات نظام منهجي وأغراض محددة لدى المجتمع الإنساني، وقد عرفت الموسيقا كل الحضارات القديمة عبر العالم، ومن بينها الحضارات الشرقية القديمة منها على سبيل المثال سومر وإيبلا وأوغاريت منذ آلاف السنين قبل الميلاد وألّفت مختلف الألحان ووظفتها في طقوسها الدينية وشؤون حياتها اليومية سعياً منها إلى تنظيم حركة الناس ومسارات انفعالاتهم.

1 ـ الموسيقا في حلب في ثلاث روايات:

تبدو الموسيقا أشبه بكائن حيّ يتقلب من طور إلى طور، وهو في حلب قد يغيب في بعض من صفاته العامة، ليحتفظ بطابع خاص، فتنتشر الأغنيات الرائجة المسموعة والمرئية في النطاق اليومي، لتتراجع عن المشهد الأغنيات الشعبية، الموروثة عن الأمهات والجدات في نطاق ضيق كأغنيات تردد للأطفال حديثي الولادة، ويتسرب بعض منها من التراث إلى أطياف من أهازيج ألعاب الأطفال في المدارس أو في الأزقة، وقد تعلق بعض المفردات المسجوعة في الأذهان فتتردد على شكل مقاطع مجتزأة من مرويات عابرة للزمن، عدا القصائد والابتهالات الممزوجة بالإيقاع المعاصر للألحان الوافدة والأفكار التي تتداخل مع البيئة المحيطة. ولعل هذا كله بحاجة إلى دراسات معاصرة تتقصى التأثر والتأثير والتغيرات، غير أن تأملنا لروايات ثلاث مسرحها المكاني هو مدينة حلب، سيوضّح بأن الموسيقا قد شغلت حيزاً جوهرياً فيها، من غير الممكن حذفه من الرواية من دون أن تتأثر بنيتها وتفقد معناها، تماماً كما هي الحياة، لا تخلو من الموسيقا وتفاصيلها، أو من مظهر من مظاهرها البسيطة.

تتميز الروايات الثلاث بكونها كتبت وصدرت خلال مطلع الألفية الثالثة، وهي “شمس الأصيل” لـ فيصل خرتش، و”الحروف التائهة” لـ وليد إخلاصي، و”ورد الليل” لـ محمد شويحنة، ولعل من المصادفة بأن هذه الروايات تتتابع في عرض الفترات التاريخية لمدينة حلب مسرح الأحداث فيها، من مطالع القرن الماضي حتى العقدين الأخيرين فيه، فكأنها تشكّل ثلاثية حلب، بأساليب روائية يحمل كل منها سمته وأسلوبه الخاص، في حين أنها تتقارب في طرحها وتناولها للأحداث والشخصيات، ومن الواضح بأنّ هيمنة المكان الروائي ممثلاً بمدينة حلب، ناجمٌ عن إحاطة المبدعين الواسعة بروح المدينة، وتشرّبهم لها، وإحساسهم بإيقاعها المادي والمعنوي، فـ”إذا كنا نقيّم الحياة، أو العدالة، أو الجمال، أو البقاء، أو التكاثر، فنحن لا نقيّمها إلا بوصفنا كائنات شعورية”(2)، ولا سيما أن كل رواية تبدأ من حيث انتهت سابقتها، والموسيقا تحضر في الروايات وكأنها نسيم عليل في حديقة.

من اللافت في الروايات الثلاث عناوينها ذات الصلة بالموسيقا: “شمس الأصيل” إذ تحيل هذه الرواية إلى أغنية أم كلثوم “شمس الأصيل” التي تغنيها شخصية صبريّة وتستمتع إليها عبر المذياع “الراديو”. وتنطوي عبارة “الحروف التائهة” على علاقة بين الحروف والموسيقا، وإن كانت صلة بعيدة، أما “ورد الليل” فهي تنحو إلى الحروف من جديد ولكنها الحروف والكلمات المنظومة في أوراد يترنم بها المتصوفون ومنهم بطل الرواية.

إن الروايات لن تتركنا حائرين طويلاً في التساؤل عن سر تركُّز الموسيقا في المدينة، فسرعان ما يكتشف القارئ تمتع مدينة حلب في زمن الروايات بمقومات المدن المهمة تأثراً وتأثيراً، ففيها كثافة سكّانية، وحركة بين الأحياء القديمة قرب القلعة وتلك الحديثة خارج السور القديم، وهي مسرح تجاري وصناعي ومتأثر بشؤون السياسة والسلطة، وتمت الإشارة إلى وجود ثانوية التجهيز الأولى، المأمون لاحقاً، وطموحات الشخصيات للدراسة الجامعية التي توافرت فيها فيما بعد.

ومن اللافت في شخصيات الروايات الثلاث غلبة العنصر الشاب خصوصاً بوصفه بطلاً للرواية من مثل: صبرية وشهيرة وشكرية ومحمد الحمامي الضعيف وبركات وحسن الشيخ وزهر الدين وغادة في “شمس الأصيل”، وفضيلة وتركي وحامد في “الحروف التائهة”، ومطيع العبّادي في “ورد الليل”، وكان أغلب هذه الشخصيات حريصاً عبر أحداث الرواية على إبراز نسبه العريق والأصيل في إشارة إلى الالتصاق بالمدينة وكونه جزءاً لا يتجزّأ منها.

تلازم حضور الموسيقا في الروايات الثلاث مع حالة الاستقرار في المدينة، فكانت موسيقا الفرح أو الحزن مرتبطة بقدرة الناس على إظهار هذه العواطف، والافتخار بها، وتداولها، وستكشف روايتا “شمس الأصيل” و”الحروف التائهة” وتنصّان على أن الاهتمام بالموسيقا تراجع تراجعاً كبيراً وانحسر في فترات الضيق والأحداث المتأزمة، ويظهر هذا إلى حد كبير في رواية “ورد الليل” التي خلت تماماً من أي إشارة إلى الموسيقا في البيوت. أما آلات الموسيقا ووسائلها ومصادرها، فكان منها: الصوت البشري، والراديو، والعود، والفرق الموسيقية المرافقة للزفاف، والطبول والأهازيج الشعبية والحماسية.

2 ـ الموسيقا والقصديّة الفردية:

لا بدّ لمبدع الموسيقا أو مؤديها أو عازفها من قصديّة في فعله، أما المتلقّي، فقد يكون قاصداً للاستماع أو يكون ذلك مصادفة، ويتعدّى في بعض الأحيان المصادفة البحتة، لتكون الموسيقا أحد المكونات الرئيسية لمسار حياته الذي قد يلازمه الاضطراب بحسب شخصية البطل، كما في “ورد الليل” على سبيل المثال.

“فالقصدية هي سمة العقل التي توجَّه بها الحالات العقلية أو تتعلق بها حالات عقلية أو تشير إليها، أو تهدف نحوها في العالم”(3)، و”إن مفتاح فهم القصدية يكمن في شروط الإشباع. يتمّ إشباع الحالة القصدية إذا كان العالَم هو الطريقة التي تمثلها الحالة القصدية كوجود”(4).

أ ـ المبدع المتلقّي: نجد في شخصية صبريّة في “شمس الأصيل” نموذجاً لمتلقّي الموسيقا، الذي يصبح مبدعاً لها، يتعلّم اللحن فيؤديه من جديد، ويصبح أداةً لبثّ القيمة الموسيقية في الآخرين المتعطشين لسماعها والتمتع بها. فقد كانت صبرية فتاة محبة للموسيقا، تستمتع إلى أغنيات أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ ونجاة الصغيرة في الراديو، تحفظها، ثم يعينها صوتها الجميل وموهبتها في الأداء على غنائها من جديد، عازفةً إياها على العود، فتجمع موهبتَي العزف والغناء. ولمّا كان الراديو اختراعاً جديداً يمكن فيه الاستماع لا التسجيل، ولا بد من ترقّب فترة البثّ وانتظار الأغنية الجديدة لسماعها على الهواء، كان لموهبة صبرية الأهمية الكبرى والميزة الجميلة، في استحضارها الأغنيات ألحاناً وكلمات وأداءً وتقديمها في الجلسات العائلية ومع الأصدقاء.

ب ـ المتلقّي المصادف: يمثّل مطيع العبّادي في “ورد الليل” هذا النوع من متلقي الفن، والموسيقا خصوصاً هنا، فهو نموذج للشاب الضائع، الذي دفعته سماته الشخصية وظروف حياته إلى الحيرة والترجّح بين توجّهين، لم يطل به المقام حتى استكان إلى نهج التصوف المترافق مع أدائه وظيفته في التدريس. أما التوجّه الأول ذو الطابع اليساري، فلم يطل عهده به نظراً لصدمة عاطفية وقع فيها لدى معاناته حباً من طرف واحد لفتاة أعجب بها. هذه الفتاة تراءت له على شكل طيف أسماه الراوي بطل الرواية “فتاة السينما” ترافق ظهورها في المرة الأولى مع موسيقا صاخبة تنبعث من الشارع وتدخل عبر النافذة، وفي مرات تالية من دون موسيقا معلنة، ولكن بشكل يوحي بها. أما انصرافه إلى التصوف فجاء على نحو مشابه لميله الأول، إذ تقرّب منه أحد زملائه وأخذ يستضيفه في زوايا المتصوفين وكانت الأذكار والأوراد المنغّمة والمسجوعة والمكونة في أحيان كثيرة من مقاطع شعرية هي الغالبة على مشهد حياة البطل مطيع، وسرعان ما ألف هذا الجوّ من دون أن تكون له مطامح جديّة، فكان حالماً زاهداً، ولكنه في الوقت نفسه لم يكن متمكناً بإقناع من الروحانيات، فكأنه اكتسب مكانته بتقادم الأيام والمصادفات. ولعلّ هذا ما يجعل الموسيقا أكثر حضوراً ويجعلها من أكثر الصفات المهيمنة في الرواية والأكثر جوهرية. وثمة نوع آخر من المتلقين المصادفين، هم العابرون والناس المتجمعون في الشارع، لدى مرور الموكب الصاخب لزفاف فضيلة والمقدم تركي، في “الحروف التائهة” لـوليد إخلاصي.

جـ ـ المتلقي المتفاعل القاصد: الفتاة فضيلة في “الحروف التائهة” نموذج لهذا النوع من المتلقين، ففي استقبالات أمها الأسبوعية يوم الخميس، لم تكن تكتفي بدور المتلقي بسماع الألحان والطرب لها، بل كانت تتباهى برقصها وجمالها، وتنتظر مع أمها هذه الفرصة، وفيما بعد في حفل زفافها الثاني، اضطرت إلى الاكتفاء بالجلوس إلى جانب زوجها ولكنها كانت ترمق راقصة الزفاف وسط الألحان الموسيقية متمنية لو تكون مكانها كي تسحر ألباب المحتفلين.

3 ـ الموسيقا طقساً اجتماعياً:

تؤكّد الروايات الثلاث، ولا سيما أنها تعرض لمراحل من القرن العشرين، فكرةَ الموسيقا بوصفها طقساً جمالياً اجتماعياً، يشترك الجميع في الفرح أو الحزن أو الابتهال أو الحماسة، فلا نعثر على شخصية تترنم بالموسيقا أو تستمع إليها على نحو منفرد، حتى في حال التدريب، فلا بد من وجود أكثر من شخص، الأستاذ والتلميذ مثل بركات والشيخ إبراهيم في “شمس الأصيل” والشيخ جابر ومطيع في “ورد الليل”، وحتى أثناء الاستماع إلى الراديو، فهو لا يشبه أيامنا المعاصرة، حيث يستمع كل فرد إلى ما يشاء في أي وقت ومن أي مصدر، بل كان للراديو طقوس قد تشمل المدينة بأكملها، كلّ يستمع إلى أم كلثوم في بيته مع أفراد أسرته أو مع جيرانه في “شمس الأصيل”. “إن الاستجابة الفردية للموسيقى، في العزلة المحببة ليست إلا ظاهرة متأخرة نسبياً، حتى لتكاد تجعل أحدنا يغفل أن الموسيقى، في معظم تاريخها لم تكن إلا نشاطاً اجتماعياً. فالشعائر الدينية ومناسبات الحرب ليست إلا أمثلة عادة ما تذكر. وحتى اليوم لا يملك أحدنا أن يتخيل احتفالاً، أيا كان نوعه، دون مصاحبة فعالة للموسيقى، وكذلك الأمر مع موسيقى الآلات، التي استطاعت بعد تاريخ طويل من مصاحبة الأصوات البشرية أن تستقل وتنفرد وحدها”(5).

أ. في الشارع والمكان الخارجي: من أبرز ما يصوّر الحضور الموسيقي الكبير خارج الدور والبيوت فرقُ العراضة والزفاف، فهي مما يلازم الفرح والبهجة والسرور وفق مبدأ إشهار الارتباط الجديد وتغير الحالة الاجتماعية لأصحاب الحفل، وهذه الفرق قد تكون من أهل أصحاب العرس وأصدقائهم أو تكون مستأجرة نظراً لإتقانها فنون الموسيقا والعزف والغناء، نجدها في كل من “شمس الأصيل” لـفيصل خرتش، مع حفل زفاف البرقاوي وشكرية، و”الحروف التائهة” لـوليد إخلاصي في زفاف فضيلة والمقدّم تركي حيث كان ضارب الشيش وراقصة مع الفرقة النحاسية وموكب مكون من سيارات تتجول في الشوارع بأبواقها، “وخرج موكب الفرح من بوابة المزرعة تحمله الزغاريد، وتقدمت سيارة العروسين المكللة بالأزهار والشرائط تلحق بها عشرات السيارات وسائقوها يتفننون بإرسال أصوات الأبواق في الفضاء، فيستيقظ النائمون في البيوت المنتشرة على الطريق، ويتجمع المتطفلون على الأطراف الترابية للشارع وهم يتساءلون عن سر هذا الموكب الليلي الذي لم تشهد منطقتهم مثيلاً له، وما كان لأحد أن يتخيل أهميته وفي مثل هذا الوقت المتأخر الذي سيعقبه الفجر بعد قليل”(6)، وفي الحفلين مع اختلاف الفترة الزمنية، تم الحرص على الصخب المحبب للموسيقا والانتشار الواسع والسمعة الكبيرة. كما نجد الفرق الشعبية التي تدق على الطبول وتجوب الشوارع في “الحروف التائهة”، وتبرز أيضاً إشارة إلى مكانين يرتبطان بالأفراح متفاوتين بين الأقل أهمية “قهوة البرتقان” والأكثر “القاعة الشتوية لنادي حلب”، في “شمس الأصيل”.

أما الموسيقا المرافقة للحزن فتبرز في “الحروف التائهة” لدى وفاة الشيخ عصفور الجنة، والد حامد الشاب الذي نجح لتوّه في امتحان البكالوريا (الثانوية العامة)، فكان القرب من القلعة يتكامل في نفوس المتصوفين والمعزّين مع جلال الحدث، وينطوي على وداع لشخص كان له أثر كبير في راحتهم النفسية وحل مشكلاتهم، “غطى الموكب بساط الإسفلت الممتد أمام القلعة وكأن قاعة العرش التي تتوج المدخل تودّع أيضاً الشيخ الجليل. وظهرت جماعة من الصوفية وهي تتقدم النعش وتحيط به، فارتفعت حناجرها بالتوحيد وجلجلت إيقاعات مزاهرها كفرقة عسكرية تودّع قائدها في إعلان على الملأ أنها فقدت أعز الرجال”(7)، وقد نجم عن هذا الطقس الحزين، فعالية ذات أثر هي بيعة الموجودين لحامد كي يكون خلفاً لوالده في المشيخة.

وتتنوع نماذج من الموسيقا عبر أحداث الروايات، ففي “شمس الأصيل” تنبعث الأغاني الحربية من المكان المتواضع الذي آل إليه البرقاوي مع قططه وقد أضاع رشده، كما تظهر أهمية يوم الاثنين في كونه يوم السينما الذي يدعو فيه محمد الحمامي الضعيف أصدقاءه، وهذا الأمر نجده أيضاً في رواية “الحروف التائهة” حيث يلتقي الأصدقاء السبعة حامد وتركي وأحمد وسليم ورشيد ومجاهد وهايل، ثم نجد في الرواية نفسها أحد السائقين يترنم بأغنية بدوية في الليل، وفي نهاية الليل يحتفي أولاد الحارة بجارهم الأستاذ الذي ترجّل من سيارة رسمية فخمة “وما إن توقفت السيارة قريبة من الدار، تجمّع أولاد الحارة حول العربة الفارهة التي يندر أن يزورهم مثلها، وتزايدت دهشتهم لرؤية الأستاذ يترجل منها فاشتعلت أكفهم بالتصفيق وتعالت الهتافات بحياة أول رجل في الحي أنعم اللـه عليه، وكان الظن سائداً لدقائق بأن الأستاذ وهب بات مسؤولاً كبيراً”(8). كما نجد في “ورد الليل” لـمحمد شويحنة الأغاني التي تتناهى إلى سمع مطيع العبادي من الشارع المجاور له، ومع ختام الرواية يكون من المصائر المتخيلة للبطل مشهد يحلم فيه بمستقبل يردد فيه الأناشيد مع الأطفال والبهاليل، ويتراءى له الماضي المثالي البعيد ممثلاً بجده العبّادي الكبير.

ب ـ في المكان ذي الطابع الديني: تمتزج الموسيقا بالمكان الذي يحمل وظيفة دينية في حلب كما يتبين في الروايات الثلاث، فالإنشاد الديني يرتبط بالمقامات والألحان التي تتبع قواعد وقياسات ذوقية وعلمية، ففي الكتّاب في الجامع في “شمس الأصيل”، تلقّى بركات ابن السفراني القراءة والكتابة، وعمل مؤذناّ لبعض الوقت، كما لاحظ شيخه قابليته لتعلم الغناء، فأخذ يدربه عليه، وكان الشيخ إبراهيم نفسه حسن الأداء لا الصوت، “لم يكن صوته جميلاً، لكن أداءه كان رائعاً، وهو يعلو وينخفض من نغمة إلى أخرى، ومن أغنية إلى أخرى، يعلمهما مقام الصبا… إلى أن ختمه بيا مسعدك صبحية. لم يتعب كثيراً، لكن الجهد كان بادياً عليه”(9). وقد مضت الأيام بالشيخ إبراهيم إلى أن يصبح الشيخ حزين في عام 1967، مع النكسة، لتكون أنغامه حزينة. أما محمد الحمامي الضعيف، فقد غيّره الحزن والصدمة من حال إلى حال، فاختلفت تفضيلاته الموسيقية، أصبح يرتاد الحضرة الصوفية يوم الاثنين بدلاً من سينما يوم الاثنين في أيامه الخالية.

وفي سياق مشابه بدأت رواية “الحروف التائهة” من حقبة زمنية تزامنت مع وحدة سوريا ومصر، مروراً بالانفصال عام 1961، ثم النكسة، وفي مطلع أحداث الرواية كان بعض الشباب يرتادون النادي الثقافي والرياضي الذي انطوى على جماعة الإخوان، ويبرز المكان ذو الطابع الديني كذلك في دار الشيخ عصفور التي تحولت لحظة وفاته إلى ما يشبه حلقات الذكر. وفي ملمح من ختام الرواية كان المؤذن يسمّع أناشيد يمهّد بها للفجر والأذان، وهذا من التقاليد التي تمزج عدة اختيارات تراثية ودينية، وقد لا تُعرف أو يتم تطبيقها بالضرورة خارج حلب خصوصاً وسوريا عموماً.

وتتفرد رواية “ورد الليل” لـمحمد شويحنة بالجوّ الديني الروحاني الذي نفذ إليه البطل “مطيع العبّادي”، وقد احتوت شخصيته ملامح قوة تكمن في أنه سلك هذا الطريق بعد أن هام سابقاً في طريق آخر لم يتمكن من التلاؤم معه، فهو لم ينتسب إلى حزب أو جماعة سياسية معلنة، فكان له في الركون إلى التعبّد والخلوة وممارسة التصوف في بعض وقته خيار راقَ له، مع توافر هيكلية إدارية واضحة ومتراتبة في زاوية التصوف، فثمة شيخ للجامع، ومريدون، وشيوخ أعلى مكانة يملكون السلطة والأمر، وهو قادر على التدرج  في التزامه قراءة الأوراد والأذكار، ومن ثم خدمة الجامع و المكان الذي يُكلّف به. وسرعان ما ألٍِف الأذكار وجلسات الحضرة الصوفية ليالي الاثنين والخميس، وظهيرة الجمعة في الجامع، أو المقابر المكان الأفضل للاتعاظ من الأيام والزمن.

وتتميز الرواية بهيمنة موسيقا المكان على الشخصيات التي تصبح نمطية مع الزمن، مع أن من المفترض أنها في طور التغيّر، على العكس من الموسيقا التي تتحول من طور إلى آخر، حيناً شعراً وحيناً سجعاً مع التفاوت بين الشاعر والمنشد والمؤدي “يتحلقون حول الشيخ وهو يتقدم إلى وسط الحلقة، ثم يعطي إشارته فتعلو شيئاً فشيئاً كلمات الركزة الأولى: (لا إله إلا اللـه… لا إله إلا اللـه)، تتكرر في البداية بصوت خفيض وتوقيع واحد، بينما رنيم المنشد الشيخ حيدر يتسلل ندياً ثم يتدفق أكثر ويصدح على هدي البركات والنفحات، وتفيض اللحظات حينها بغناء تتجاذب أطرافه مغريات الدنيا ومغريات الآخرة”(10)، و”تهزني رعشة رقيقة وأنا أرى كيف يخصّني بالنظرات، ثم يتوجه إلى المنشد الشيخ سليم فيقول: هات أعطنا! فيرتفع صوت الشيخ سليم بهذين البيتين:

 إن كنت تبغي اللـه فالزمْ بابنا/ ولا تفارقْ أبداً أعتابنا

فنحن في الأرض براهينُ السما/ يدُ التجلي رفعت قبابنا”(11).

كما تزخر الرواية بتجاور المصطلح الصوفي مع كثير من الإيحاء بالجوّ المتصوف، فالبطل مطيع العبّادي يستقل بطريقته حين يستغل منفاه البعيد في مدرسته التي نُقل إليها، ويجمع حوله الأتباع، “على رأس العام من خدمة الزاوية أصبحت أرقّى في المراتب تباعاً، فقد أذن لي شيخي بالإرشاد على الطرائق المتعددة، وكتب لي إجازة خطية، وصفني فيا بالمريد المراد والأمي الأمين صاحب الكمال والوداد… وأمرني أن أخصص بعض وقتي لأحمل الهدي إلى صحبي ومن يلوذ بي، لأرشد المسترشدين وأربي السالكين، بغية عموم النفع العام والخاص، هذا إلى دوام صلتي الموصولة به وبالحضرة”(12). وتتحول الفلاة إلى معبد واسع كبير يهرب فيه من العالم الضيق في المدينة التي لفظته لكنها استعادته سجيناً بعد أن أخذت السلطات تلاحق ما تكشّف من صدام مسلّح تسبب به زملاء كان مطيع يتوجّس منهم.

جـ ـ في البيت: يعتبر البيت، بغرفه المنغلقة على نفسها، المنفتحة بعضها على بعض وحدةً في مواجهة الشارع والأماكن الخارجية، وتتنوع أشكال البيوت وفخامتها، غير أنها في الروايات الحلبية الثلاث تتشابه في احتوائها الرغبة الجمالية في الترويح عن النفس، وتقترن هذه الرغبة بالموسيقا. ففي مفتتح رواية “شمس الأصيل” يمضي الأستاذ شريف كامل الترابي إلى بيت وليدة في حي السريان، حيث تكون الموسيقا ثالثتهما في اللقاء، كما تُلازم “شهيرة” الغناء مع الراديو، وهي تعمل في دار الأستاذ شريف وتتأمل الزمن الذي تغيّر وتشوّهت معالمها في نهايته.

وكما حفلت رواية “ورد الليل” بالتجلي المكاني الديني الموسيقي، فإن رواية “شمس الأصيل” لـفيصل خرتش، تستأثر بتصوير متكامل لموسيقا البيوت في عالمها الداخلي الغامض حيناً، كما هي دار المعلّم جميل حيث العصافير ونافورة المياه إلى جانب أغنيات الراديو لعبد الوهاب وشمس الأصيل لأم كلثوم التي تؤديها صبرية، والعالَم الداخلي الآخر الذي يقوم مقام وسائل الإعلام، تقام فيه الحفلات، وينتشر صيتها إلى الحارات والدور المجاورة، كما كانت حفلات صبرية في بيت أهلها، وقد استمرّت بإحياء هذ الحفلات في بيتها بعد الزواج وأذِن لها زوجها بالاحتفاظ بهذه الهواية، بدءاً من اليوم الأول للزفاف، مروراً بسهرات يوم الخميس، ثمّ فسد صوت صبرية مع الزمن بسبب التدخين. تغيّر البيت بعد سنوات، فشهِد حادثة ضرب العود بالأرض “سألت صبرية، لم يمهلها لتستفسر أكثر، أخذ العود من يدها، وضربه على الأرض… تجمّع الأولاد حولهما، رأوا الغصة في جسد صبرية، فبكوا، ثار الضعيف، فراح يسبّ ويشتم الغناء والعود وأم كلثوم وشادية وعبد الحليم ومن دلّنا على هذا الطريق الذي كله فسق وكفر، ثم خرج، وركض الأولاد إلى أمهم”(13). ولاحقاً منع الزوج صبرية من الظهور أمام الضيوف والغناء، فانطوت صفحات من تاريخ الموسيقا في البيت بالتزامن مع أحزان النكسة وترك مباهج الحياة.

وقد شغلت غرف من البيوت مهمة مختلفة ذات طابع سياسي، حين كان مجموعة من الرفاق من أبناء صبرية ومحمد وأصحابهم من مثل سامر دعبول العازف على العود، بإحياء حفلات بأنغام وأغنيات مارسيل خليفة والشيخ إمام. وبالتوازي مع سهرة الخميس التي كان يقيمها محمد الحمامي الضعيف في “شمس الأصيل” مع العود الذي تعزف عليه صبرية وتغني معه، كانت حفلات الخميسية يوم الخميس تقيمها والدة فضيلة في بيتهم في لقاءات النساء في “الحروف التائهة”، ترقص فيها فضيلة على أنغام العود، وعلى أنغام بعض الأغنيات المتداولة. أما الراديو فقد ظهر في هذه الرواية موحياً بسنوات سابقة في عام 1961 حين كان يبثّ الأناشيد الوطنية القديمة في سعي حماسي منه للحث على إعادة الوحدة بين سوريا ومصر.

كان اقتناء الراديو حلماً لبعض أبطال الرواية من مثل بركات الذي كان والده السفراني يملك المال الوفير لكنه يبخل في إنفاقه، أما محمد الحمامي الضعيف فقد اشترى التلفزيون الذي كان من أعاجيب العصر. وفي البيت كانت الأعراس، منها عرس البرقاوي وشكرية، الذي تكفّل بالإعداد له صديقه محمد الحمامي الضعيف، فكان هنالك مغنٍّ يصدح والأصحاب والأصدقاء يرقصون، وسط فرقة من النايات، وزفة تهلل بالأهازيج الحلبية الشعبية المغرقة في القدم “طاروا به، وخلال أقل من لمحة البصر، كانوا أمام البيت يزفونه بـ اللـه يساور، دوس، دوس، صلوا على محمد، زين زين، مكحول العين”(14).

4 ـ موسيقا حلب وتأثيرها الروائي:

إن تأثير موسيقا حلب ما يزال مستمراً في حركة الأدب، نذكر مثلاً منه “عين الهر” للروائية السورية شهلا العجيلي، حيث تشهد بطلة الرواية “أيوبة” من أعلى السطح بالمصادفة حضرة وفعاليات صوفية وأذكاراً تأخذ بلبها وتدخلها إلى مضمار الدهشة والترقب في ليالي يوم الخميس، “كنت كلما صعدت درجة يعلو الصوت ويتّضح، حتى بدت حفلة على سطح بيتي. أدركت أن البيت المهجور كان مصدر الصوت، وأي صوت! غناء شجي جداً. جلست على كرسي منخفض أستمع، وأراقب السماء. لم أقترب من الجدار، ولم أحاول النظر، فقد عرفت من النشيد أنهم رجال في جلسة ذكر”(15). وفي “أبناء السماء” للروائي الأردني يحيى القيسي، يقصد زائر عربي مدينة حلب يستمتع بالتجوال في أسواقها الأثرية وشوارعها وينعم بالطمأنينة في أروقتها، ويختتم زيارته بحضور طقس صوفي في دار ريفية لمتصوف حلبي “بدأ شيخ الطريقة يقرأ بصوت شجي رافعاً صوته تدريجياً والمريدون يرددون خلفه، فيما كانت الكلمات والجمل ذات الإيقاع اللطيف تخترق سمعي، وتدور في أعماقي ساحبة إياي إلى أجواء أثيرية نورانية لم أعهدها من قبل… بعدها جاء طقس الأذكار مع قرع الدفوف، وقام عدد من المريدين بالتمايل بحركات منتظمة مع ترديدهم بعض العبارات”(16). بينما ترد في رواية “خاتَم” للروائية رجاء عالم من السعودية إشارة واحدة ولكنها كافية لتدل على الأهمية الكبيرة لموسيقا حلب ذات الصلة المباشرة بالغناء والسرور، فالطفل خاتم يهرب من القصر ويسير على غير هدى إلى أن يستوقف اهتمامه عازفة اسمها زرياب على آلة العود في دار الشيخة تحفة التي يتعلم العزف فيها على العود، “أنا زرياب الحلبية، أنت البنت التي جاء بها هلال في ثياب صبي وأنا البنت باسم صبي”(17).

لقد ترافق التقدم التكنولوجي بعد ظهور التلفزيون وإقبال السكان على مغادرة أسوار حلب القديمة والقصد إلى الأحياء الحديثة الجديدة، والتسارع التقني والتحول الاقتصادي مع انحسار الترابط بين الأمكنة الثلاثة السابقة، وزيادة المسافات فيما بينها، فغدا لكل موسيقاه الخاصة، وهي ما تزال قابلة للتنقيب في جوهرها والبحث والدرس المعاصر الذي يكسبها إعادة إنتاج متجددة وإمكانيات لانهائية.

* نشر المقال في مجلة الشهباء الثقافية، تصدر عن مديرية الثقافة في حلب، السنة الخامسة، العدد العشرون، 2017 ، ص44ـ48

الهوامش:
1 ـ مدخل إلى الموسيقى، أوتو كارويي، ترجمة: ثائر صالح، دار نون، رأس الخيمة، الإمارات، 2015، ص135
2 ـ العقل واللغة والمجتمع ـ الفلسفة في العالم الواقعي، جون سيرل، الدار العربية للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف، المركز الثقافي العربي، بيروت ـ الجزائرـ الدار البيضاء، ط1، 2006 ، ص127
3 ـ المصدر السابق، ص102
4 ـ المصدر السابق،  ص156
5 ـ الموسيقى والشعر، فوزي كريم، دار نون، رأس الخيمة، الإمارات، 2015، ص37
6 ـ الحروف التائهة، وليد إخلاصي، وزارة الثقافة، دمشق، 2007 (تاريخ كتابة الرواية عام 2006)، ص112، 113
7 ـ المصدر السابق، ص31
8 ـ المصدر السابق، ص116، 117
9 ـ شمس الأصيل، فيصل خرتش، وزارة الثقافة، الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، 2008 (تاريخ كتابة الرواية عام 2000)، ص120
10 ـ ورد الليل، محمد شويحنة، دار نون4، حلب، 2012 (تاريخ كتابة الرواية عام 2010)، ص97
11 ـ المصدر السابق،  ص103
12 ـ المصدر السابق، ص128
13 ـ شمس الأصيل، فيصل خرتش، ص153
14 ـ شمس الأصيل، فيصل خرتش، ص66
15 ـ عين الهر، شهلا العجيلي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 2006، ص80
16 ـ أبناء السماء، يحيى القيسي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2010، ص152، 153
17 ـ خاتم، رجاء عالم، المركز الثقافي العربي، بيروت ـ الدار البيضاء، 2007، ص110

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *