التغييرات المناخية وارتفاع درجات الحرارة والاختلالات البيئية تشتدّ على كوكب الأرض وتنبّه البشر إلى أنّ هذا الكوكب قد يتحوّل إلى عالم غير قابل للسكن. فتسارع الدول العظمى إلى عقد القمم وتوقيع البرامج، رغم استئناف مشاريع زراعة الدمار في المدائن المعطوبة، أي عالم يهيّئه لنا الساسة وما مصير هذه الأرض المثقوبة؟
لسنا مطالبين بالبكاء على ما يحدث، بل باختراع أقاليم وجوديّة جديدة إنْ أردنا للحياة على الأرض أن تبقى ممكنة. لكن أيّ شكل من «النحن» يمكنها اختراع أنماط من الحياة الممكنة حيثما يسطو منطق الموت والدمار؟ وكيف يمكن للعالم أن يكون صالحاً للسكن والسماء توشك على الانفجار فوق رؤوسنا؟ تلك بعض من الأسئلة التي يطرحها الفيلسوف الفرنسي فيليكس جاتاري (Felix Guattari) في كتابه «الإيكولوجيات الثلاثة» (1989).
رغم مرور قرابة ثلاثين سنة على صدور الكتاب، فإنّ صاحبه كان قد استشرف فيه المسائل الخطيرة التي تشغل الإنسانية الحالية حول مستقبل الأرض.. نحن نحتاج اليوم إلى ما يسمّيه جاتاري (الإيكوصوفيا ــ Ecosophie) بدلاً من (الفيلوسوفيا) أي الفلسفة. و الإيكوصوفيا مفهوم نحته المفكّر النرويجي آرني ناس Arne Næs، ويعني نوعاً من الإيكولوجيا العميقة التي تهدف إلى تغيير التصور الأنثروبولوجي التقليدي في أفق ضرب من الإتيقا البيئية.
ينطلق الكتاب من تشخيص للمأساة الايكولوجية التي تهدد بانقراض الحياة على الأرض. ومن جهة أخرى، فانّ أنماط الحياة البشرية هي نفسها قد تعرضت للضرر، وذلك لأنّ علاقات القرابة قد انحسرت، والحياة اليومية هيمنت عليها وسائل الإعلام، والحياة الزوجية والعائلية قد تحجّرت بضرب من تماثل السلوكات وارتداد علاقات الجوار إلى أفقر تعبيراتها. لقد وقع ابتذال وتتفيه كل أشكال العلاقات بين الذاتية والمحيط الخارجي.
وإزاء هذه الوضعية، تبدو المؤسسات السياسية غير قادرة تماماً على معالجة هذه المسألة في جملة نتائجها. وعلى الرغم من الوعي الايكولوجي الحادّ بضرورة حماية الأرض ممّ يهددها من تغييرات مناخية، فإن هذا الوعي البيئي الذي تعبر عنه النزعات الايكولوجية المعاصرة يبقى منقوصاً لأنه يقتصر على معالجة المسألة من جهة المضار الصناعية، ومن جهة تكنوقراطية فحسب. في حين ينبغي تغيير سلوكنا النظري تجاه هذه المسألة الخطيرة في اتجاه أفق اتيقي – سياسي. هذا الاعتبار الجديد يسمّيه جاتاري الإيكوصوفيا. وهي تعني عنده أنّه ثمة تقاطع وتداخل بين ثلاثة ضروب من الايكولوجيا: البيئية (الخاصة بالطبيعة) والاجتماعية (الخاصة بشكل الوجود الجماعي) والعقلية (الخاصة بالذاتية).
إنّ الأمر يتعلّق بطريقة عيشنا على الأرض صلب هذا الإيقاع الجنوني للتكنولوجيا وللنموّ السكاني الضخم. ماذا أنتج العمل الآلي الذي تدعمه الثورة الرقمية غير البطالة والتهميش والقلق والعصاب؟ وماذا حدث من جهة العالم الثالث؟ مستودعات كاملة من الذاتية الجماعية التي تنهار أو التي تستوطن من جديد ضمن أقاليم أصولية، مثلما هو الأمر بالنسبة لظواهر الجماعات الإسلامية.
إنّ هذه الأزمة الايكولوجية لا يمكن معالجتها إلاّ انطلاقاً من تفكير مغاير لسياسات الإنعاش الفظيعة التي تمارسها الرأسمالية العالمية المندمجة بحيث وقع تقسيم العالم إلى موازين رعب بين مستودعات هائلة من البؤس والمجاعة والموت، من جهة، وقوى صناعية عالمية جديدة، مدائن للاستغلال المسعور، مثل هون كونغ وتايوان وكوريا الجنوبية من جهة ثانية. بحيث نعثر حيثما ولينا وجوهنا على التوتّر الاجتماعي نفسه الناتج عن نسق الإنعاش الذي يمسك بالبشرية في أرجوحة جهنّمية بين وسائل تكنولوجية فائقة التطور وشواطئ مرضية مزمنة للبطالة والتهميش وجموع غفيرة من الشباب الخارج عن نسق الإنتاج ودائرة الحياة الاجتماعية.
ورغم ذلك يبدو أنّ هذه الحقبة «لتصفيح الذاتيات والخيرات والبيئات قد بلغت ذروتها وآن أوان أفولها». وهو ما تشهد عليه الحركات القومية الجديدة، والحركات النسوية والحركات المضادة للعنصرية والحركات الفنية المتحررة من نسق السوق وانتفاضات الشباب في العالم. تتنزّل الأزمة الايكولوجية ضمن هذه السياقات العالمية شديدة التعقيد والتشابك، ضمن هذه التحوّلات العميقة صلب وعي كوكبي حادّ بضرورة تغيير أساليب معالجتنا لما يحدث. وذلك على نحو مغاير لكلّ ايديولوجيا. الايكوصوفيا هي وجهة نظر مغايرة للإيديولوجيا سواء كانت رأسمالية أم شيوعية.
لا شيء يحمينا من «انفجار بربري» جديد. طالما وأنّنا لم ننتبه إلى ضرورة التفكير بهذه الأزمة بمنظار مغاير للإيكولوجيا البيئية ومضادّ لرأسمالية السوق، ربّما تسقط الإنسانية في إرهاب التطرف الديني والعرقية والنعرات القومية، حيث تستباح دماء الجميع. نعم ثمّة علاقة عميقة بين استباحة دماء البشر واستباحة مسكن الكينونة الوحيد الذي بحوزتهم. لذلك لا يمكن تحرير الأرض دون تحرير عقول سكّانها وذواتهم من خرائط الدمار ومدائن البؤس والاكتئاب.
الإيكوصوفيا العقليّة
تجد هدفها ضمن اشتغال على اختراع أشكال جديدة من الذاتية مغايرة لذاتية الفرد الرأسمالي الهشّة. إنّ الأمر لا يتعلّق باشتغال على سيكولوجية الفرد، كما هو معمول به في عيادات التحليل النفسي منذ فرويد، إنّما يتعلّق بالاشتغال على السيكولوجي في علاقته بما هو جماعي؛ أي بأشكال إنتاج ذاتيّات جماعية خلاّقة وقادرة على اختراع أقاليم وجودية جديدة. ومن أجل بناء أنماط حياة ايكولوجية جديدة، علينا أن ندرك كيف يقع اليوم إنتاج الذاتيات عن طريق صناعة الرأي الإعلامية، وقيم الموضة والسوق الرأسمالية، والحركات البيئية الليبيرالية التي تقوم على محبّة الطبيعة كما لو كان الأمر يتعلق فحسب بمشاعر الحبّ والكراهية.
ما تطلبه «الايكوصوفيا» هو تحرير الذات من المكنة الرأسمالية التي تقوم على إنتاج ذاتيات مشوّهة قصيمة وقابلة للضرر. ينبغي إعادة النظر في الحياة النفسية للأفراد في ثرائها واختلافها وكثافتها دونما إخضاعها إلى نموذج تأويل واحد أو إلى نسق وحيد من إنتاج الذاتية. وفي هذا السياق يمنح غاتاري للفنّ وللأدب تحديداً منزلة أساسية في هذه الايكولوجيا العقلية. لقد تمكّن الأدباء من ادراك الذاتيّة الإنسانية أكثر من العلماء والمحللين النفسيين على طريقة فرويد، وأكثر من ذلك فإنّ «أفضل تصميمات خرائط النفس، قد أنجزها غوته، وبروست، وجويس، وأرتو وبيكات». إنّ أهمّ ما يشغل غاتاري هو توجيه فهمنا للاوعي الفردي والجماعي لا انطلاقاً من الماضي وإنّما في علاقته بحقول افتراضية «مستقبلية».
وهنا تراهن الايكوصوفيا العقلية على نموذج مغاير للنموذج الأوديبي الفرويدي الذي صار مستنقعاً كبيراً للاستيلاء الرأسمالي على لاوعي الأفراد وأهوائهم وخيالاتهم وشهواتهم وتحويلها إلى مستودعات لتجارب سياسات الإنعاش الامبريالية. ما يهدف إليه جاتاري هو اختراع أشكال جديدة من الحياة النفسية التي لا تقوم على قيم الرفاهية والترف والسلبية الاستهلاكية الليبيرالية، بل بذاتية خلاّقة قادرة على الانخراط ضمن ضروب من الاتيقا الجماعية الكفيلة بجعل العالم مكاناً صالحاً للسكن.
الإيكوصوفيا الاجتماعيّة
تشتغل هذه الإيكولوجيا على ضرورة «إعادة بناء علاقات إنسانية في كل مستويات الحياة الاجتماعية». وهي مطالبة بألاّ تغفل عمّ تقوم به مكنة الرأسمالية العالمية التي تسطو على مواقع إنتاج كل البنى السيميوطيقية للذاتية عبر سوق المال والإعلام وعبر المؤسسات والقوانين والبرامج والدراسات والقرارات.. وذلك بتسرّبها صلب التنضيدات الذاتية الأكثر لاوعيا. ورغم ذلك، فإنّ مهمّة الايكولوجيا الاجتماعية لا تتمثل في معارضة هذه المكنة الرأسمالية من خارجها، على طريقة النقابات والاحتجاجات التقليدية. وبدلاً عن منطق التوافق، حريّ بنا أن نقوم بتهذيب ضرب من اللاتوافق من أجل إنتاج فريد للوجود نفسه. الإيكوصوفيا ليست عودة إلى الوجود بل هي إنجاز مستمرّ له.
وفي هذا المعنى من الممكن تنظيم ممارسات ميكروسياسية وميكرواجتماعية جديدة، أشكال جديدة من التضامن، قيم الرحمة إزاء الآخر، ممارسات جمالية جديدة. وفي كلمة واحدة تقوم الإيكوصوفيا الاجتماعية على ضرب من «الاستثمار العاطفي والبراغماتي على جماعات إنسانية متعدّدة». والمقصود من هذا الاستثمار العاطفي هو اختراع أشكال جديدة من الجماعات الإنسانية. بحيث يميّز غاتاري بين نوعين من العيش صلب الجماعة. إمّا علاقة ثلاثية من جنس العلاقة التقليدية بين الأب والأمّ والابن، وإمّا شكل جديد من المجموعة المستقلة بذاتها بحيث لا تستمدّ معاييرها من أيّة مرجعية خارجة عنها. وهذا النوع الثاني يسمّيه جاتاري «إيروس الجماعة». وهنا ينبغي الإشارة إلى أنّ الرهان العميق لغاتاري هو مناهضة كل الإيديولوجيات الجماعوية القائمة على تصورات أصولية ماضوية لشكل الحياة المشتركة، سواء تعلّق الأمر بالنعرات القومية أو الدينية أو المذهبية.. ويحذّرنا من الجماعات التي تؤسس وجودها على خطوط الموت، من قبيل كل الجماعات الفاشية والإرهابية.
الإيكوصوفيا البيئيّة
هنا ينبّهنا جاتاري إلى عدم الاقتصار على الحركات البيئية التي تتحوّل أحياناً إلى ضرب من الفلكلور القائم على محبّة الطبيعة وحماية حقوق الحيوان. صحيح أنّ لهذه الحركات البيئية أهميّة ما في التنبيه على خطورة الأزمة الإيكولوجية، لكن ينبغي الانتباه إلى أنّ هذه المسألة الإيكوصوفية هي مسألة عالمية، بحيث لا ينبغي تركها بين أيادي أقلية من أحبّاء الطبيعة. إنّ المسألة الإيكولوجية أخطر من ذلك بكثير لأنّها ترهن شكل الحياة الممكن في العالم وتضع موضع مساءلة كل الخرائط والأجندات والتكنولوجيات التي ترسم شكل الهاوية وتهدّد بمنحدر الصوّان مرّة أخرى.
الإيكوصوفيا هي إذن خلق للأقاليم الوجودية القابلة للسكن حيثما تصنع الرأسمالية عالماً من السلع لأفراد معزولين ولمستقبل لا أحد يضمن إمكانية حدوثه. والأقاليم الوجودية ههنا ليست بالعوالم الطوباوية بل هي فنّ التدبير الخاص بكل أشكال تطويع العالم إلى السكن. وهذه الأقاليم الإيكوصوفية ليست عودة إلى الأصول بل هي نضال وتحرر وخلق لأشكال كثيفة من الذاتيات الحرّة. وعليه علينا أن ننتبه إلى عدم التوافق والانسجام بين إنتاج الأقاليم الوجودية في منظور «إيكوصوفي» وطبيعة الذاتية المعطوبة التي تصنعها الرأسمالية العالمية. فهذه الأخيرة إنّما تشتغل وفق منطق واحد هو منطق السوق والربح الأوفر والخسارة الأقلّ. إنّ الرأسمالية العالمية تسطو على لاوعي الأفراد وذاتيّاتهم من أجل تيسير مراقبتهم وإخضاعهم لسلطتها ولخرائطها وأجهزتها. ومن أجل تحرير الذوات من هذا الدوار العالمي، يقترح جاتاري إذن سلوكاً جديداً لمعالجة الأزمة الإيكولوجية العالمية، يجد في مفهوم الإيكوصوفيا أو فلسفة البيئة رايته العليا. وهو مفهوم يراهن على براديغم عابر للاختصاصات اتيقي- استطيقي وسياسي معاً. هذا البراديغم الجديد متعدّد الاختصاصات والواعي بتعقّد السياق الحالي للمسألة، يقطع مع البراديغم التكنوقراطي التقليدي. أي ينبغي أن نكفّ عن إقامة الحدود والجدران بين مجالات الحياة المشتركة. لأنّ تلك الجدران قد انتهت بإنتاج نمط بائس من الكينونة في العالم: نمط الفرد النرجسي المعزول الذي تصنعه علب الاستهلاك والشاشات الرقمية والإدمان على حضارة السلع الكئيبة. ورغم ذلك لا يتعلّق الأمر بالقطع مع هذا الفرد المعزول بل بخلق علاقات جديدة بينه والمجتمع وباستعادة كل المشاعر الخلاّقة من التضامن مع الآخرين إلى قبول التعدّد والاختلاف إلى فرحة الحياة. الإيكوصوفيا هي «ضرب من الموسيقى الذاتية الجديدة التي ينبغي علينا اختراعها». واختراع أقاليم وجودية يعني الترحّل في العالم بوصفه مسار نضال وتحرّر وخلق. ليس ثمّة من حلّ نهائي للأزمة الإيكولوجية غير أنّ الإيكوصوفيا تحثّنا على رسم لوحة أجمل وتعيد إلى الإنسانية ثقتها بنفسها وتشطب رماديّة المشهد.
لا بد من ثورة
يقول جاتاري: «ليس ثمّة إجابة حقيقية عن الأزمة الايكولوجية إلاّ على مستوى كوكبي وبشرط إنجاز ثورة سياسية أصيلة اجتماعية وثقافية تعيد توجيه أهداف إنتاج الخيرات المادية واللامادية على نحو مغاير. إنّ هذه الثورة لا ينبغي أن تتعلّق بعلاقات القوى المرئية على نطاق واسع فحسب، بل ينبغي أن تتعلق أيضا بالمجالات الذريّة للإحساس والذكاء والرغبة».
أصل المفهوم
«الإيكوصوفيا» مفهوم نحته المفكّرالنرويجي آرني ناس (Arne Næs)، ويعني نوعا من الإيكولوجيا العميقة التي تهدف إلى تغيير التصور الأنثروبولوجي التقليدي في أفق ضرب من الاتيقا البيئية.
عطب كلّي
ينطلق الكتاب من تشخيص للمأساة الأيكولوجية التي تهدد بانقراض الحياة على الأرض. ومن جهة أخرى، فانّ أنماط الحياة البشرية هي نفسها قد تعرضت للضرر، وذلك لأنّ علاقات القرابة قد انحسرت، والحياة اليومية هيمنت عليها وسائل الإعلام، والحياة الزوجية والعائلية قد تحجّرت بضرب من تماثل السلوكات وارتداد علاقات الجوار إلى أفقر تعبيراتها. لقد وقع ابتذال وتتفيه كل أشكال العلاقات بين الذاتية والمحيط الخارجي.
وإزاء هذه الوضعية، تبدو المؤسسات السياسية غير قادرة تماماً على معالجة هذه المسألة في جملة نتائجها. وبالرغم من الوعي الأيكولوجي الحادّ بضرورة حماية الأرض ممّ يهددها من تغييرات مناخية، فان هذا الوعي البيئي الذي تعبر عنه النزعات الأيكولوجية المعاصرة يبقى منقوصاً لأنه يقتصر على معالجة المسألة من جهة المضار الصناعية ومن جهة تكنوقراطية فحسب.
_________
*الاتحاد الثقافي