البشريّة في التّيه

*بيار جورجيو غاروفالو/ ترجمة – عزالدين عناية

يتساءل الناس في أنحاء متفرقة من عالمنا: أين نحن؟ والسؤال بالمعنى التاريخي، وليس بالمعنى الجغرافي. ما الذي نحن بصدد عيشه؟ وإلى أين يجرّوننا؟ وما الذي فقدناه، أو ما الذي غنمناه؟ وكيف السبيل إلى الذهاب قُدماً دون رؤية ثابتة نحو المستقبل؟ لماذا لا نَقدر على رؤية ما يتخطى وجودنا الشخصي؟ ويجيب الخبراء من أصحاب الأجور السخية: العولمة، ما بعد الحداثة، ثورة الاتصالات، التحررية. لكنّها مجرّد مفاهيم للحشو والتهرّب والتملّص لا غير، عن ذلك السؤال الثقيل، أين نحن؟، والواقع أنه «ولا في أي ناحية نحن!». يمكن البدء من هذه العبارة لجون برجر أو من غيرها، مما يعتبر من خيرة ما صيغ حول «نهاية التاريخ»، لكن النتيجة لن تتغير: ثمة إحساس بالتيه ملازم، ومدعاة للتّضارب أيضاً، مع إحساس بمرارة الخيبة. بعد أن تحوّل المرء، أو لنقل بتوصيف دقيق، بعد تحوّل الجميع إلى حمَلة للَقب موحّد، ألا وهو «مستهلِك»، شعاره الأخلاقي «مما هو غير مشروع، ومما لا يليق الشعور بالإشباع»، فـ«المستهلك الصالح» والوظيفي هو ذلك الذي يعيش استبطاناً للحظات النّهم، كسلسلة متلاحقة للشّره المتجدد. وقد حصل ذلك في ظل غياب الحسّ الخلقي لديه، والسلب للقدرة النقدية منه، فمن الصعب الإصغاء إلى الضمير بعد أن جرى التلاعب بذلك الضمير وتحويره، وبشكل عام، لا ندري أين نحن، ولا نعرف ذلك على وجه الدقة؟.

منذ فترة وإلى غاية الأمس القريب، كان الاحتفاء بتسارع عجلة الزمن، وكان يروق لنا هذا التحول من العالم البرّي التقليدي إلى الفضاء الكبير الجديد، بلا ضفاف، مع الإحساس بالمكوث في قلب التاريخ، وفي عمق الحراك الأبدي، بين شتّى الدوامات والابتكارات، وما كان مهمّاً في أي ناحية نقف، أو ما إذا كنّا في صفّ المحافظين أو التقدّميين: فللجميع تموضع، والكل يفكر في امتلاك الكل، بوصف الجميع ماكثين في الشعاب بين الماضي والمستقبل، مع إمكانية اختيار الحلول، وفكّ عقد التحولات الجارية.

أسئلة شرسة

«مجتمع في تحوّل مطّرد»، هكذا مدوَّنٌ في الكتب، ومعيش في الواقع، منذ بضعة عقود. حصل ذلك حين أطلّ عصر السلام والرخاء، عهد الانفتاح على العالم وغزو الفضاء، ووفرة البضائع وتعدد الفرص، جراء التقدم العلمي والتطور التقني… ذلك ما كان يؤثّث مشهدنا التاريخي أو كما بدا لنا. فالمستجدات تمطرنا من كل صوب، في أجواء الصحو وفي لحظات الحرج. والتقدم يبدو خصيباً، وهو ما يجعلنا نعتقد أننا «ولا في أي ناحية نحن»، «ولا مع أي طرف نحن»، فلا تزال أفضل العوالم وأفضل الأشكال متاحة. ومرة أخرى لا يهم مع أي طرف نقف، بل المهمّ إتقان التأقلم مع كل ما هو وافد، حتى وإن كنا لا نعرف أين ومتى ولماذا؟.

لقد دبّت تحولات هائلة، تغيّرَ بموجبها النظام البيئي السياسي، وتعولمت الرأسمالية، وطفت بلدان هامشية على السطح، ودارت عجلة الثورة الصناعية الثالثة المتعلقة بالشبكة العنكبوتية والطاقة المتجددة، والزراعة البيولوجية، وتقنية النانو (تقنية الصغائر). فضلاً عن ذلك تشظّى العمال والموظَّفون إلى أصناف وشلل، بمصالح متباينة، وتوقفت «الطبقة الكادحة» عن تمثيل الجميع وقيادتهم، وغيّرت الهجرة الأبعاد وطبيعة الأشياء، وتخطّت ديموقراطيةُ الآراء الإعلامية والمعلوماتية الديمقراطيةَ التمثيليةَ والبرلمانية.

في خضم هذا التحول الهادر، ما هي قيّمنا، وما هي تعاليمنا، وأي شكل لمواقفنا في العالم، وفي الراهن الحالي؟ كمْ دبّ فيها من اهتزاز وبالتالي كيف نحن؟، هذا هو موضوع «التحولات الأنثروبولوجية» الذي عادة ما يدرَجُ كـ«احتياط» بياني، يُستدعى عند الضرورة، وعند مجابهة عنف السؤال «الذي يتخطى قدراتنا»، حيث نلجأ إلى عبارة الأنثروبولوجي، ضمن المثلث الاجتماعي السياسي الاقتصادي، وأيضاً ضمن البعد البيئي الشامل.

لقد بات توصيف «أنثروبولوجي» يليق بتلخيص مغزى التحليل، فيُحشر فقط لاختتام جوهر الحديث، وباتت الإضافة «أنثروبولوجي» ضرورية لأي تعليق يأمل تخطّي «ما هو محدّد»، كلّما نفدت المعطيات الكمية والوقائع الموضوعية، وبالتالي غالباً ما نقصد بـ«الأنثروبولوجي» شيئاً حميماً وكونياً في الآن، مرادفاً علمياً لما هو إنساني، وهو ما يهمّ دائماً لإثارة عمقٍ لا يجوز التغاضي عنه، حتى وإن بقي لاحقاً خارج السبر.

لكن «الأنثروبولوجي» ليس النعت الذي يعبّر عن الغوص في غور الأشياء، في العمق فحسب، بل هو الاشتقاق المعني بعقلية الحاضر واليومي، كيف يسير معتاد حياتنا؟ لا أدري كيف أعبّر عن ذلك، فعالم الأنثروبولوجيا اليوم يجد نفسه أمام واقع ثقافي مركّب ومعولَم، تتداخل فيه، وإن تباينت، ثقافات خاصة عائدة إلى فضاءات محددة، ليس بما يدعم الانعزال الثقافي، بل بما يحقق لتلك الثقافات قدرة على المطالبة بحق المشاركة في الديناميكيات العالمية، ضمن تحاور فعلي، وضمن ممارسة للسلطة والقرار. إذ تعلو في عالمنا المعاصر، جراء تنوع الثقافات، أصوات تطالب بالاعتراف المتبادل، ضمن فضاء نظام العالم المعاصر.

وضمن نظام العالم هذا، يملي الواقع على عالِم الأنثروبولوجيا تحديد موضوع دراسته، بإعارة الوقائع التاريخية والاجتماعية اهتماماً، وهو ما يشكّل بدوره طرفاً فيها. فنجد عالِميْ أنثروبولوجيا، برغم انتمائهما إلى وقائع متباينة، اشتغلا في هذا الاتجاه، وهما الأميركي جيمس كليفورد، والفرنسي مارك أوجيه، ونتابع من خلال رؤية هذين الباحثين الغوص في قضايا عالمنا المعاصر، حيث نسلّط الاهتمام على الدور المميز للأنثروبولوجي في ميدان ثقافة الانتماء، حول مفهوم الثقافة الذي يعود إليه بالنظر، وحول موضوع البحث ذاته.

مقاربة مختلفة

تركّز أنثروبولوجيا العالم المعاصر على مسألة التحولات الاجتماعية، العائدة بالأساس إلى سياقات التواصل المتعددة، سواء جراء الصراعات أو التكتلات (حركات الشتات والمنافي والهجرة)، المؤثرة على هذه السياقات الثقافية المركّبة كافة، التي يحضر فيها الحوار والتدافع، بحسب منطق السلطة أو التشارك، وهو ما تمحورَ حوله عمل كليفورد، ضمن السياقات التاريخية الثقافية للمحيط الهادئ، في ما يسميه «السياقات المصبوغة بالطابع البرّي»، وهو ما يمثّل مساهمة قيّمة في رسم «رؤية تاريخية مكثفة، وغير اختزالية، للسياسة الثقافية الكونية»، وتفيد المقاربة «الكونية» للثقافة في تأويل ديناميكيات العولمة على مستوى شامل، ضمن رؤية موسعة: فمصادر التنوعات الثقافية والسياسية ونتائجها، غالباً ما يجري التعاطي معها بشكل مختزل، لأن التخلص من الإرث الاستعماري في المحيط الهادي انطلق حين كانت السيادة مفهوماً غامضاً وإشكالياً، لذلك نشهد ظهور أشكال متضاربة من الهويات الوطنية، وأصنافاً جديدة من التحاور بين المحلي والجهوي، بين الوطني والكوني، وعلى ضوء هذا المعطى، يبدو من الصواب معالجة مسائل المحلية والسيادة، على قدم المساواة نفسها مع الإشكاليات التي تعيشها الدول الغربية، دون اللجوء إلى المفاهيم المضلّلة، على غرار الهامش والمركز، والمتخلف والمتقدم.

يسمح هذا النوع من المقاربة بخلق جسور حوار في الخطاب الأنثروبولوجي المتمحور حول نحن وهمْ، والقريب والبعيد، والذاتية والغيرية. وبالفعل، إذا ما كانت أنثروبولوجيا الداخل تولي عناية للتحولات الاجتماعية، فهي تبحث بالمثل عن إعادة تشكيل مفهوم الغيرية ضمن علاقة المكان والزمان، المرتبطة بالعالم الراهن، ومن خلال التحرر من الثنائيات الكلاسيكية. وتتمثل الخطوة الأولى في هذا السياق بتخليص موضوع الدراسة من مفهوم «البدائي الغريب»، وإعادة النظر في وصمة «البدائي». فمفهوم الآخر لا يتلاءم بالضرورة مع مفاهيم «البرّي» و«الغريب» و«الشرقي» و«البدائي». وكما بيّن كليفورد في أبحاثه، فإن الأمر يتعلق بمفاهيم مرتبطة تاريخياً باستعمالات لغرض المقارنة بين الثقافات، وعلى صلة بمناطق محددة، لا غير.

تولي تأملات جيمس كليفورد عناية للباراديجمات الجديدة، المرتبطة بالسياقات المتباينة، حيث يسلّط الاهتمام على المتاحف القبَلية، والفضاءات الثقافية المتباعدة، وهو ما يدفعه للاستثمار الأنثروبولوجي، وبطريقة مباشرة في حقول متنوعة. ليغدو الخطاب حوارياً بين الثقافات والفضاءات والهويات. فالمواضع والمتاحف رهن الدرس والبحث من قِبل عالم الأنثروبولوجيا، متباعدة ومتباينة، تتوزع بين غينيا الجديدة، وكندا وباريس ولندن ونيويورك. هكذا نلاقي صنفين، فنجد التعاطي البضائعي الرأسمالي مع التراث القبلي، بتحويله إلى معروض فرجوي ثقافي، ومن جانب آخر نجد إعادة مفْهمة المصطلحات المحلية والأصالة. وعبر ذلك يساهم كليفورد بقوة في المجال، من خلال الربط والفصل بين تلك العناصر، بتحويل المخزون الاجتماعي الثقافي إلى متاع شامل، بوصفه سلسلة من أشكال الاتصال والانفصال التاريخي.

دراسة الآخر

وهذا التقليد الذي أرساه كليفورد يأتي ضمن توجه عام للأنثروبولوجيا المعاصرة، تغدو فيه دراسة الآخر لغرض فهم الذات، حيث بات حقل البحث القصيّ في أدغال أفريقيا وأحراش آسيا والجزر النائية في المحيطات خلف البيت وتحت «السوبرماركت»، يبدأ من محطة المترو، كما يقول مارك أوجيه.

فالآخر هو فرضاً كيان متعدد موجود في البعيد، بالمعنى المجازي، وفي الآن بالداخل لدينا أيضاً، ولا يتضارب المظهران، بل يتكامل كلاهما: فإذا ما حلّ الأنثروبولوجي بفضاء قصيّ فهو يتعاطى مع ذلك الواقع الثقافي بوصفه الآخر المغاير، وإذا ما كان عالم الأنثروبولوجيا من ذلك الحيز، فإن ذلك الآخر هو بالمثل حاضر، وهو موضوع عالمي للدراسة، بما يدفع لخلق تحاور بين هذه التنوعات.

وثمة معطى حاضر أيضاً يتمثّل في انتماء عالِم الأنثروبولوجيا إلى الثقافة التي يقوم بدراستها، وهو ما يخلّف لديه أثراً مميزاً: حيث يتوجّب عليه إعادة مفهمة شروط التمثيل المتعلقة بالمغايرة، في جدل الداخلي بالخارجي للنظام الثقافي الحديث. فهل من السهل تلخيص التجربة الإثنوغرافية، ضمن سياقات المعاصرة المتداخلة مع الزمن والفضاء؟ وبهذا المعنى نجد تجربتيْ جيمس كليفورد (أنثروبولوجي الخارج) ومارك أوجيه (أنثروبولوجي الداخل)، مختلفتين ومتكاملتين: يتركز تناول أوجيه في التأمل أنثروبولوجيا في المعيش، في حين نجد كليفورد، جراء تكوينه التاريخي النقدي، يعتبر بحثه متلخصاً في البحث عن عناصر اللقاء بالآخر، وسحبُ البحث الأنثروبولوجي نحو الداخل مع أوجيه، إلى حدّ تحويل مترو باريس إلى حقل أنثروبولوجي، كما في كتابه «عالم أنثروبولوجيا في المترو». ولا يعني التّعرف على ما هو معروف من خلال تجربة إثنوغرافية ذاتية وخاصة، بل إن اكتشاف «دغل» لا يقلّ غرائبية عن حقل الإنسان البرّي القصيّ. فكلا الرجلين يبحث عن ملاقاة ما هو ذاتي بما هو جماعي، وما هو داخلي بما هو خارجي. فالأنثروبولوجيا المعاصرة تسعى جاهدة إلى إرساء تموضع ديناميكي في الحقل، من خلال احتضان التماس بين الواقع المحلي والبعد الكوني للسياقات العلائقية في تركيبات الكيان الثقافي والاجتماعي.

نسف الأحكام المسبقة

تجربة المترو اليوم تعد واحدة من التجارب اليومية التي توفر لنا التعرف على مستوى نسف الأحكام المسبقة عن الثقافات الأخرى وللحدود التي وضعتها الأنثروبولوجيا الكلاسيكية بين المدنية والتوحش، لأن تجربة المترو تساعدنا على أن نمارس طقوس العبور، سواء على مستوى الأمكنة والذاكرة، أو على صعيد الانتقال في التحليل من مستوى «المترو الرمز» إلى مستوى «المترو الرمزي»، مقتفين بذلك خطوات عالم الأنثروبولوجيا كلود ليفي شتراوس حول «الأنظمة الرمزية». فحتى نمر من نشاط إلى آخر، لا بد أن يتوفر لنا الزمن والمكان، غير أن تغيير النشاط هذا في أوقات محددة ليس مجرد تغييرات تقنية فحسب، بل هو تغيير على مستوى الأدوار وعلى مستوى الحياة اليومية أيضا، كما في حالة المرور من حياة نصفها بالمهنية إلى حياة ننعتها بالخاصة، ذلك أن «هناك طبيعة تخييلية ترتبط في الوقت نفسه بالفرجة التي يوفرها المترو، بصفة خاصة في الأروقة التي يغير فيها المسافرون اتجاههم وخطوط تنقلهم، مثلما نغير النظام والممارسات الرمزية بتغيير نمط العيش في أوقات منتظمة».

أنثروبولوجي في الميترو

اعتراف متبادل

«الأنثروبولوجي» ليس النعت الذي يعبّر عن الغوص في غور الأشياء، في العمق فحسب، بل هو الاشتقاق المعني بعقلية الحاضر واليومي، كيف يسير معتادا حياتنا؟ لا أدري كيف أعبّر عن ذلك، فعالم الأنثروبولوجيا اليوم يجد نفسه أمام واقع ثقافي مركّب ومعولَم، تتداخل فيه، وإن تباينت، ثقافات خاصة عائدة إلى فضاءات محددة، ليس بما يدعم الانعزال الثقافي، بل بما يحقق لتلك الثقافات قدرة على المطالبة بحق المشاركة في الديناميكيات العالمية، ضمن تحاور فعلي، وضمن ممارسة للسلطة والقرار. إذ تعلو في عالمنا المعاصر، جراء تنوع الثقافات، أصوات تطالب بالاعتراف المتبادل، ضمن فضاء نظام العالم المعاصر.

_____

*الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *