من الأسئلة الفلسفيّة الشّائعة منذ زمن بعيد السّؤال الشّائع: لماذا يوجد الشّرّ؟ لماذا الزّلازل؟ لماذا الأمراض؟ لماذا الجرائم؟ لماذا الآلام؟ إلخ…
وقد تمّ تناول هذا الموضوع من منظورات مختلفة في الفلسفة القديمة والجديدة. فحاول المعتزلة – مثلاً – في الفلسفة الإسلاميّة تفسير سبب خلق الله تعالى للحيوانات الضّارّة، وأقرّوا أنّ لكلّ ما خلقه الله حكمة وإن لم تنفذ إليها عقولنا البشريّة المحدودة. وتساءل نيتشه – حديثا – في كتابه: «ما وراء الخير والشّر»- عن مفهومي الخير والشّرّ وكيفيّة تشكّلهما في الوجود.
والحقّ أنّ هذه التّساؤلات ليست فحسب خاصّة بالفلاسفة والمفسّرين، ولكنّها تساؤلات قد يطرحها الإنسان البسيط في حياته اليوميّة كلّما وجد نفسه إزاء ظرف مؤلم أو إزاء مشكل مفاجئ أو إزاء مصيبة موجعة. عندها يرتفع عبر الشّفتين السّؤال الحارق: «لماذا يا إلهي؟»، «لماذا هذا العذاب؟»، وهو التّعبير الانفعاليّ الشّعوريّ عن الحيرة الفلسفيّة الفكريّة.
سنحاول في هذا المقال الإجابة عن هذا السّؤال ببيان نسبيّة مفهومي الخير والشّرّ أوّلا، ثمّ ببيان دور الشّر ثانيا، وهو دور أنطولوجيّ ودور وظيفيّ.
نسبيّة الخير والشّر
عبارتا الخير والشّرّ يمكن أن تتعاوضا بعبارتي الإيجابيّ والسّلبيّ. ولمّا كان الإيجابيّ والسّلبيّ حكمين، فإنّهما بالضّرورة وشأن كلّ الأحكام نسبيّان، ذلك أنّ الحكم يختلف وفق القائم بالحكم. فكلّ ما هو إيجابيّ من منظور شخص مّا (أو جماعة مّا) هو بالضّرورة سلبيّ من منظور شخص آخر أو جماعة آخرين. وبعبارة أخرى، فإنّ الحكم بالخير والشّرّ على المواضيع جميعها نسبيّ يختلف وفق وجهة نظر الحاكم أو القائم بالحكم من حيث ما يحمله من انتماء ثقافيّ واجتماعيّ ودينيّ إلخ…
فقد تجد مسلما يعتبر أنّ شرب الخمر رجس من عمل الشّيطان، وبالتّالي فهو شرّ، وقد تجد مسيحيّا يعتبر أنّ الخمر صورة لدم المسيح، وبالتّالي فهو خير. وقد تجد «مسلما معتدلا» يعتبر أنّ اغتصاب النّساء في الحروب شرّ وقد تجد «مسلما داعشيّا» يعتبر أنّ اغتصاب النّساء في الحروب هو السّبي الّذي تبيحه بعض آيات القرآن حتّى بالنّسبة إلى النّساء المتزوّجات وفق بعض المفسّرين القدامى، ومن ثمّ فإنّ هذا المسلم يعتبر أنّ ما يسمّيه البعض اغتصابا هو خير1. وقد تجد مثلا أبا غربيّا يعتبر أنّ تحميله ابنه المسؤوليّة منذ بلوغه سنّ الرّشد هو خير، وقد تجد أبا شرقيّا يعتبر أنّ تحميله ابنه المسؤوليّة منذ بلوغه سنّ الرّشد هو تخلّ عنه وإهمال له، وهو من ثمّ شرّ. ولا شكّ أنّ كلّ الحروب والصّراعات في التّاريخ منطلقها هذا الحكم النّسبيّ على الخير والشّرّ. فالفتوحات الإسلاميّة بتونس مثلا نشرٌ للإسلام وخيرٌ وفق عقبة بن نافع وجماعته، ولكنّ هذه الفتوحات الإسلاميّة نفسها شرّ من منظور «الكاهنة» الأمازيغيّة وكلّ من كان في صفّها. والمحرقة اليهوديّة شرّ من منظور ضحاياها ولكنّها خير من منظور النّازيّين الّذين كانوا يمارسونها. وقتْل عثمان بن عفّان وعليّ بن أبي طالب، رضي الله عنهما، هو خير من منظور القائمين بالقتل ولكنّه شرّ من منظور مساندي عثمان بن عفّان أو عليّ بن أبي طالب، وهو شرّ من منظور المؤمنين بأنّ من قتل نفسا فكأنّما قتل النّاس جميعا إلخ…
وإذا ما غضضنا الطّرف جدلا عن المعتقدات والثّقافات الجماعيّة، فإنّنا سنجد أنّ الحكم بالخير والشّرّ على ما هو كائن هو أيضا حكم نسبيٌّ أيضا وفق الأفراد في ذاتهم. بل لعلّنا نجرؤ على الإقرار بأنّه من هذا المنظور النّسبيّ فإنّ كلّ «خير» لشخص هو بشكل من الأشكال «شرّ» لآخر وأنّ كلّ «شرّ» لشخص هو «خير» لآخر. والأمثلة متعدّدة ليس غرضنا تعداد كثير منها وإنّما فحسب الإشارة إلى البعض منها. نفترض – مثلا – أنّ هناك اختبارا يجب اجتيازه للحصول على شغل مّا، وأنّ الاختبار فُتح لمئة شخص وأنّ عدد النّاجحين المطلوب هو واحد فقط. استنادا إلى هذا الافتراض فإنّ نجاح الفرد الواحد هو شرّ بالنّسبة إلى الآخرين وهو خير بالنّسبة إليه. وضمن مجال آخر، فإنّ مرض بعض النّاس هو شرّ بالنّسبة إليهم لكنّه خير بالنّسبة إلى الأطبّاء الّذين لا يمكن أن يستقيم معاشهم إلاّ بمرض الآخرين. وقد تجد صاحب مصنع أو رأسمال يعتبر أنّ تغيّب عامل يوما عن المصنع هو شرّ وقد تجد العامل المتغيّب يعتبر أنّ غيابه عن المصنع الّذي «يستغلّه» فيه صاحب المصنع خيرا، والأمثلة متعدّدة. بل إن يكون الخير لشخص هو الشّرّ بالنّسبة إلى الآخر إنّما يتجاوز البشر، ويشمل كلّ الكائنات. فالفيروس الّذي ينشئ المرض خيره في بقائه في جسم المريض، وفي مقابل ذلك فإنّ في خير المريض بالشّفاء قضاء على الفيروس، ومن ثمّ شرّا لهذا الفيروس.
واستنادا إلى كلّ ما سبق، فإنّه يمكن أن نقرّ أنّ المثل العربيّ القديم: «مصائب قوم عند قوم فوائد» ليس إلاّ تأكيدا لنسبيّة الخير والشّرّ إن من المنظور الجماعيّ أو من المنظور الفرديّ.
ولعلّ الحكاية التّالية تمثّل نسبيّة الخير والشّرّ أفضل تمثيل:
يحكى أنّ ابن فلاّح شيخ نسي إن يغلق باب مربض حصان أبيه، وكان ذلك الحصان ملك الشّيخ الوحيد. فجاء الجيران للشّيخ، وقالوا له: «أيّ شرّ كبير حلّ بك بفرار الحصان، لقد فقدت كلّ ما تملك». فأجابهم الشّيخ: «ربّما كان شرّا»، ومن الغد، عاد الحصان على رأس مجموعة كبيرة من الأحصنة البرّيّة، وأصبح للشّيخ سبعة عشر حصانا وغدا أكثر أهل القرية ثراء. فقيل له: «أيّ خير عميم أصابك بفرار الحصان»، فأجاب: «ربّما كان خيرا». ومن الغد ركب ابن الشّيخ واحدا من الأحصنة فكسر رجله، فقال له جيرانه: «أيّ شرّ أصابك بكسر رجل ابنك»، فأجابهم الشّيخ: «ربّما كان شرّا». ومن الغد، جاء مبعوث من ملك تلك البلاد ليرسل كلّ الشبّان إلى حرب ضروس لن يعود منها حيّا إلاّ القليل. ونجا ابن الشّيخ من المشاركة في الحرب. فقيل للشّيخ: «أيّ خير أصابك بكسر رجل ابنك»، فأجاب: «ربّما كان خيرا»…ويمكن أن تستمرّ هذه الحكاية إلى ما لا نهاية له لتؤكّد نسبيّة مفهومي الخير والشّرّ.
الضّرورة الأنطولوجيّة
حاولنا أن نبيّن بدءا نسبيّة الخير والشّرّ واختلافهما من منظور من يحكم على الظّاهرة. لكن حتّى إن افترضنا اتّفاق جماعة مّا على أنّ موضوعا مّا هو خير، وموضوعا آخر هو شرّ، فاللّطيف أنّ وجود هذا الاتّفاق لن ينفي الشّر، ذلك أنّ كلّ ضدّ لازم لوجود ضدّه، فلولا وجود اللّون الأسود لما تبيّنّا اللّون الأبيض، ولولا وجود المرض لما شعرنا بنعمة الصّحّة، ولولا وجود مفهوم الشّرّ لما أمكن الحديث عن مفهوم الخير.
إنّ وجود الشّرّ هو وجود أنطولوجيّ، ولعلّ هذه الفكرة النّظريّة تتّضح من خلال أمثلة توضيحيّة. فلو سلّمنا مثلا بأنّ العذاب «شرّ» وبأنّ الرّاحة (أو غياب العذاب) هي خير، ولو تصوّرنا عالما ليس فيه إلى العذاب نفاذ، فالسّؤال المطروح: كيف سيكون في مقدور الإنسان أن يتمتّع بالرّاحة وهو الّذي لا يعرف سواها؟ إنّ التّمتّع بالرّاحة وتذوّق حلاوتها مستحيلان إذا لم يكن الإنسان يعرف معنى العذاب. وبعبارة أخرى، فإنّ تذوّق الرّاحة مشروط جوهريّا بمعرفة مقابلها أي غياب الرّاحة.
ويمكن أن نضرب مثالا ثانيا: إذا افترضنا عالما هو ظاهريّا «خير مطلق» تتحقّق فيه كلّ رغبات الإنسان ما أن يفكّر فيها، فإنّ ذلك العالم نفسه سيقتل في المرء مفهوم الشّوق أو الرّغبة. وهذا ما توضّحه الحكاية التّالية الّتي تنقلها كتب الحكمة القديمة إذ يحكى أنّ رجلا توفّي فوجد نفسه في دار رائعة الجمال هندسة ومعمارا وأثاثا. وجاءه كائن قدّم له نفسه على أنّه ملاك وطلب منه أن يتمنّى ما يشاء. فطلب الرّجل زوجة حسناء خلقا وخُلقا، وكان له ما أراد. ثمّ طلب الرّجل طعاما شهيّا فجيء له بطعام يفوق ما صوّره له خياله لذّة. ثمّ طلب الرّجل جواهر نفيسة وألبسة فاخرة. فتحقّق طلبه في لحظة. وتواصلت رغباته يُستجاب لها ما أن يعبّر عنها بل قبل أن يعبّر عنها، وما أن تخطر بباله أحيانا. وبعد مدّة، شعر ذلك الرّجل بالسّأم والملل. فنادى الملاك الّذي يحقّق له رغباته، وقال له: لقد مللت. ما كنت أتصوّر أنّ الجنّة مملّة إلى هذا الحدّ. فنظر إليه الملاك نظرة عميقة وقال له: الجنّة؟ من قال لك إنّك في الجنّة. هذا هو الجحيم يا سيّدي، وأنت فيه.
إنّ الجحيم وفق هذه الحكاية هو أن لا يكون للشّيء نقيض ممكن، ومن هنا يفقد كلّ شيء قيمته ويغدو خلوا من أيّ دلالة إيجابيّة بسبب غياب الدّلالة السّلبيّة. وهذا يثبت أنّ المقولة الشّائعة: «بضدّها تتميّز الأشياء»، ليست مجرّد تراث فكريّ متناقل عن الأجداد، وإنّما هي تحمل حكمة عميقة لا ينفذ إليها المتسرّع والعَجِل. ذلك أنّ كلّ موضوع في الكون لا يمكن أن يوجد إلاّ بوجود ضدّه. وربّما يمكن أن نفهم في هذا المقام قول الله تعالى: «سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ» (يس 36) (2).
صحيح أنّ جلّ المفسّرين ذهبوا إلى تفسير الأزواج بالذّكورة والأنوثة الموجودة في كلّ الكائنات، وأشار بعضهم إلى الزّوجيّة في اللّيل والنّهار، لكنّ هذا لا يمنع من توسيع معنى الزّوجيّة ليشمل كلّ ما هو موجود في الحياة الدّنيا. فكلّ شيء لا يمكن أن يثبت وجوده إلاّ بوجود ضدّه. والنّفس البشريّة ذاتها قائمة على هذه الضدّية بين الخير والشّرّ إذ يقول الله تعالى: «ونفس وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها» (الشّمس،7- 8). فالنّفس في أصلها ذات قائمة على هذه الثّنائيّة بين التّقوى والفجور أو بين الإيجابيّ والسّلبيّ أو بين الخير والشّرّ.
الضّرورة الوظيفيّة
عرضنا فيما سبق للضّرورة الأنطولوجيّة لوجود ما يسمّى «شرّا»، على أنّه يمكن أن نتناول وجود الشّرّ من منظور وظيفيّ. فإذا كان المنظر الأنطولوجيّ يحيل على ضرورة وجود الشّر لتجسيم وجود الخير، فإنّ المنظور الوظيفيّ يبيّن أنّ الشّرّ له وظيفة أساسيّة لا في إدراك ماهية الخير فحسب، وإنّما يبيّن هذا المنظور الوظيفيّ أنّ للـ»شّرّ» دورا كبيرا في إنتاج الخير. ويمكن الاكتفاء بثلاثة وجوه تبيّن قيمة «الشّرّ» الوظيفيّة.
الخطأ طريق إلى الصّواب
المتأمّل في تاريخ العلوم يجد أنّ تطوّر العلم قائم على سلسلة من الأخطاء. وهذا ما تثبته الأبحاث والدّراسات الإبستمولوجيّة. فمن جهة القراءة الآنيّة، يقوم البحث العلميّ في مراحله الكلاسيكيّة على الملاحظة فالافتراض فالتّجربة فالنّتيجة. والتّجربة قد تنفي الفرضيّة مرّات كثيرة، وكلّما نُفيت الفرضيّة بالتّجربة، كان ذلك إقرارا بخطإ، ولكنّه الخطأ الّذي يتقدّم بالتّجربة الموالية على أساس أنّ تضييق احتمال الفشل يرفع احتمال النّجاح.
ومن جهة القراءة الزّمانيّة، فإنّ تاريخ العلم لا يعدو أن يكون تاريخ الأخطاء. فالفيزياء الكوانطيّة مثلا تجاوز لفيزياء النّسبيّة وفيزياء النّسبيّة تجاوز للفيزياء النّيوتنيّة إلخ. وكم شخص عبر التّاريخ توفّي نتيجة الأوبئة والأمراض المستعصية حتّى تمكّن الأطبّاء من إيجاد أدوية وأمصال واقية ساهمت في وضع صحّي أفضل للبشر.
ومن هنا نتبيّن أنّ الخطأ الّذي يُصنّف مبدئيّا ضمن السّلبيّ (أو ضمن الشّرّ فلسفيّا) لازم لتقدّم العلم. ولذلك نجد غاستون باشلار يقول: «الحقيقة هي كذبة تمّ إصلاحها»، ونجد طاغور يقول: «الأخطاء في تاريخ العلوم هي الّتي بها يتقدّم العلم، ومع ذلك، فإنّه لا وجود لمن يرى أن هدف العلم هو نشر الأخطاء».
وما ينطبق على العلم فيزياء والطب وسواهما يمكن أن ينطبق أيضا على حياة الأفراد. فنحن نتعلّم الحياة من الصّغر انطلاقا من تتالي الأخطاء. ويمكن أن نعوّض عبارة «تتالي الأخطاء» بعبارة «التّجارب». وهنا نفهم أنّ ما يخصّ التّجربة بمفهومها العلميّ الإبستمولوجيّ يخصّ أيضا التّجربة بمرجعها الفرديّ في المعيش اليوميّ. فكم طفل اكتشف خطورة ما يحيط به عن طريق التّجربة. وأليست مختلف «السّلبيّات» الّتي تمرّ بنا في حياتنا هي الّتي تجعل اكتساب الحكمة متّصلا بالتّقدّم في السّنّ أي نظريّا على الأقلّ بعدد التّجارب الّتي مررنا بها في حياتنا. ولعلّ هذه القراءة نفسها قابلة لأن تشمل تجربة إبراهيم عليه السّلام في بحثه عن الله تعالى. فقد تصوّر بدءا أنّ الكوكب هو ربّه، ثمّ تصوّر أنّ القمر هو ربّه، ثمّ تصوّر أنّ الشّمس هي ربّه. وهذه التّجارب هي الّتي فتحت الباب لإبراهيم عليه السّلام حتّى يتبيّن أنّ الكوكب والشّمس والقمر كلّها آفلة، وحتّى يحوّل وجهه لعبادة من فطر السّماوات والأرض حنيفا (3).
الألم طريق إلى النّجاح
كثيرة هي الكتابات الّتي تعرض لدور الآلام والجراح في نجاح العظماء وفي بروز العباقرة. والميثولوجيا تعجّ بالصّعوبات الّتي مرّ بها أبطال الأساطير حتّى يبلغوا ما بلغوه من شأو ومكانة مرموقة. فما قيمة «أوليس» لولا كلّ المخاطر والعوائق الّتي مرّ بها في رحلته وانتصر فيها؟ وما رمز «برومثيوس» سارق النّار إن لم تكن مختلف الآلام الّتي عاناها من أجل أن يتحصّل البشر على المعرفة؟
وليس الأنبياء بصفتهم المصطفون بمعزل عن الآلام والصّعوبات ممّا يمكن أن يُتصوّر للوهلة الأولى أنّه شرّ، ولكنّها في واقع الأمر آلام كانت طريقا إلى النّجاح. فيوسف عليه السّلام مثلا عانى ظلم إخوته وافتراء امرأة العزيز وتجربة السّجن. ولكن لولا تجربة السّجن تلك وما حفّ بها من تأويل للرّؤى لما تحقّقت رؤيا يوسف بفوزه بحكم مصر: «وإذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشّمس والقمر رأيتهم لي ساجدين» (يوسف 12، 4) (4). ويمكن أن نذكر عذابات الرّسول محمّد عليه الصّلاة والسّلام في مكّة في أوّل الدّعوة، ولكن لولا هذه العذابات لما فكّر الرّسول في الهجرة إلى المدينة ولما عاد بعد ذلك ظافرا ليفتح مكّة ولينتشر الدّين الجديد في كلّ أصقاع العالم.
الأثر أو الدّور الزّمانيّ للشّرّ
تعوّدنا أن نتعامل مع الخير والشّرّ- على فرض اتّفاقنا جدلا على تحديدهما- تعاملا آنيّا لأنّ نظرتنا البشريّة للواقع محدودة خلافا للنّظرة المطلقة للحياة الّتي لا نستطيع إليها سبيلا. على أنّ الشّرّ الآنيّ للأنا قد يتحوّل خيرا زمانيّا للآخر دون أن يعلم لا الأنا ولا الآخر. فالبشر متّصلون ببعضهم بعضا ولا يمكن أن يعوا حدود هذا الاتّصال وتشابكه ولطفه وعمقه. ويمكن على سبيل المثال أن نتصوّر شخصا يفقد رضيعه الوحيد وسنّه ستّة أشهر، ويعتبر هذا الفقدان شرّا كاملا. على أنّ هذا الفقدان يمكن أن يغيّر سلوك الرّجل مع العمّال في المصنع الّذي يمتلكه، فبعد أن كان فجّا عنيفا ظالما يصبح رقيقا ليّنا ناشدا العدل. ويمكن أن يؤثّر سلوك مالك المصنع الجديد في أحد العمّال الّذي كان، بسبب إرهاق العمل وسوء الظّروف فيه، يعنّف زوجته، فأصبح ودودا تجاهها. ويمكن أن يتغيّر لذلك موقف هذه الزّوجة من ابنها الوحيد الّذي كانت تهمله ولا تساعده في دراسته، فيتحوّل تجاهلها اهتماما. وقد ينتج عن ذلك الاهتمام الجديد مجهود مضاعف يبذله الطّفل في دراسته، فيصبح طبيبا جرّاحا يقوم بعمليّة جراحيّة على قلب شخص اسمه «ع»، فينقذه من موت محقّق. إنّ نجاة «ع» بما هو اعتبر «خيرا» متّصلة اتّصالا وثيقا بموت الرّضيع بما هو اعتبر «شرّا».
وقس على ذلك كلّ ما يمرّ بنا في الحياة من أحداث وتصاريف لا ندري مدى تأثيرها في الآخر، ولا نعي حدود فعلها في الحياة. وهذا ما جعل كثيرا من الفلاسفة، ومنهم درّيدا، يعتبرون أنّ الأثر هو محرّك الكون الأساسيّ. وهذا الأثر ممّا يتجاوز حدود الإدراك البشريّ وممّا يفشل التّمثيل الرّمزيّ في الإحاطة به.
استمرار الحياة
إن وجود الشّر والخير معا هو سبيل استمرار الحياة. لو سلّمنا بما يقرّ به المخيال العامّ من أنّ الحياة خير والموت شرّ. ولو تصوّرنا عالما لا يموت فيه أحد، لا البشر ولا الحيوان ولا النّبات، فكيف سيكون شكل هذا العالم؟ ألن تغصّ الأرض، وربّما الكواكب الأخرى، بالكائنات؟ ألن يتهجّم النّاس بعضهم على بعض حتّى يجدوا إلى البقاء سبيلا؟ أليس الموت الّذي يعدّه البعض شرّا هو السّبيل الوحيد إلى استمرار الحياة؟
لقد حاول هذا المقال أن يفسّر أسباب وجود الشّرّ ممّا تساءل عنه كثيرون. وحاول أن يبيّن أنّ الشرّ والخير نسبيّان وأنّ وجودهما معا ضروريّ أنطولوجيّا ووظيفيّا. إنّ الخير والشّرّ هما أيضا من الأزواج الّتي خلقها الله تعالى، ولا يمكن أن تستمرّ الحياة إلاّ بوجودهما معا في الآن نفسه. فمن خلال الجدليّة بينهما تكون الحياة، ومن خلال تفاعلهما يتحقّق الوجود ومن خلال تشابكهما تنبجس الكينونة. وليس من الصّدفة أن يكون كلّ شيء في الكون منشطرا قائما على زوجيّة ممكنة (أبيض/ أسود، طويل/ قصير، ليل/ نهار، خير/ شرّ…)، ولا يخرج عن هذا الخضوع للزّوجيّ إلاّ الموضع الّذي منه تنبثق هذه الأزواج كلّها أي موضع الأصل الواحد. إنّ هذا الموضع هو الوحيد الّذي لا يمكن أن يكون زوجا لأنّه نبع الأزواج المتنوّعة المختلفة. وهذا الموضع هو ما نسمّيه الله الواحد الأحد.
سُنّة الله في خَلقِه
الخير والشّرّ هما أيضاً من الأزواج الّتي خلقها الله تعالى، ولا يمكن أن تستمرّ الحياة إلاّ بوجودهما معا في الآن نفسه. فمن خلال الجدليّة بينهما تكون الحياة، ومن خلال تفاعلهما يتحقّق الوجود، ومن خلال تشابكهما تنبجس الكينونة.
____
*الاتحاد الثقافي.