آن دوفورمانتل: شهيدة فلسفة المخاطرة

*روجيه عوطة

على شاطئ راماتويل، شاهدت آن دوفورمانتل، نهار الجمعة الماضي، طفلين يغرقان، فقررت إنقاذهما. غطست في الماء، سبحت، سحبتهما، لكنها، فجأةً، لاقت حتفها على إثر أزمة قلبية. ماتت الفيلسوفة اللطيفة واللامعة، وحزن القارئ عليها تضاعفه ملاحظة بعينها، إذ يبدو هلاكها، للحظة، ثمن ممارستها لما واظبت على البحث فيه، وكتابته، والدعوة إليه أيضاً.

فها هي صاحبة “في مديح المخاطرة” تخاطر بنفسها، تتفانى، ترمي بجسدها، تتخطاه، قبل أن تدركها المنية. وهكذا، تموت الفيلسوفة لكي تحيي طفلين، وهذا آخر عمل من أعمالها، حيث تتوازى النظرية مع تطبيقها إلى درجة توقف الشرايين عن ضخ الدماء وتسييلها.

إلا أن دوفورمانتل، ولكي تذهب إلى إنقاذ الطفلين، لم تتكئ على المخاطرة فقط، بل أن رفاقها، الذين غيروا وطأة فقدانها عليهم الى تعليقات عنها، إتفقوا على أنها ذهبت إلى “مهمتها الفلسفية” على متن رقتها، التي ألفت كتاباً فيها بعنوان “قدرة الرقة”، معتقدةً بـ”ثورتها” التي تحول الكسر في إثر الرطمات إلى حالة خلق: “ثمة ميثاق بين الرقة والحقيقة، إنها إيطيقيا رهيبة، خيانتها ليست متاحة، بل من الممكن تزييفها، ولكن، حتى الموت لا يقدر على التصدي لها…. إنها سياسة”.

وبالإضافة إلى المخاطرة والرقة، هناك شهوات ونوازع الحب، والتضحية، والإنوجاد، التي كتبت دوفومانتل عنها، ممحصةً إياها، ومستندةً بذلك إلى مسموعها في عيادتها، حيث عملت كمحللة نفسية طوال عقود. على أن داعي مذهبها الأخير لا تختزله مشاغلها هذه فحسب، بل تتصل بدفاعها عن الأطفال، ونقدها للأمومة الوحشية: “كل أم هي وحش، إذ تقسم، وبطريقة لاواعية، على الإحتفاظ بإبنها فيها، على تجميد العلاقة التي تجمعها به. وهذا القسم يتأبد، سرياً، من الأمهات إلى البنات والأبناء. على الطفل أن يحطمه لكي يصير حاله، لكي يصل إلى حقيقته ورغبته”.

لم تعمل دوفورمانتل على فلسفتها وحدها، بل إنها، ومباشرةً بعد تخرجها من جامعة السوربون في العام 1994، وتقديمها لأطروحتها “جنوح الفلسفة النبوي”، شرعت في لقاء غيرها من الفلاسفة. فحاورت جاك دريدا في “في حسن الوفادة”، مثلما حاورت أنتونيو نيغري، وآفيتال رونيل في “فلسفة أميركية”، قبل أن تكتب معها “نظرية التعارك”، أما مع صديقها المقاتل الغيفاري السابق، الفيلسوف ميكائيل بيناصياغ، فألفت كتاباً، هو عبارة عن جدلية في مسارهما.

هذا، ولم تتفلسف دوفورمانتل فحسب، لكنها، كتبت السرد أيضاً، بحيث نشرت “خلف النار” في العام 2015، وهي رواية تدور أحداثها بين باريس ونيويورك، وبطلها “ألكسي”، الذي يعشق امرأة مجهولة، فيمضي إلى التفتيش عنها، لا سيما ليفك لغز تلك الكلمة التي تركتهاله:”Vouchenko”.

لدوفورمانتل صنعة أخرى، غير الفلسفة والتحليل العيادي، أي النشر. إذ عملت في دار “Calmann-Levy” مسؤولةً عن مطبوعات الأدب والفلسفة، قبل أن تعمل في دار “Stock”، مؤسسةً لسلسلة مميزة بإسم “الفكر الآخر”. ومؤخراً، كتبت دوفورمانتل لصحيفة”ليبراسيون”، حيث نشرت “قصصها الفلسفية”.

رحلت الفيلسوفة. ومع أن موتها يرتبط بكل فلسفتها، غير أن الأفضل أن يبقى دافع عملها الأخير سراً. ذلك، أن دوفورمانتل عنونت آخر كتاب لها بـ”الدفاع عن السر”، حيث وجدت المفارقة في “اننا نعيش في عالم الشفافية الذي يطرد السر”، وبالتالي، “أن نبني حديقتنا السرية، فهذا ما يعد النقيض الإيجابي لعصرنا”. وعلى هذا النحو، ولما ذهبت دوفورمانتل لتنقذ الطفلين، دخلت حديقتها السرية أيضاً، وأكدت على ما قاله آرتو ذات مرة: “جميعنا أشجار قبل أن نكون شيئاً آخراً”.

(*) ولدت دوفورمانتل في باريس العام 1964، درست الفلسفة في السوربون، ونالت الدكتوراه العام 1994. درّست في جامعات عديدة، بين فرنسا والولايات المتحدة الأميركية.
من كتبها: “في حسن الوفادة-حوار مع جاك دريدا” (1997)، “كتاب يونس” بالتعاون مع ماركأوكنا (2001)، “الجنس والفلسفة” (2003)، “فطنة الحلم” (2012)، “أن تنوجد” مع لور بيتر (2014).
___
*المدن

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *