من المواضعات الأكثر جدلاً وحضوراً منذ اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير في مصر مواضعة الديموقراطية ، واضطرمت الصحف والبرامج الحوارية بالحديث عن خصائصها وسماتها وجذورها الضاربة في القدم ، ودار الجدال حولها بين مؤيد ومعرض ، مؤيد يرى في الديموقراطية جنة البسطاء على الأرض ، ومعارض لأنها فكرة مستوردة تنتمي للتيارات العلمانية التي انتشرت في أوروبا وقت الثورتين الفنسية والأمريكية منذ قرون مضت .
وبغض النظر عن هذا الجدال الأيديولوجي الذي لا يزال دائراً تعد الديموقراطية مرحلة مهمة في حياة المجتمعات المدنية المتقدمة ، وكم من مجتمع يطمح ويثابر لتحقيق هذا الحلم الذي يرى أنصارها ـ الديموقراطية ـ بدونها يصير المواطن أسيراً ذليلاً داخل وطنه بل يبدو غريباً لا وجه له . وقد يظن البعض أن تلك الديموقراطية تحمل سمتاً واحداً وهو حرية الفرد في الحقوق والتعبير ، وتمتعه بالمساواة وعدم الاستبعاد الاجتماعي والتمييز والعنصرية .
وراح المؤيدون لنظرية الديموقراطية التأكيد على أن الفقر يساعد الناس على تحطيم أغلال الظلم التي تقيدهم ، لأن الفقراء من وجهة نظرهم لا يخشون على ضياع أي شئ يملكونه، وهم يشيرون دائماً إلى أن الديموقراطية فكرة سحرية تحرر البسطاء من نير الفاقة ، والتحرر الشامل من الطغيان .
إلا أن الديموقراطية نفسها تعاني من التباين وعدم وضوح الصورة ، فهي تتضمن صورتين متباينتين مختلفتين حسب النظريات السياسية ، وليست صورة واحدة وهي الراسخة في مظان المواطن ، فالديموقراطية فلسفتان سياسيتان متمايزتان، وكلتاهما لهما مخاطر واضحة قد تنزلق إلى المسخ المشوه ما لم يؤخذ في الاعتبار تقنين تطبيقها وواقعية هذا التطبيق ، وما يتوافق مع نظم مجتمعاتنا الإسلامية والعربية.
ومخطئ من يظن أن الديموقراطية في جملتها هي عنوان الدولة المدنية بدليل الصورة الأولى لها المسماة بالديموقراطية الاجتماعية الكلاسيكية . وهذه الصورة من صور الديموقراطية تعرف بالأوساط السياسية بمفهوم اليسار القديم . وفيها يتم تدخل الدولة في حياة الفرد الاجتماعية والاقتصادية تدخلاً مباشراً ، وهي تنظر إلى رأسمالية السوق الحر باعتبارها سبباً للعديد من المشكلات ، ولكنها تعتقد أن هذه المشكلات يمكن معالجتها أو تجاوزها من خلال تدخل مباشر من الدولة في نظام السوق .
وهذه الديموقراطية الكلاسيكية أو ما تعرف باليسار القديم تؤكد على هيمنة الدولة على المجتمع المدني ؛ وهذا التدخل يتمثل في مظاهر عدة منها فرض الضرائب التصاعدية ، وتطبيق استراتيجيات تحقيق التكافؤ ، وخلق مجتمع أكثر مساواة نظراً لأن الحكومة هي المهيمن على المشهد الاجتماعي والاقتصادي .وهذه الصورة كثيراً ما استخدمها واستعملها الرئيس المخلوع مبارك طيلة ثلاثين عاماً ،زذلك من خلال زعمه لإقامة ديموقراطية مدنية شعارها التكافؤ في هيئة فرض حزمة من الضرائب ولكنه في حقيقة الأمر يمارس سلطة استبدادية مقنعة .
وتحاول الديموقراطية الكلاسيكية إلى توفير دولة رفاهية شاملة تحمي المواطنين من المهد إلى اللحد وهي في ذلك تخالف الظروف الطارئة التي بإمكانها تقويض الوطن نفسه بتعرض الدولة لأزمة اقتصادية طاحنة قد تعصف بمقدراتها الطبيعية والبشرية، ورغم ذلك فإن أنصار ذلك الاتجاه يرون ضرورة أن تأخذ الدولة من الأغنياء لتعطي الفقراء وهي في ذلك أيضاً تسير بصورة وئيدة نحو المساواة والعدالة الاجتماعية ، وفي سعيها هذا تحاول هذه الديموقراطية القضاء على فكرة التمييز بين الفقراء والأغنياء عن طريق المساواة السياسية والاجتماعية وتقليص السلطة الحاكمة المركزية والمطلقة. ولكن ما شهدته مصر خلال السنوات العشر الأخيرة هو صعود طبقة من المحتكرين من أهل الصناعة والتجارة الذين استغلوا علاقتهم أو باصطلاح رجال الساسة تزاوج السلطة ورأس المال في احتكار صناعات بعينها والتربح من خلال الاستغلال البشري للعمال .
ويرى عالم الاجتماع ت . مارشال أحد منظري دولة الرفاهية في بريطانيا أن مفهوم دولة الرفاهية تمثل قمة عملية تطورية طويلة لحقوق المواطنة ، ولكن هذه الدولة لا تعطي اهتماماً كبيراً لقضايا البيئة أو لم تتعامل مع القضايا الأيكولوجية بطريقة متسقة. لذا فنجد أن معظم الدول التي تنادي بالديموقراطية من دول العالم العربي تعاني من ظواهر التلوث بأنماطه وأشكاله رغم الحملات التوعوية الإعلامية للحد من ظاهرة التلوث ، وكذلك عدم الاستفادة من مخلفات البيئة الزراعية في تطوير صناعات أخرى .
أما النظرية الثانية للديموقراطية ، أو الصورة الأخرى لها فهي تتمثل في دورها المحدود للحكومة ، وأنها تشترط وجود مجتمع مدني مستقل ذاتياً ، مع وجود نزعة قوية نحو السوق الاقتصادي الحر ، وهذه الديموقراطية تؤمن بالاقتصاد الفردي بل ةتشجعه وتشير إلى أن الاقتصاد لا ينتعش إلا عن طريق المبادرات الاقتصادية الفردية . ورغم ما تتمتع به الديموقراطية الجديدة أو ما اتفق على تسميته بديموقراطية اليمين إلا أنها لا تعترف بالمساواة وهذا أمر بدهي ؛ لأنها تشجع الاقتصاد الحر والفردي ، وهذا بالضرورة يخلق مجتمعاً طبقياً.
ولعل أبرز ما في الديموقراطية الجديدة هو الكونية أو ما يعرف بالعولمة ، فالصورة الأولى للديموقراطية كانت مركزية إلى حد بعيد ، بخلاف الصورة الثانية التي ترغب فيها الدولة إلى إقامة علاقات ممتدة مع دول أخرى ، وإقامة علاقات دولية بصورة واقعية ، وهي في ذلك تسعى لأن تبعد شعوبها عن ويلات الحروب وطمع الأعداء في ثروات ومقدرات الدولة نفسها .
وبعقد مقارنة سريعة بين نوعي الديموقراطية نكتشف أن الصورة الثانية لها هي الأقرب للتطبيق والأكثر جدوى للشعوب ، بالرغم ما تعانية ديموقراطية اليمين من مشكلات ومصاعب مثل إعلاء قدر الاقتصاد الفردي الذي يمثل خطورة على المجتمع من خلال عدم المساواة الاقتصادية ، وتفاوت المستويات الاقتصادية بين أفراد الأمة الواحدة .
ولكن في ظل ما تشهده البلاد أحيانا من حريات غير مضبوطة أو مشروطة ، هل تبقى الديموقراطية طوق نجاة للثائرين والغاضبين والمطالبين بإعلاء قيم المساواة وعدم التمييز ؟ .إن الديموقراطية وإن كانت من الأمور الضرورية لحياة كريمة إلا أنها تشترط وجود ضوابط شرعية وحدود حاسمة وفواصل حازمة لتطبيقها من أجل سلامة مجتمعاتنا الإسلامية والحفاظ على قيمنا وتقاليدنا التي تأبى الخروج على قواعد الدين الحنيف .
____________
*مدرس المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية والتربية الإسلامية
كلية التربية ـ جامعة المنيا