ترميم خدوش

خاص- ثقافات

*فضيلة معيرش

صمته القابع بين خدوش الفجيعة ما زال طرياً ، بقلبه الصغير أدرك أن وجعه امتطى صهوة مهر جامح لم يروض بعد ، لكن حين تعثر ذات مساء صيف حار بخير لم يستوعبه في
أول الأمر ، ما كان عليه حينها إلا تأثيث أولويات أوجاعه تباعا ، تذكر أنّه امتنع عن الذهاب معهم لعرس ابن خالته الوحيد ، فمباراته الرياضية أهم هذا ما قاله لوالده …..
حين أًبْلِغَ بالحادثة التي ذهب ضحيتها والداه وأخواه محمد وأحمد ..لمْ تنجُ منه إلا أخته هبة الرحمان ذات السنوات الثلاث ، شارف وقتها على الضياع و الجنون .
في الأيام الأولى للحادثة لفته خيوط الصمت الشائكة ،والذي حيره أكثر أنه بلغ عيد ميلاده السادس عشر دونهم . فعرف أنه بلغ سن الوحدة وأنهم اتفقوا على المغادرة دونه كما تعودوا .
و دون رجعة هذه المرة ، تعودوا مفاجأته في أعياد ميلاده السابقة .فهو أكبر إخوته وأكثرهم دلالا ، لا أحد تمكن من تفكيك شفرة دمعه المتحجر إلا أخته هبة
وهو يتأملها بين أحضان خالته ..طفح دمعه فأطلق سراحه دون مقدمات .تنهدت خالته لطيفة وقالت : ما أصعب القلب الصغير حين يثخن باكرا بالمرارة و المكابرة .
وقفته بين حافتي الفجيعة و الفقد لم تمنعه من مواصلة دراسته وتفوقه ، تماهت به اللّحظات وقد إختار الإقامة بمفرده في فيلا والده ، لا مفر له من التجوال في فضاء الذكريات الفسيح ، هذا ما قاله لعمه ناصر
الذي كان لزاما عليه العودة للمهجر …ربّت على كتفه بمودة قائلا : الأوجاع تبدأ سامقة يا ابن أخي ، تجعلنا نتصفح الوجوه على عجل ، و الصمت في حضرتها واجب ، ردّ أنيس بكلام مقتضب كعادته وكأن الكلمات تنزلق
من بين شفتيه كانزلاق رجلي متزحلق لا يريد أن يترك أثرا على جليد الزّمن ….: هذا ما كانت تردده جدتي رحمها الله ، طلب من عمه قبل مغادرته مساعدته في جلب عمال للعمل كأجراء في محلات والده بما فيهم من عتاد ، في التنظيف
وإصلاح السيارات .بارك له عمه ذلك ، مستحضرا فيه صورة والده المحبّ للعمل ، نظر عمّه في عينيه وهو يودعه قائلا بشرود مباغت : السيطرة على الوجع شبهة مشْرعة يجب أن ترتكز عنها أنيس أثق بك .
مرّت أعوام وهو يتحسس وحشة الحياة بمفرده أكثر من وحشة الميت في قبره ..ذات لحظة وهو يغافل الألم و يتبادل النكت مع رفاقه رنّ هاتفه ليخبروه أنه الأول على
دفعته ، تنهد والفرح يوشي عيونه مرددا : كنت أعرف أن النجاح وحده يتربص بي صرخ يومها دون شعور منه وسط الحي الذي يقيم فيه كمن يخاطب نفسه : لا أحد يفرح
معي …الكلّ ذهبوا . سمعه الكلّ وبكت معه كلّ العيون التي لا مسها شغاف وحدته بحرقة ، تحسس تراب أمّه ووشوش لها : حققت لك أمنيتك …وسأسجل في كلية الهندسة .
تنهد فوق قبر والده وقلده في ابتسامته ، تحسس قبر أخويه متمتما : آه يا قرتي العين اشتقــتكما ، .مسح بقايا أوجاعه بكم قميصه وانصرف يكمل بقية أفراحهم ..
____
*الجزائر

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *