شِـبـاكٌ من حـريـر

خاص- ثقافات

*أحمد غانم عبد الجليل

 تتكسر خطاي كل مرة، تحاول إعادتي إلى دارنا القريبة لدى اقترابي من شارعهم، تستقبلني رائحة النارنج الفواحة، تتلاشى بعد خطوات في عبق شجرة المنوليا العالية التي تلوح من خلف سياج بيتهم، الثالث على اليمين. كم من مرة قررت تقديم اعتذاري عن إكمال المراجعة مع مها، ولتبحث عن أستاذٍ متمرس، رغم معرفتي مدى صعوبة ذلك في مثل هذه الفترة الحرجة، وعدم استطاعتي التخلص من إلحاح والدتها بسهولة، وإلا لكنت نجحت في ذلك عندما جاءت ووسطت والدتي ـ ابنة خالتها ـ لإقناعي بما لم أفكر به يوما بعد تخرجي من كلية الآداب.

 أدرِس؟ أنا!!. حاولت بدوري إقناعها بأني آخر من يصلح لمثل هذه المهمة، وإن كنت أعاني من البطالة مجددا، كما ألمحَتْ، وليس لدي ما أفعله في أيامي المتمطية في سأمها، دحجتها بنظرةٍ غضبى عندما تطرقت إلى موضوع النقود، بالطبع ما كنت لأقبل بأي مبلغ، ولو كان رمزياً، لقاء مثل هذه التجربة الغريبة بالنسبة لي، وبالأخص منهم.

 جلسنا كعادتنا إلى مائدة الطعام، تواجهنا كتب وملازم اللغة العربية، بالإضافة إلى دفاتر الواجباب، تتضمن شروحاً عملت كثيراً على اختصارها، تنزاح نظراتي نحو غرفة الضيوف؛ هناك راودني حلم الجلوس كثيراً، برفقة والدي وبعض أقاربنا، لخطبة سحر، رغم سخريتي الطويلة من ثقل تلك المواقف الشكلية وسخافتها. كركرت بصوت عالٍ طروب من هواجسي، وعرضت أن نتزوج على طريقة بعض الأفلام، نذهب في عجالة إلى القاضي الشرعي لنضع الجميع أمام الآمر الواقع، ثم وضعت كفها على خدها، تتصنع التفكير، تتساءل بسخرية تستفز قلة حيلتي واضطرابي: أين يمكننا اللقاء قبل إعلان اقتراننا البهيج.

 يجب مواجهة الماضي بكل تفاصيله لتتأكد من زوال تأثيره عليك. أي خدعة أخدع بها نفسي كلما اقترب موعد درس من الدروس؟.

 لأعترف إن لهفتي تغتال ترددي في الذهاب إلى بيتهم، لأعترف إنها عادت تتلبس تفكيري بعد عودتها من قطَر، تنهر كل من يسألها عن سبب طلاقها.

 توقعته منذ البداية، وراهنتها عليه، بعينين لم تتمكنا مداراة مرارة فقدانها، رغم أننا اتفقنا على الافتراق دون ألم، أو عتاب، أو اتهام بالخيانة، شأن كل عاشقين، أوَ كنا عاشقين عاديين.

 التقينا بعد فترة من قطيعة اعتدناها من حينٍ لآخر لتخبرني أنها ستتزوج وتسافر مع زوجها. ربما استطاعت العمل هناك أيضاً، رغم صعوبة ذلك بالنسبة إليها، دون تمكنها من إتقان أي لغة أجنبية، بالإضافة إلى جهلها شبه التام باستخدام الكومبيوتر. مللها هناك يجوب تفكيري على الدوام، تجوالها في أنحاء الشقة بضجرٍ متفاقم، لا تدري وسيلة لتزجية الوقت في بلادٍ لا تعرف فيها أحداً، ولا تجد حتى من تعاركه أو تصرخ في وجهه سواه، تنتظر عودته المنهكة في آخر النهار، تخترع ألف حجة لمشاجرته، كما كانت تفعل في أوقات زهقنا من كل شيء، ثم تغدق عليه من عنفوان إغرائها ما يذيبه في سحر سطوتها الجنونية، خدر عناقنا الطويل ذلك اليوم في ظلمة المتنزه لا يرضى مبارحة رأسي، كانت المرة الأولى التي ترضخ لحلقة ذراعيّ حول قدها، الأرض تحت أقدامنا فراشاً يمكن أن يجمعنا إلى ما لا نهاية، ولكنها أبت متراجعة في شهقة تذمر أوغلت الجنون في صدري أكثر.

 ضاعت صرختي في أرجاء الفضاء الواسع، أمرتها بالابتعاد، الهرب من سعيري ما أمكنها، لعنت أول كلمة حب نطقت بها عندما كنا نلاعب أختها الصغرى في الحديقة التي مررت بها لدى دخولي، اتلفت يميناً ويسارا، عسى أن ألمحها تعاود انتظاري، تود محادثتي بما لم تخبر به أحداً، كشأنها منذ كانت صبية تهوى عمل المقالب بجميع صديقاتها، وحتى مدرساتها دائمات الشكوى من شقاوتها، أول ما أحببت فيها؛ قد تكون واقفة الآن خلف الباب الموارب الذي يفصلنا عن الصالة، تمد رأسها بين الحين والآخر، ترمقني بنظراتها الماكرة، ودون أن أنطق بحرف ستتعرى أمامها حقيقة كل علاقة حب ساخرة مررت بها منذ رحيلها، كل فتنة أنثى سطت على خواء حياتي سريعا وولت عنها سريعاً.

 لم تكن تلك المرة الأولى التي تلمس يد مها الناعمة يدي التي جالت شتى الحرف، كان آخرها دهان السيارات، بعرضيةٍ مفتعلة؛ عيناها المشرقتان تمطراني ببكارة الحب وخجل المراهقة الجميل. كيف لم أتنبه من قبل للشبه الذي يجمعهما، شبه من نوع خاص، لا يمكنني تحديده، تلك الصبية يانعة الأنوثة تكشف عن أعلى صدرها أكثر من كل مرة، ترتدي فستاناً يحز نهديها الصغيرين، يكشف عن بياض ذراعيها الرشيقتين، تتبرج بلمسات خفيفة من المكياج، تضع ذات العطر المميز في أنفي منذ زمن، لمعان شعرها الكستنائي تحت الضوء يمد لي بساطاً متعدد الانحناءات، يسمو بي إلى دنيا الأحلام من جديد.

 نزوة مراهقة، أم مجرد محاولة لإثارة غيرة أختها المطلقة حديثاً، وقد عرفت بسر علاقتنا التي اجتهدنا بإخفائها عن الجميع، أم… أم أنها تكتم ضحكتها على بعد خطوات مني، تراقب مقدرة تلميذتها النجيبة على إغوائي!!. آه لو أستطيع دفع الباب فجأة لأواجهها باكتشافي لآخر مقالبها وأخبثها، أنهرها كطفلة مشاكسة تأبى أن تتعقل، أهزها من ذراعها بعنف، ثم أهفو إلى صدرها شاكيًا، بل متوسلاً ألا تفارقني مرة أخرى.

 أتقنت تقليد صوت أختها في مكالمتها المقتضبة مع والدتي، تسأل عن أستاذها الهمام، لم تترك لي الوقت الكافي لاستيعاب المفاجأة، طلبت بشيء من الحزم، متأكدة أني لا أملك القدرة على الرفض، أن نلتقي في مكاننا المعهود، توارينا خلف الأشجار السامقة متشابكة الأغصان، وهالات من الشفق ترتسم في وجه السماء؛ ظلت صامتة أمامي، بابتسامة مرحة وكأنها ما تركتني يوماً، تهادى انكسار كلماتي  إليها سريعاً، يسابق صفع المفاجاة والظلمة الباهتة الزاحفة إلينا، أتسمع تنهد تُرجع صداه جذوع الأشجار. أقترب أكثر فترجوني الابتعاد، يداها لا تفارقان يديَ المعروقتين، فجأة انبثق صوت ظننته يصدر عن أخرى، يرجوني الانسحاب من حياة أختها المتيمة بي، ظلت واقفة تنتظر جواباً صريحاً يخبرها بنبرة واضحة أني لا أعبأ أبدا بتلك المراهقة الجميلة، حتى ساورني الشك أنها قد أحضرتها معها ووارتها بين الأغصان المتهدلة نحو الأرض لتسمعها تلك الكلمات بملء أذنيها.

 مزق غيظي غشاء البلادة الذي حط على وجهي وصرخت، صرخت بوجهها، لعنت أختها، لعنت حبي الأحمق الذي جرجرني إليها مجدداً بعد إلقائها شغف السنين تحت قدميها، وقد صارت  الظلمة جدراناً تقارِب من خطانا.

 تعالت خشخشة الأوراق اليابسة بتدحرجنا فوقها، كادت تتجمر بشرر اشتياقنا. أضطجعت إلى جانبها، أبصر النجوم الوليدة في السماء، أزيح خصل شعرها المنكوش عن البدر المرتكن إلى صدري، أغمضت عينيً منتشيا بسكرةٍ ما ظننت إني سوف أشهدها حتى وجدتني أطلب منها الزواج، فاجأتني بالموافقة وكأنها كانت تنتظر ذلك منذ بداية اللقاء.

 عاودت ارتشاف خديها وشفتيها المنتشيتين بلهفة المتشوق للحياة. أبعدتني عنها في تأوه. استندت إلى كوع ذراعي بينما يد ذراعي الأخرى ظلت تتنعم بملمس بشرة وجهها ورقبتها الحريري. أوقفت كلماتها استرسال أصابعي: ولكن لنتفق؛ متى يكون الطلاق.

ضحكت من مزحتها الغريبة: أي طلاق تقصدين؟.

 أبعدتْ يدي عنها وجلست مستندة إلى إحدى ذراعيها، وبنبرة جليدية استغربت من أين أتت بها: طلاق بعشرة آلاف دولار، ما رأيك؟.

أبعدت أنا هذه المرة يدها في نفور من مداعبة خصل شعري.

 لم تعطني فرصة السؤال عن صفقتها الغريبة تلك: مهما عاندت وتمردت ما من حل إلا في العودة إلى زوجي (في انفعال) تصور الغبي؛ طلقني ثلاثاً، وهو الآن يتوسل كالأطفال، ولا أخفي عليك إن مستقبله أكثر من جيد هناك، فلا يمكنني ترك كل ذلك لأخرى (تلجلجلت رصاصاتها لوهلة) ولكنك تعرف حكم الشرع في ذلك، ثم إنها فرصة لنا لـــ…

 أكملت جملتها بضحكةٍ مثيرة لعوب. تركتها مستلقيةً في تراخٍ، مغمضة العينين، ثرثرة أحلامها تبعد عن أذني مع كل خطوة أخطوها، ينز جبيني عرقاً بارداً، ويفترسني الغثيان.

كاتب من العراق

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *