*د. محسن الرملي
يعتبر الكاتب والمفكر الإسباني الكبير خوان غويتيسولو (1931 – 2017) الذي رحل عن عالمنا في الرابع من شهر يونيو الفائت، بمدينة مراكش المغربية، التي أحبها وعاش فيها جل حياته، ودفن في مدينة العرائش جوار قبر صديقه الكاتب الفرنسي جان جينيه الذي أثر به كثيراً وأول من قاده إلى هناك، أكبر وأهم كاتب إسباني بعد ثربانتس مؤلف «دون كيخوته» الخالدة، وهو نفسه كان يؤكد دائماً أنه تلميذ نجيب لسلفه هذا.
غويتيسولو واحد من أعلى وأقوى الأصوات المدافعة عن القيم الإنسانية العليا والتي تبلور وتتخذ مواقف حقيقية وشجاعة بلا هوادة ولا مراءاة أو مجاملة لأي حسابات شخصية، إنه ممن ينطبق عليهم القول تماماً بأنهم لا يخشون في قول الحق لومة لائم، ابتداءً بتعاونه مع الوطنيين الجزائريين ضد الاستعمار الفرنسي وإيوائهم في بيته بباريس وهو اللاجئ إليها هرباً من دكتاتورية فرانكو، كذلك وقوفه إلى جانب القضية الفلسطينية وما كتبه عن البوسنة وسراييفو وعن الشيشان والعراق وقيادته لحملة اعتبار «ساحة جامع الفنا» بمراكش تراثاً للإنسانية من قبل «اليونسكو»، وتحشيده المواقف ضد دكتاتورية بينوشيه في تشيلي التي راح ضحيتها بعض أصدقائه من المثقفين، ورفضه لجائزة القذافي.. وغيرها.
ميراث ثري
وعدا مواقفه الخالدة حول مجمل القضايا الكبرى التي عاصرها، ترك خوان للإنسانية إرثاً ثقافياً ثرياً ومتنوعاً، من بينه عشرين رواية، وكل منها تمثل عملاً مختلفاً من حيث الشكل والمضمون والتجديد الفني، بدأها بروايته «ألعاب أيادي» سنة 1954 وأنهاها بروايته «المنفي من هنا وهناك» عام 2008، ويقال إنه ترك رواية مخطوطة موصياً بنشرها بعد موته بعشرة أعوام، وما بينهما روايات صارت جزءاً خالداً ومؤثراً بتاريخ الرواية العالمية، ومنها: «علامات هوية» التي عدها النقاد تحولاً وتجديداً كبيراً في الرواية الإسبانية وبها انطلقت شهرة غويتيسولو الحقيقية، و«خوان بلا أرض»، «حفلات»، «الجزيرة»، «مقبرة»، «فضائل الطائر المتوحد»، «مناظر ما بعد المعركة»، «الأربعينية»، «أسابيع الحديقة»، و«ملحمة آل ماركس».. إضافة إلى ثلاثة مجاميع قصصية وخمسة كتب ضمن أدب الرحلات والسيرة وأربعة عشر كتاباً في الدراسات الثقافية العميقة والاستشراق والآداب، منها: «مشاكل الرواية»، «إسبانيا والإسبان»، «حوليّات ساراثينية» و«غابة الآداب»، وستة وعشرين سيناريو تلفزيونياً والكثير من المقالات والتحقيقات الصحفية والمقدمات التي وضعها لكتب، منها لأعمال أدبية عربية ضمن سلسلة «القبلة» التي أشرف عليها لترجمة الأدب العربي إلى الإسبانية.
نال غويتيسولو أكثر من عشرين جائزة، آخرها وأكبرها جائزة ثربانتس عام 2014 على الرغم من تردد الكثير من مؤسسات الجوائز بمنحها له، بما فيها نوبل، خشية من رفضه لها، لمعرفة الجميع بمبدئيته وحساسيته العالية واصطفافه إلى جانب قضايا الحرية والمهمشين والمهاجرين والشعوب المضطهَدَة ومناوئاً لشتى أنواع السلطات، وراديكاليته في المواقف الصريحة.
غويتيسولو والثقافة العربية
كل الكلمات التي تليق بتبجيل مثقف حُر عظيم، يستحقها خوان غويتيسولو، هذا الذي لم يجد مخالفوه أو حتى كارهوه من مثلب عليه في المواقف والفكر والإبداع، التي تحرجهم، سوى تلميحات مرتبكة، سرعان ما تنتهي لصالحه وتكشف عن غيرة ونقمة أكثر مما عن نقد موضوعي، ومثال ذلك أن الكاتب الإسباني المعروف خافيير مارياس وابن المفكر اليميني خوليان مارياس لم يجد شيئا يسيء به إلى خوان سوى أنه يعيش بين «الموروس»، أي بين «العرب».. بلفظة استهجان.
حين التقيته لأول مرة عام 1999 في مدريد، أصر أن يتحدث معي بـ«العربية»، وتحديداً بالدارجة المغربية، شكرني حينها على إرسال كتابي «أوراق بعيدة عن دجلة» وأعداداً من مجلة «ألواح» إليه في مراكش. كان يؤكد ضرورة اكتشاف الآخر دائماً: «أهم كتاب القرن العشرين الذين أعجبوني حقيقة، هم أولئك الذين عاشوا خارج بلدانهم وهم يوظفون كامل طاقاتهم من أجل صون حرية وحيادية أصواتهم الخاصة وشخصيتهم المتفردة في هامش الصخب الاجتماعي».
وفي لقاء آخر جمعني به عام 2010 مع عدد من أعضاء جمعية الكتاب المحترفين الإسبان ونحن نمنحه جائزة «الكيخوته»، عبر خوان عن أسفه بصدق لأنه الكاتب الإسباني الوحيد الذي يعرف التحدث بلهجة عربية منذ راهب هيتا في القرن الرابع عشر. وبالطبع لا ينطلق خوان في ذلك من ميله أو انحيازه لقومية أو عرق معين، فهو أصلاً ضد هذه التصنيفات طوال حياته وسخر من كل الدعوات المنادية بما يسمى بالنقاء العرقي أو الثقافي، فعدا انتقاده للمتنكرين لما هو عربي ومن ثقافات أخرى في الثقافة الإسبانية، انتقد أيضا قومه الكاتلان الذين يدعون إلى «كتلنة» الثقافة في شمال إسبانيا والانفصال عنها، قائلاً بتهكم: «لا أدري ماذا تعني هذه الكتلنة! هل المقصود بها أن نأكل بطريقة كاتالانية مثلاً أو كيفية استخدام الحمام وكيفية ممارسة الحب وغيرها!»، كما سخر من دعوة بعض المثقفين إلى التمسك بهوية ثقافة أوروبية تنسجم مع تطورات السوق الأوروبية المشتركة على الصعد الاقتصادية والسياسية وأسماها ثقافة اليورو «قاصداً قيمة العملة النقدية» وليس القيم الثقافية الإنسانية. لذا قال حين منحوه أول جائزة للأدب الأوروبي عام 1985 ربما أخطأت اللجنة، فليس انتمائي لإسبانيا وحده موضع شك بل وهويتي الأوروبية أيضا، وفي خطابه أمام البرلمان الأوروبي عام 1992 ذكرهم بالإرث الثقافي العربي الذي تنطوي عليه الثقافة الإسبانية بشكل خاص والأوروبية بشكل عام.
وبشأن علاقة خوان بالثقافة العربية ودفاعه عنها والتعريف والتأثر بها، أرى، شخصياً، بأنه علينا ألا نأخذ الأمر بشكل عاطفي بحت وننسى أنه كان فكرياً وثقافياً قبل كل شيء بالنسبة له، وربما لو أن القدر قاده للعيش في الصين أو الهند مثلاً لسعى لتعلم لغتهم وفعل الشيء نفسه، ذلك أن من ركائز فكره ومواقفه هو الانفتاح على معرفة الثقافات الأخرى بشكل حقيقي وعميق، وعدا ما يفترض بنا أن نكرمه ونخلده عربيا، أرى أن العمل على ترجمة أعماله الكاملة وقراءتها وإعادة قراءتها سيكون أفضل أنواع التكريم له، ومدرسة سنتعلم منها الكثير عن خوان وعن ثقافتنا وعن العالم.
الأخوة غويتيسولو.. فخر الآداب الإسبانية
ليس من المستغرب في نطاق الأدب الإسباني والعالمي وجود أخوين يحترفان الأدب، ومثال ذلك المشهورين انطونيو ومانويل ماتشادو، الأخوة كونتيرو، الأخوة مان في ألمانيا، الأخوات برونتي في الأدب الإنجليزي والإخوة غونكور في فرنسا وغيرهم، لكن حال الإخوة غويتيسولو فريد من نوعه، كونهم ثلاثة وكل منهم ناجح ومتميز في إبداعه ومختلف تماماً عن أخيه، بل أن حتى العلاقة الشخصية بينهم تبدو غامضة ومعقدة، بحيث لم يحضر أي منهم مراسيم دفن الآخر مثلاً، وقد بين تعقيد علاقاتهما الكاتب ميغيل دالماو في كتابه «الأخوة غويتيسولو» الذي حاز على جائز آناغراما للبحث والدراسات. يقول خوان: «لم أكن أعرف أبداً ما الذي كان يكتبه إخوتي ولا هم يعرفون ما الذي أكتبه قبل نشره».
الأخ الكبير خوسيه اغوسطين يعد واحداً من أكثر الشعراء الإسبان شعبية في القرن العشرين (1928 – 1999)، توفي إثر سقوطه أو انتحاره من نافذة شقته في الطابق الرابع ببرشلونة، وخوان الذي أصبح روائياً مشهوراً عالمياً منذ شبابه عاش جل حياته خارج إسبانيا، ولوليس «ولد 1935» فاز بجائزة عن أول رواية له، واختار الاستقرار في مدريد حتى اليوم.
أشار دالماو في كتابه إلى أن بذرة الميل للأدب عندهم قد جاءت بسبب فقدانهم لأمهم مبكراً تحت القصف في الحرب الأهلية، وأثر هذا أيضاً على مصائرهم الشخصية والأدبية والسياسية والاجتماعية بشكل عام.
كان أوغسطين أكثر من تأثر بفقد الأم بحيث سمى ابنته باسمها «خوليا»، وأن ديوانه الأشهر يحمل عنوان «كلمات لخوليا»، وتحولت أغلب قصائده إلى أغنيات شائعة، نشر 21 ديواناً، ويحسب على جيل الخمسينيات وأهم أقطاب «جماعة برشلون الشعرية» التي كونها مع صديقيه كارلوس بارال وخيل دي بيدما، يقول عن ذلك: «كنا قليلين لكننا أحدثنا ضجة». يصف قصائده بأنها سياسية وليست اجتماعية ويرى بأن: «أسوأ ما في الشعر هو ذلك الذي يتبع الموضة». وبأنه يسير في شعره بكل حرية ودون التقيد بمدارس محددة معتمداً على ثقة قرائه المخلصين الذين يحفظون العديد من قصائده «أسعدني جداً أن تحمل الكثير من حضانات الأطفال اسم (الذئب الطيب) عنوان إحدى قصائدي». تعرض اوغسطين للسجن أكثر من مرة في شبابه لأنه كان ضد الفرانكوية، ولم يخدم في الجيش، وظل معاديا لها متأثرا بمقتل أمه، وبسبب ذلك اتسم بالحزن طوال حياته، وكان أكثر حزناً وانطوائية في أيامه الأخيرة، الأمر الذي يجعل البعض يرجح انتحاره، فحتى الآن لم يتم التوصل إلى حقيقة موته؛ لأنه كان وحيداً في شقته ذلك اليوم، إلا أن عائلته ترفض وصف موته بالانتحار قائلة إنه كان يصلح الشباك وسقط. وفي احتفائيات توديعه ترددت أبياته:
«إن كثرة الأحزان لا تذله
لكنه يخاف عمق البئر المظلم
ذاك الذي لفه في مياهه الموحلة»
أما لويس، فهو الأصغر وعمل أستاذاً للأدب بجامعة برشلونة، يعد من كتاب الرواية الإسبانية المتميزين ويفاجئ قرائه دائماً بتجربة روائية جديدة ومختلفة عن أعماله السابقة، يتسم بالسخرية والتهكم المر أحياناً، عضو في الأكاديمية الملكية الإسبانية منذ 1994، ونال عدة جوائز منها الوطنية. أنجز مع خوان سلسة أعمال تحقيقية تلفزيونية عن العالم العربي، لكنه لم يحضر دفنه ولم يدلِ بأي تصريح بشأنه.
أفضل تكريم
بشأن علاقة خوان بالثقافة العربية ودفاعه عنها والتعريف والتأثر بها، أرى أن العمل على ترجمة أعماله الكاملة وقراءتها وإعادة قراءتها سيكون أفضل أنواع التكريم له، ومدرسة سنتعلم منها الكثير عن خوان وعن ثقافتنا وعن العالم.
لا تنتقد أعداءك، لأنهم قد يتعلمون
* أعتقد بأنني خلقتُ مبرمجاً على الكتابة، فمنذ أن بدأتها وأنا في سن السابعة أو الثامنة من عمري، لم يخطر على بالي أبداً فعل أي شيء آخر سواها.
* السياسيون يعتبرون الثقافة غير ضرورية ويمكن الاستغناء عنها.
* بالنسبة لي لا تعجبني روايات البيتسلر (الأكثر مبيعاً) لأنها لا تكشف عن أي شيء، بينما الأدب الجيد هو الذي يساعد القارئ على اكتشاف شيء يؤثر به ويؤثر بمجتمعنا أو بالإنسانية جمعاء.
* أناي أو ذاتي هي مجموعة من (الأنا) أو الذوات، أي بمعنى، أنا برشلوني، وكنت باريسياً، أنا مراكشي وكنت نيويوركياً.. ففي نهاية المطاف إن المهم في الأماكن شعور المرء فيها بأنه بخير.
* كل حياتي كانت عبارة عن رحلة مكثفة على الصعيد الفيزيائي البدني والصعيد الثقافي والأخلاقي. وهذا التنقل المتواصل أثرى وجودي.
* عندما يصنفونني كشخص (غير مرغوب فيه)، أشعر بالراحة أكثر مما عندما يكرمونني ويمنحوني جائزة، ففي الحالة الأولى أدرك بأنني على حق، أما في الثانية، وهو أمر نادر الحدوث لحسن الحظ، فأشك في نفسي.
* إن الإنسانية لا يمكنها أن تتطور دون أن تعترف بأخطائها، فبلا أي نقد ذاتي لن يكون هناك أي تطور. وأنا كنت دائم النقد للمجتمع، وفي الوقت نفسه، شديد النقد لنفسي أيضاً.
* الخطير فيما يحدث الآن في إسبانيا وفي البلدان التي تمر بأزمة اقتصادية، هو الاستقطاع من مخصصات التعليم والثقافة والبحث العلمي، وهذا يعني تحميل الديون على عاتق التقدم، بينما يمكن الاستقطاع من أشياء أخرى، مثال ذلك من التكاليف التي تصرف على وجود الجنود الإسبان في أفغانستان.. فلماذا هم هناك؟
* أنا لا أبحث عن عدد كبير من القراء، وإنما عن عدد معين من الذين يعيدون القراءة.
* حسب مفهومي، إن انعدام الفضول وعدم الرغبة بمعرفة الثقافات الأخرى، ما هو إلا من أعراض الانحطاط والسلبية، لأن الثقافة التي تعاني هذه الأعراض ستتحول إلى مجرد شيء يدعو للتأمل.
* التعليم الأدبي الذي تلقيته كان فوضوياً جداً، لأنه لم يكن تعليماً وإنما تلقيناً، وهناك فرق شاسع بين الأمرين.
* الكُتاب نوعان: أولئك الذين يعيشون الأدب كمسار مهني وأولئك الذين يعيشونه كإدمان.
تنوّع وثراء
ترك خوان للإنسانية إرثا ثقافياً ثرياً ومتنوعا، من بينه:
20 رواية وكل منها عمل مختلف من حيث الشكل والمضمون والتجديد الفني، بعضها صارت جزءاً خالداً ومؤثرا بتاريخ الرواية العالمية.
3 مجاميع قصصية.
5 كتب ضمن أدب الرحلات والسيرة .
14 كتاباً في الدراسات الثقافية العميقة والاستشراق والآداب.
26 سيناريو تلفزيونيا .
رواية مخطوطة موصيا بنشرها بعد موته بعشرة أعوام، وكثيرا من المقالات والتحقيقات الصحفية والمقدمات التي وضعها لكتب.
______
*الاتحاد الثقافي
مرتبط
إقرأ أيضاً
-
الطائر الغريبمحيي الدين كانون *خاص ( ثقافات ) في وقت الحَصاد حيثُ تمْتد أمواج سنابل القمح كصفائح…
-