*يحيى بن الوليد
ثمة ملحوظة، تبدو في غاية من الأهمية حين يتعلق الأمر بالخوض في موضوع النقد الأدبي العربي المعاصر، ومفادها أن الخطاب النقدي (في حضوره المستقل ومن منظور “عمل الناقد” في الوقت ذاته) لا ينفصل البتّة عن “المواجهة الثقافية” الشاملة والهادئة في سعيها إلى الارتقاء بالمجتمع من حال إلى حال أخرى يرى فيها الناقد ما يساير مرجعيته المعرفية وما يتماشى وميوله الثقافية وأحلامه الفكرية.
وقد تكون الملحوظة هي الفكرة ذاتها على نحو ما يصوغها الناقد المصري صبري حافظ، في كتابه “أفق الخطاب النقدي المعاصر”، قائلاً: “توشك حركة النقد الأدبي في مصر، أن تكون تسجيلاً لكل صراعات العقل المصري مع واقعه، والعالم من حوله، ومع ذاته في الوقت نفسه”.
ومن ثم فإن الخطاب النقدي جزء من الخطاب الثقافي بعامة يتأثر به بقدر ما يسهم في التأثير فيه. كما أن الأدب، بدوره، يسهم في تحريك الأفق الثقافي عن طريق أنساق التخييل والتحقيق والتذويت… إلخ. ويظهر أن تشابك الخطاب النقدي مع الواقع الفكري والسياسي والإيديولوجي يبقى الأرجح والأبرز مقارنة مع باقي مكوّنات “العقل المصري” إلى حدود السبعينيات الصاعدة من القرن المنصرم، خاصة في أثناء الحديث عن “قامات” نقدية محدّدة.
وأظن أن ما ذهب إليه الأكاديمي إدوارد سعيد، في كتابه “السلطة والسياسة والثقافة”، من أن أهم ما في الثقافة العربية وباستثناء الإسلام هو الأدب (ص57)… موضوع ما يزال في حاجة إلى الدرس الأكاديمي والبحث المتقصي.
وفي هذا المنظور نودّ الحديث عن “سهير القلماوي (الأستاذة، الرائدة، الناقدة، الأديبة)”، وذلك كلّه في دلالة على عنوان كتاب عنها ألفّته تلميذتها النجيبة الدكتورة الراحلة نبيلة إبراهيم (1999). وكانت سهير القلماوي قد فارقت الحياة قبل عشرين سنة (4 مايو/ أيار 1997) في ظروف تكاد تكون صامتة لولا التفاتة بعض تلامذتها. ثم إن الظروف التي فارقت فيها الحياة قرينة ما يشبه النسيان الذي طاولها لمدّة وهي على قيد الحياة في دوامة مع المرض اللعين تنتظر لحظتها الأخيرة لولا تلميذها جابر عصفور الذي كان يزورها في بيتها والذي كانت له معها علاقة نادرة أثمرت تلك الأعداد الثلاثة من مجلة “فصول” (المصرية) المكرّسة لملف “ألف ليلة وليلة” خلال العام 1994. وقد تفضّل جابر عصفور، باعتباره رئيس تحرير المجلة (وقتذاك)، بإهداء الملف لسهير القلماوي باعتبارها رائدة البحث في “الليالي”، متمنيّا لها في الوقت نفسه الشفاء العاجل.
لقد حصل لها “وعي مبكّر” بدراسة الأدب الشعبي، ما جعلها تنجز أطروحتها تحت إشراف أستاذها طه حسين الذي افتتن بدوره بشهرزاد وخصّها بكتاب “أحلام شهرزاد”، صدر في العدد الأول من سلسلة “اقرأ” في يناير/ كانون الثاني 1943. والمؤكد أنه ما كان لها أن تشرع في ذلك إلا بعد أن طارت نحو الغرب الأوروبي لتقوم ببحث استقصائي وجرد تفصيلي لما أنجز هناك من دراسات وأبحاث غربية حول الكتاب. وحصل ذلك كلّه في زمن لم يكن من السهل فيه الطيران نحو الغرب، من قبل طالبة في مقتبل العمر، من أجل إنجاز بحث جامعي حول كتاب لا ترتاح له الثقافة السائدة سواء من ناحية مضامينه أو من ناحية مأخذ ما سجّل عليه من بساطة في اللغة والسهولة والأداء. وقد ظل الكتاب على هذه الحال، من التهميش والتناسي، على امتداد قرون، إلى أن التفت إليه المستشرقون فمنحوه حقّه من التقدير والاهتمام والدرس والبحث.
وكان للفتاة سهير القلماوي ما أرادته عندما تحقّقت لها فرصة الذهاب إلى فرنسا في بعثة لدراسة الأدب المقارن، لكن قيام الحرب العالمية الثانية أرغمها على العودة من باريس إلى مصر العام 1939 وفي ظنها أنها أنهت البحث حول “ألف ليلة وليلة”. وتروي في كتابها “ذكرى طه حسين” (الأولى 28 أكتوبر/ تشرين الأول 1974) الذي صدر ضمن سلسلة “أقرأ” (العدد: 338 أكتوبر 1974): “لما عدت ــ بسبب قيام الحرب ــ وقد أنهيت البحث في ظني، قلت لأستاذي: أتأذن لي بأن أقرأ عليك الرسالة، فهي كاملة” […] أجاب العميد: “لقد درستِ وعرفت، وبقي أن تخرجي لنا شيئًا لا يستطيعه المستشرقون. لقد غرقوا في أصل الليالي ونحن نريد أن نغرق في الليالي نفسها”. وتواصل: “على مدى عام ونصف كنت أتردّد على طه حسين في بيته مرتين في الأسبوع أطلعه على عملي أوّلا بأوّل، وأستمع إلى إرشاداته، وأقرأ في مكتبته، ويدلني على مراجع ومجلات، أقرأ في مكتبة الجامعة ودار الكتب بدأب ومثابرة”. هكذا إلى أن ناقشت الرسالة في 5 مايو/ أيار 1941، وهو اليوم نفسه الذي كان فيه العميد قد ناقش من قبل أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه.
فصاحب “أحلام شهرزاد”، علاوة على كون أنه كان من أوائل الذين أفادوا من كبار المستشرقين في الثقافة العربية الحديثة، وعلاوة على كون أنه كان ينظر إلى الغرب نظرة موحّدة لا تميّز بين وجهه الحضاري ووجهه الاستعماري، كان “متحفّظًا” على الاستشراق في حال “الليالي”، كما كان حريصًا على أن تراعي سهير القلماوي ذوقها. ولا ينبغي أن تفوتنا الإشارة إلى أن صاحبة “أحاديث عن جدتي” كانت تنوي البحث في “الليالي” في رسالة الماجستير، غير أن العميد صدّها عن هذا… ووجّهها، وهو خارج الجامعة، إلى دراسة “أدب الخوارج في العصر الأموي”.
كانت سهير القلماوي استثناءً بالنظر للعقبات الثقافية المفروضة وبالنظر للإكراهات التاريخية المطروحة وقتذاك. فهي لم تسافر في بعثة لدراسة الأدب المقارن وكتابة البحث عن “الليالي” إلا بعد صعوبات شاقة أو بعد “قصة طويلة” كما تسميها. وهناك في فرنسا وإنكلترا التقت بالأساتذة المستشرقين واختلفت إلى دروسهم. ومن ثمّ كانت مساهمتها المبكّرة حول “ألف ليلة وليلة” التي ستصدر عن دار المعارف المصرية أوّل مرة في مستهل عام 1943. وقد نال الكتاب شهرة واسعة النطاق، كما أن تقديم طه حسين له لفت الأنظار إليه أكثر.
وكان من المفهوم أن تعرض الباحثة لرحلة الكتاب إلى الغرب بدءًا من ترجمة ــ سفير فرنسا في تركيا ــ أنطوان غالان، للكتاب بطبعاته المتعدّدة وتعديلاتها اللاحقة مع ذكر الأسماء التي ساهمت في الطبعات. وهي الترجمة التي تمّ اعتمادها في ترجمة الكتاب إلى الإنكليزية والألمانية والإيطالية والهولندية والروسية والسويدية والبرتغالية والرومانية… ما مكّن نصوص “الليالي” من مواصلة رحلتها المتجدّدة في ثقافات مغايرة ومجتمعات مختلفة وحضارات متنوّعة… إلخ. وكما أوضحت نبيلة إبراهيم، في تقديمها لطبعة “الهيئة العامة لقصور الثقافة” لكتاب أستاذتها (2010)، يعدّ الباب الأوّل من الكتاب المعنون بـ”ألف ليلة وليلة في الشرق والغرب” المكرّس لأهمّ أبحاث المستشرقين من الأوروبيين ومن غير الأوروبيين من الذين خاضوا في موضوع أصل “الليالي”، مع تفنيد الباحثة لكل رأي على حدة، من أهم الأبحاث التي كتبت عن حكايات “ألف ليلة وليلة”. وتزيد تلميذة سهير القلماوي أن الباب/ البحث لا يزال يتمتع بالجدّة والعمق حتى بعد مرور ما يربو على سبعين عاما على كتابته. وترجع أهمية البحث إلى ما ينمّ عنه من “عمل استقصائي مرهق”.
وقد خلصت سهير القلماوي، في كتابها الرائد وغير المسبوق، إلى أن كتاب “الليالي” من “صميم القصص الشعبي العربي” بالرغم من تضمّنه لبعض القصص الهندية والفارسية؛ ذلك أن “النوع القصصي” ليس غريبًا عن الذهنية العربية. كما خلصت إلى أن صيغته الأدبية الشعبية اكتملت قيمتها التاريخية في مصر بعد أن تشبّعت بأجواء الحياة المصرية الشعبية ولغة الشخصية المصرية. وكما أن الناشر العربي للنسخة المصرية المطبوعة في بولاق القاهرة سنة 1834 (وهي النسخة الثالثة للكتاب بعد نسخة كالكوتا الهندية سنة 1814 ونسخة ماكسميليان حابيشت الألمانية سنة 1824)، كان على وعي بفكرة “تحوير اللغة” حتى تكتسب “الليالي” قيمة أدبية أعلى من النسخة الأصلية كما تناقش فاطمة المرنيسي في كتابها “شهرزاد ترحل إلى الغرب”.
لقد لمّح كتاب سهير القلماوي، في مجموعه، إلى بداية طريق مغاير وصعب بالنظر لما خاضت فيه من مواضيع ذات الصلة بـ”التثاقف” من خلال الأصل الهندي والفارسي. إضافة إلى ما سيرافق الأصل العربي، بعد مرحلة الرواية، من تداخل لتقاليد “الشفاهية” و”الكتابية” في لحظات التدوين الأولى وعلى النحو الذي أفضى من منظور اختلاف ثقافة العامة وذوقها في كل بلد على حدة إلى نسخة مصرية وأخرى شامية وثالثة بغدادية، وصولاً إلى جرد موضوعات الخوارق والموضوعات الدينية والتاريخية… وحصر أنماط المرأة من “عالمة” وجارية (حتى وإن كانت ملكة) وعجوز داهية… وغير ذلك من المراكز الدلالية التي يتشكّل من مجموعها مضمون الليالي. ومن هذه الناحية لقد انطوى عمل سهير القلماوي، كما يلخص جابر عصفور، على الملامح المنهجية الغالبة على طرائق أساتذتها الذين أخذت عنهم في ذلك الزمان، والذين تعلمت منهم إجراءات المنهج التاريخي وآليات التحليل الفيلولوجي وعمليات الدراسة المقارنة وكيفيات التحليل النصي الذي يركز على وحدة الموضوعات (من مفتتح ملف “ألف ليلة وليلة”/ “فصول”، شتاء 1994). سترتاد سهير القلماوي مجالاً على قدر من التعميم، ولا غرابة أن يواصل جابر عصفور في مفتتح الملف الموالي (“فصول”، ربيع ــ صيف 1994) قائلا: “وما كان يشار إليه في سطر واحد أحيانًا، في أطروحة سهير القلماوي أصبح موضوعًا لأطروحة دكتوراه. وما كانت تعبُر عليه سهير القلماوي عبورًا سريعًا أصبح منطقة جذب للكثير من الأعين الفاحصة في الشرق والغرب”.
وكان العميد بدوره على وعي بالفكرة (وقتذاك)، إذ قال لها ذات يوم: “ألا تصدرين كتابًا آخر عن ألف ليلة وليلة؟”، فأجابته بسرعة: “لا أريد أن أكون كبعض الزملاء يحملون رسالة الدكتوراه كعربة (الزمن) يسرحون بها عصرًا، ويبيعون للمارة كل يوم حفنة منه… سأؤلف كتبًا جديدة بعيدة عن ألف ليلة وليلة” (“ذكرى طه حسين”، ص17 ــ 18). من الجلي أن الكلام لا يخلو من أخلاق عالية هي أخلاق المعرفة بأكثر من معنى، بخاصة ذلك الصنف من المعرفة الذي يقي من التكرار على حساب الاجتهاد ومن التوليف على حساب التأليف ومن الثرثرة على حساب الإبداع.
أهمية الدراسة، ومن خلالها صاحبتها، أنها سترتاد حقلاً لم يكن قد مسّه حرث أو قلب. سوف تبحث في الوجه الآخر للمرأة التي لوّى بها القمع في سياق نصوص الليالي وعلاقات المدينة الصاعدة. وهو الوجه الآخر لما لازم البحّاثة الشابة سهير القلماوي نفسها التي ستجد صعوبة قصوى في إقناع الأسرة بالسفر إلى أوروبا. أسرتها التي كانت نموذجًا للمجتمع البطريركي بالرغم من أبٍ لها كان يعمل طبيبًا. ولذلك لم يكن من مخرج للذهاب إلى خارج مصر إلا عبر الزواج من الدكتور يحيى الخشاب الذي تقدّم للزواج منها وهي طالبة في كلية الآداب، وكان العميد هو من أشّر على هذا الزواج.
لم ينظر إلى المرأة وقتذاك نظرة تقرّ بقدراتها على مستوى البحث وعلى مستوى المساهمة في تنوير المجتمع. التنوير الذي لا يمكن أن تتحقق خطواته الأولى، إلا بإعطاء الحرية للمرأة وجعلها تركب قطار المغامرة في دلالة على مظهر من مظاهر التلمذة على يد طه حسين التي تقتضي ضرورة الاهتمام بالنقد الغربي، وبما يقتضيه من ترجمة وتعريف مكمل لهذا الاهتمام. وبالرغم من جميع الخطوات التي قطعتها والمساهمات التي ساهمت بها في مجالات الكتابة في الأدب والمجلس الأعلى للفنون والعلوم الاجتماعية الذي سيختزل اسمه في المجلس الأعلى للثقافة، وفي الإشراف على الرسائل العلمية والمساهمة في الصحف والأحاديث في الإذاعة والتلفزيون… فإنها ظلت تشعر بأنها تلميذة في مدرسة طه حسين.
وبما أن الحيّز لا يسمح بمزيد من الكلام عن سهير القلماوي، فإن بحثها في الليالي لا يزال مرجعًا أساسيًا وضروريًا لأي باحثة أو باحث في الليالي، وإن ما قالته في كتابها “النقد الأدبي” عن النص الذي يظل “كالبلد العجيب الذي نودّ زيارته”، وعن الناقد “كالدليل لهذا البلد العجيب”… هو ما ينطبق على علاقتها بالليالي. ستظل، من موقع المعرفة المنهجية المتجدّدة، “دليلا” لهذا البلد العجيب الذي ما انفكّ يتزايد أهمية واستقبالاً وبحثًا… مع تقدّم القرون.
______
*ضفة ثالثة
مرتبط