حرب روائية بين الصين واليابان

*محمد الأسعد

يرى الناقد البريطاني «مارتن بوث» أن الحرب بين الأسلاف، يابانيين وصينيين، دخلت مرحلة جديدة بصدور روايات في كلا الجانبين تبدو وكأنها تخوض سجالاً موضوعه التاريخ. أي أن الحرب الفعلية في النصف الأول من القرن الماضي، والتي تتواصل على صعيد المناسبات التذكارية سياسياً بين فترة وأخرى، انتقلت إلى المجال الروائي هذه المرة مع صدور رواية «أسماك بحر سيتو» للكاتبة اليابانية دوري بلجرم. ولكن لا يفوته أن يلاحظ أن هذه الأسماك التي تحاول تقديم رواية موازية لرواية قرن من تاريخ الصين للكاتبة «يانغ تشانغ» المسماة «بجعات برية»، لم تستطع الطيران.

قيل هذا قبل تجلي الصعود الصيني على المسرح العالمي، وقبل أن يلقي العملاق الصيني ظله على شرق آسيا، ثم يواصل التمدد غرباً وصولاً إلى إفريقيا وأوروبا ويعبر المحيط الأطلسي. وقيل بعد أن بدأت الأوساط الأدبية تلاحظ أن سيرة حياة أسلاف الشرقيين تصبح موضوعاً أدبياً لنوع أدبي قائم بذاته.
معظم هذه السير كانت حكايات أسلاف صينيين مثل رواية «أسلاف» ليانغ تشانغ، ورواية «بجعات برية» ليانغ تشانغ التي لفتت الأنظار. وفيها ظهر اليابانيون بوصفهم غزاة ومحتلين في المقام الأول، إما تحت أقنعة الساموراي (الجيش الإمبراطوري) أو الجلادين قاطعي الرؤوس، أو القادة الذين يقدمون على الانتحار حين يخفقون حفاظاً على شرفهم العسكري. وتتجه الرواية اليابانية التي كانت موضوع تعليق الناقد البريطاني، نحو ما يبدو أنه إعادة التوازن إلى ما تعتبره كاتبتها خللاً ثقافياً وتاريخياً ألم بصورة الشخصية اليابانية على يد الروائيين الصينيين.
ترمز الأسماك، في عنوان الرواية، إلى أسلاف عائلة الكاتبة من جهة الأم، وإلى حياتهم على سواحل بحر اليابان الداخلي. وقد يبدو العنوان للوهلة الأولى لا علاقة له بحياة أسر إنسانية، إلا أن هذا الانطباع سرعان ما يتبدد، ويتضح أن حياة أحفاد عائلتي «ميوار» و«شيراري» تشبه حياة الأسماك، أي حياة كائنات ضئيلة تسبح تحت رحمة مد وجزر التاريخ.

تبدأ أحداث السيرة في سبعينات القرن التاسع عشر، في يابان بدأت تتغير تدريجياً بعد عزلة وركود عدد من القرون، ويقودها هذا التغير إلى مفرق طرق تتعرض فيه الأشياء والتقاليد والناس، ثقافياً واجتماعياً، إلى اضطراب هائل. رجال العائلة، التي تعيش في بيت قديم يحيط به خندق يشبه خنادق القلاع القديمة، أطباء ورثوا مهنتهم جيلاً بعد جيل. كانوا يعالجون في البداية ملاك الأراضي الأثرياء، ثم أصبحوا مع مطلع عصر اليابان الحديث يعالجون الفلاحين والأجراء الذين يدفعون أجورهم على شكل محاصيل زراعية. لم تكن العائلة ثرية، إلا أنها كانت قانعة بما هي عليه. ويشير زواج «هاروكو» من المهندس «نوزومي» إلى بداية التغيير. هذا المهندس كان نموذجاً للياباني المعاصر الخارج من القرون الوسطى؛ المتعلم تعليماً عالياً في فرع علمي تقاني. ويصبح هذا التغيير نذيراً بهبوب رياح سيئة. رياح بدأت نذرها فعلاً حين تم إرسال المهندس وزوجه إلى «منشوريا» الصينية التي احتلها اليابانيون واعتبروها جزءاً من بلدهم في بداية توسعهم الطموح في البر الآسيوي، والذي توجه الهجوم الشهير على مقر الأسطول الأمريكي في «بيرل هاربر».

* * *
لم تكن حياة اليابانيين في «منشوريا» قاسية. كانوا السادة المشهورين بالقسوة، على رغم أن «هاروكو»، والمؤلفة التي كانت طفلة آنذاك، لم تلاحظا هذه القسوة. حياتهما كانت حياة وافدتين تخشيان حكومتهما أكثر مما تخشيان الصينيين المحكومين. وحين بدأ صديق للعائلة ياباني يصرح بصوت عالٍ بأن الحديث عن «الازدهار الآسيوي المشترك» حديث مثالي عابث، وهو في الحقيقة «تعاون على التجويع مشترك»، أيقن الجميع أنه وقع على قرار إعدامه.
وفي العام 1945، مع استسلام اليابان، اتخذت حياة «هاروكو» الأم اتجاهاً درامياً مأساوياً. كانت العائلة، وقد وقعت تحت رحمة القوات الصينية والروسية، محظوظة بالهرب والنجاة بجلدها. ولكن أصدقاء العائلة لم يصادفهم الحظ نفسه، اغتصبت إحدى الفتيات حتى الموت، وجُلد طفل حتى لفظ أنفاسه. ووجدت العائلة الناجية نفسها مجبرة على قطع مئات الكيلومترات سيراً على الأقدام؛ للوصول إلى سفينة أمريكية تنقلها إلى الأرض اليابانية. وهناك، حيث وصلت العائلة، وجدت البلد مقفراً وتحت احتلال العدو. إلا أن الأسوأ كان أنها عادت إلى مجتمع تغير إلى الأبد: قضي على أساليب الحياة القديمة المألوفة، وانطفأ ألق الحياة الناعمة السابقة، بتأثير الحرب والهيمنة الأجنبية.
ولا تمتد الرواية زمنياً إلى ما بعد الخمسينات من القرن الماضي، ولا تتوقف كثيراً عند آثار الحرب المادية، بل تنعطف مع انعطاف حياة الأسرة حين تغادر الأرملة «هاروكو» اليابان لتعيش مع ابنتها وزوجها الإنجليزي، وكلاهما عالم أنثروبولوجيا يعمل في إحدى منظمات الأمم المتحدة. وبرفقة الزوجين، تسافر «هاروكو» وتتجول في عدة بلدان، قبل أن تستقر أخيراً في مقاطعة بريطانية مع ذكرياتها. وخلال هذا التجوال، وفي السنوات التي سبقته، تحرص الكاتبة على أن تطلع القارئ على ما تعرضت له حياة أسرتها من تقلبات حادة، وهل هناك أكثر حدة وقسوة من القفزة الثقافية والاجتماعية من يابان الساموراي إلى مقاطعة بريطانية؟
ما تقدمه هذه الرواية التاريخية، والتي جاءت لتقدم رواية موازية من وجهة نظر يابانية، هو استبصار جذاب في حياة أسرة يابانية استطاعت النجاة من تأثير التغيير المدمر. وتقدم أيضاً صورة عالم منسوج من تقاليد ثقافية وأساليب حياة قديمة، عماده تصوير حياة شخصيات حية بدقة أنثروبولوجية، تكاد تكون سجلاً لعالم الرداء الياباني التقليدي (الكيمونو)، وحفلات الشاي وطقوسه، وطرق الخطاب الاجتماعي، وكيف تحول هذا العالم ذاته إلى شيء مختلف تماماً.
ومع ذلك، ومع الاعتراف بجمال السرد الذي يكاد يكون عفوياً، واللقطات الإنسانية المؤثرة بعيداً عن الانحياز لهذا الطرف أو ذاك، من الملحوظ أن هذا السجل المعني بالموروث الياباني، متعمداً، ويسرده على شكل حكاية، يحمل جوانب ضعف. فمع أن تركيز الروائية كان على إطار محدد ملائم لإبراز صور الشخصيات، إلا أن طرق بناء المقدمة والحوار التي تشعر بوجود تدخل من قبل الكاتبة، تمنع التدفق في أحيان كثيرة. ونقول هذا، لأن هذا العمل بوصفه رواية من المفترض أن يسمح للقارئ بالوصول إل أحكام وخلاصات خاصة به، وأن لا تقال له من قبل الكاتبة سلفاً. لمخيلة القارئ، كما يعلّم النقد الحديث، دور مهم في تشكيل صيغة نهائية أو تأويل للنص الأدبي، وهذا الدور هو الذي يسمح بإقامة علاقة حميمة بين القارئ والنص، بشخصياته وعوالمه وأفكاره، ويمنحه صفة الجوال في الجغرافية الطبيعية والبشرية، وقبل كل شيء في الجغرافية الجمالية للنص الأدبي.
ويمكن إضافة جانب سلبي آخر يمثله تركيز الكاتبة على شخصية مركزية هي «هاروكو»، وأدى هذا التركيز إلى غياب أو تغييب العالم الخارجي عن أجواء الرواية، وهو غياب غير مبرر فنياً في ضوء شبكة علاقات يتلاحم فيها الداخل الإنساني والعالم الخارجي، وخاصة في ظل وضعية متغيرات عاصفة كتلك التي شهدتها اليابان. وبفعل هذا الغياب بدت التجارب، وأكثرها عمقاً وتأثيراً، وكأنها بلا سياق تتم فيه. إن الكيفية التي نسجت فيها تيارات التاريخ، والرواية تقع في قلب هذه التيارات، تقلبات المصائر العائلية، هي الأولى بالأهمية، لا نتائج ولا خلاصات حركة هذه التيارات.

_______
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *