ألبرتو مانغويل والمكتبة في الليل الأصفهاني

*أحمد حيدري

كما ينبهر الصائغ القديم الاصفهاني بقطعة أستاذه المذهبة، انبهرتُ أنا أيضا بكتاب «المكتبة في الليل» لألبرتو مانغويل، ترجمة عباس المفرجي. بات الصاغة القدماء قلة في إصفهان كما يشتكون، وتكاد حرفتهم تندثر ومعها لغتهم أيضا، فهم معجم للمفردات كما كل الصاغة في العالم، معاجم لغوية كتبت بلحن دقات رؤوس مطارقهم الصغيرة وأسرارهم التي لا يخرجونها من عالمهم السفلي.
من المقرر اليوم حسبما حددت لنفسي، أن أذهب لأشارك في ورشة كتابة السيناريو للطفل، وسيكون أكثر المشاركين من الأطفال، ثم أعرّج على فيلم إيراني تحت عنوان «واجب شيدا المسائي» للمخرج الإيراني مهرداد حسني، ثم جلسة نقدية مسائية، هناك قائمة طويلة عليك انهاؤها في المهرجان الدولي لأفلام الأطفال واليافعين الثلاثين في إصفهان، والأجواء هنا مغرية للتحرك بعجالة من مكان لآخر.
طوال اليوم سيطرت على رغبتي في زيارة المكتبة المركزية، أردتُ تجربتها كما فعل ألبرتو مانغويل في الليل. كيف ستكون المكتبة في الليل؟ وأي ملامح منها سأكتشفها بعد تخف ككائن ليلي؟
خدعتُ نفسي أو أبعدت نفسي من الملل المكرر للأحاديث التي تحاول قتل الفيلم قبل الدخول إليه. اخترتُ السير على الأقدام حيثما سأذهب، أريد الالتصاق بحركة الناس ورؤية معالم المدينة بشكل أفضل. ومن جانب آخر عادة ما يكون الصامت الأقلّ حظا في لفتة الانتباه، فيتركونه يفعل ما يشاء، ما يتيح حرية التحرك.
خرجتُ من فندق بيروزي (النصر) متجها إلى المكتبة والشمس لم تغب، مررت على حديقة «هشت بهشت» الجنان السبع، وهو العنوان نفسه الذي سيختاره ميرزا آقاخان كرماني والشيخ أحمد روحي والشاعر أمير خسروي دهلوي والمؤرخ إدريس بدليسي لكتبهم. وهو في الأساس قصر بني عام 1080 هجرية وأسلوب البناء إصفهاني، ويقع في حديقة ممتدة تحيطها الأشجار من كل جانب. يقام في المكتبة المركزية معرض، وهو معرض جانبي ضمن فعاليات مهرجان الطفل في إصفهان. في مقابل الجنان السبع تقع المكتبة المركزية، بناية أهدتها البلدية لدائرة الثقافة. مع صعودي الدرج كان هناك صندوق زجاجي بيني وبين الباب كُتبت عليه لافتة «الكتب المنذورة»، ثم العلامات التي تشير للطابق الأرضي، كل العلامات المهرجانية هنا تشير إلى الطابق السفلي، كأننا نمارس طقوس الصاغة القدماء، صعدتُ للأعلى لأرى، ثلاثة طوابق وينتهي بك المطاف إلى منظر يشرف على الجنان والجبال المحيطة بالمدينة. عدتُ للقبو حيث أسراره المدفونة، فلكل قبو سرّ، قرب باب الاستقبال طفل ممدد وطفل أكبر سنا جالس، كلاهما من ذوي الاحتياجات الخاصة. يرسمان بصعوبة أطفالا يركضون. بعد باب الاستقبال وجدتُ غزالة فتاة أيضا من ذوي الاحتياجات الخاصة، تعمل على «السجاد القرميدي» وهو رصف حجر على أشكال السجاد، غزالة تضحك وهي تشرح لي ما تفعله وتحاول أن تبطئ في كلامها لكي أفهمها. كل الأعمال من رسوم وخزف وقرميد هي للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة. وبعد عبور غرفتين تتغير الأجواء كلها، ليبدأ معرض الصور الخاص بالمهرجان عن الأفلام المشاركة.
صورة فيلم «دون حدود» لبطل الفيلم وهو يركض أو يهرب وبيده كيس قمامة وسمكة يُطلق عليها «البيضاء». تتسارع صور الأفلام لكواليسها. غرف مترابطة ببعضها منزوعة الأبواب، أدخل من غرفة إلى أخرى. وبين الغرف أربعة ممرات مغلقة وضيقة، كأنها أقبية سرية. هناك رأيتُ صبا الممثلة الإيرانية في فيلم «الخزنة» نصف وجهها وعينها كصقر، الصورة تحاصرك مثل الزاوية التي تقف فيها ولا مهرب أمامك سوى النظر لعينها، ثم وجدتُ أنّ الصور التي أحاطتني هي ستة كلها لعيون الممثلين وليست عين صبا وحدها.
وجدتُ التبادل الحاصل في الكواليس بين المخرجة/المخرج والأطفال وهم يدلونهم على طريق لنهايات المشاهد. فيلم «طلاء الأظافر الأحمر» للمخرج علي حميد نجاد، توقفك صورة للممثلة الطفلة، لا هي باكية ولا راحلة ولا تتركنا ننهي ما بدأته. عينان حمراوان ورأس مطرق ودموع محبوسة وشعر منسدل على خديها وشفتان خرساوتان. الممثلة الطفلة في الصورة تطالب بطلائها الأحمر.
أغلبية الصور ذات طابع حزين، كأنها تكمل أنشودة ما صادفته في الباب مع ذوي الاحتياجات الخاصة. الغرفة في الوسط كانت أكثر الغرف فرحا، رسوم أطفال بين السادسة والسابعة استوحوها من «كليلة ودمنة»، الماضي الفرح دوما.
لن أفوّت المكتبة في الليل يا ألبرتو، لن أفوّت نصائحك. وصلتُ إلى باب كتب المصادر، جلس أمين المكتبة وفتاة على طاولة بعيدة عنه، وضعت حقيبتها البنية على الطاولة منغمسة في النقل من كتاب ضخم. كنتُ أراقبها أكثر من قراءة عناوين الكتب، لمحتني فابتعدتُ عنها لكي لا أزعج عزلتها. جلس شاب بعيدا عن الاثنين يحرك رجله ويراقبني منذ أن دخلت. أعرف لعبة المراقبة هذه. مررتُ على الكتب المخطوطة والنفائس، ورأيتها تنادي عليّ من بعيد، بيد أنّي لا يمكنني لمسها.
يا صديقي ألبرتو، كنتُ في بيتي، شاهدتُ الأفلام البعيدة والقريبة في أعين الممثلين وشاهدت نهايتها في صورهم معلقة. طوال الوقت شعرتُ بك وأنا أقصص عليك ليلية المكتبة الإصفهانية.
_______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *