إشكالية الخطاب بين الموروث والوافد والمبتكر

خاص- ثقافات

*د.زهير الخويلدي

” هذا المطلب لتغيير الوعي يبلغ تأويل الواقع بطريقة أخرى ، أي إدراكه بواسطة تأويل آخر. لذلك يتحرك التأويل دائما بين تأويلات أخرى…(انه) عملية تحدث داخل التمثيل ولذلك فإنها تبقى “1

استهلال:
يظل تناول المسألة الدينية من زاوية النقاش العمومي والتحليل العلمي والقراءة المعرفية أمرا راهنا ومطلبا حيويا وذلك من أجل ترشيد هذا الخطاب والتمييز بين البنية النصية والمعطى التاريخي والاجتهاد العقلي التي يتشكل منها وقصد رسم الحدود بين الدنيوي والأخروي وبين المقدس والمدنس وتنزيل الوحي في السياق الاجتماعي من جهة التلقي والانتظار ومن ناحية النداء والاستجابة والتفكير في سبل لتجاوز التنابذ بين القديم والجديد وبين التجذر والانفتاح وتدبير طرق ووسائط للخروج من المأزق الذي تردت فيه حضارة إقرأ نتيجة سجال التآويل والأزمة السلطوية التي فجرها ادعاء القراءات المتعددة امتلاك الحقيقة المطلقة والتمثل المطلق للمقصود الحقيقي للشارع الأول وتنسيب الرؤي البشرية التي تم نحتها عن الديني.
فما الغاية التي فرضت عملية تطوير الخطاب الديني؟ هل هي إرادة التخلص من القديم وإخلاء الساحة للحداثة بماهي شرط التقدم في التاريخ أم العزم الفعلي على التجديد الاجتهادي دون الوقوع في المذهبية؟ أي تجديد لأي خطاب يمكن قوله عن الدين للناس أجمعين؟ وكيف السبيل إلى التسامح بين الأديان والتفاهم بين الطوائف؟ ومتى يكون الخطاب الديني منارة مضيئة في درب ترسيخ المواطنة وتدعيم الديمقراطية؟
من هذا المنطلق يحرص الفكر الحاذق على إجراء حوارات جدية بين حقول متباينة وتنظيم لقاءات دورية حول تجديد الفكر الديني ويسعى في كل ذلك الى تنمية الحس النقدي وتأصيل المقاربة العلمية في المسألة العقدية ومراجعة الوثوقية الاعتقادية النصية وتقوية جرعة الارتياب في الأنساق التقليدية وتقويض طبقات الميراث المتكلسة وتحريك السواكن ومراجعة البديهيات. فماهي الإضافات الكبرى التي قدمتها الدراسات الأنثربولوجية عامة ويمكن أن يدعمها الفكر النقدي خاصة في مجال التنوير الديني والتأصيل الفقهي؟

–       تشريح الأسس وتجديد المنهج:
لا يحتاج الفكر الحضاري إلى إصلاح تعديلي في بعض المقولات ووضع جملة من الخطط والبرامج قصد التحديث ولا يتطلب القيام بتطوير الآليات المعتمدة وتجويد الطرق البحثية وفق الأنماط السائدة والاكتفاء بتجديد القديم وعصرنة التقاليد وانما هو على خلاف ذلك في أمس الحاجة الى العود على بدء في كل شيء والتخلص من العوائق والكف عن السير في المتاهات والضياع في الدروب الوعرة وتقويض الوثوقيات وخلخلة كهوف الزيف من الداخل وتشريح المبادئ وتحليل البديهيات بصورة جذرية والتوجه نحو التخلي الكلي عن المناهج المفلسة والاسقاطات التعسفية والمقاربات الميكانيكية.

–       الانتقال من النص إلى الخطاب:
مل الفكر العربي من الاشتغال على النصوص وأضاع الكثير من الوقت والجهد في الشرح والتوضيح ودراسة ما بين السطور وتعقب الحروف والاعتناء بالفقرات والتمعن في الجمل ومنذ تغلب دعاة التفسير على علماء التأويل لم يبارح قراءة المأثور بالمأثور وتغليب الأحاديث المروية على الحجج الواقعية.
غير أن المطلوب هو الانتقال من النص إلى الخطاب ومن المكتوب إلى القول ومن المدون الساكن الى الصوت المزلزل وإنتاج مقاربة تداولية تركز على الحركة والإيقاع والقوة والدافعية والتدفق الوجودي.

–       قراءة النص على ضوء الواقع:
إذا كان المفسرون يشتغلون على النصوص على ضوء السياقات التاريخية التي تشكلت فيها وبالانطلاق من الأنساق المعرفية والعقائد المذهبية التي ينتمي إليها مؤلفيها ووقعوا في عدد من المزالق والأخطاء وارتكبوا إسقاطات خطيرة على الحاضر وأصدروا عدة أحكام معرقلة لكل تقدم ومانعة لكل تجديد فإنه من الضروري تغيير زاوية النظر واستبدال المرجع العلمي وتثوير الموقف المعرفي والانطلاق من الواقع في قراءة النص وإتباع النظرية العقلية والنسق المنطقي والمنهجية البنائية قصد استخراج جملة الأفكار النيرة والاستفادة منها في تنظيم العلاقات بين البشر والاستنارة بها في تدبير الحياة الجيدة وضخ فائض قيمة من المعارف والاكتشافات التي تضع البشرية في طريق الرشد الذاتي والاستقلال الحضاري والثقافة الكونية.

–       أولية الفعل على التأمل النظري:
لا قيمة للمعرفة المنتجة إلا ضمن ممارسة ميدانية تكون نافعة للقوى الاجتماعية التي تتبناها على صعيد الممارسة ولا جدوى من التحصيل النظري إلا إذا رافقه التزام على صعيد التجربة الخلقية والسياسية وترتب عنه اكتساب لجملة من المهارات والاقتدارات التي تعزز المواطنة والحرية والتحلي بالمسؤولية.
ليس الغرض من الاهتداء بالنصوص الإعلاء من شأن الخطاب ولا إنتاج المزيد من الظواهر الصوتية وإنما إعادة تشغيل لآليات الإبداع وتحريك بنية العقل التأويلي ضمن آفاق رحبة وفي أشكال حياة جديدة.
لا يمكن الإقرار بإنتاج نظرية ثورية في التأويل إلا ضمن برنامج تغيير جذري للذهنية وفي إطار ثورة ثقافية تعيد بناء المسطحات المحايثة للقوى المنتجة للمعنى ومن خلال دمقرطة جذرية لسياسات الحقيقة.

خاتمة:
تتضمن النصوص عوالم بأسرها وتتسع العقول البشرية بالرغم من محدوديتها وضعفها من أجل فهمها واستخراج كنوزها وتركض الأرجل وراء المصلحة وتتلهف الآياد من أجل ملكية الثروة ويزداد الوعي شقاء في التاريخ وتزداد العقول حيرة أمام استعصاءات التغيير واستحالة التقدم وعودة المكبوت والماضي.
بيد أن الأمل يولد لحظة معانقة الفكر للواقع عن طريق اللغة وتقاطع النص بالتاريخ بواسطة الفعل واتجاه الناس نحو الجديد بدل الانشداد إلى القديم والتعويل على تجاربهم من أجل ابتكار حلول ناجعة لمشاكلهم. فمتى يستبدل العقل الحاجة الى النصوص من أجل التأويل بالتركيز على الواقع من أجل التغيير؟ وماذا لو تضمنت النصوص نبضات الواقع وحركات الفكر وأسئلة الوجود؟ وألا يشرق الأمل من خطاب يفعل؟
المرجع:
1- ريكور (بول)، محاضرات في الايديولوجيا واليوتوبيا، ترجمة فلاح رحيم، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، طبعة أولى، 2002، ص133
_________
كاتب فلسفي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *