*ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي
فصول مترجمة من كتاب ( الكتب في حياتي ) للكاتب – الفيلسوف
كولن ويلسون
القسم التاسع ( الأخير)
العلم والعدمية – تتمّة
إن الحاجة للإحساس بالأمان سمة أساسية في الكائنات الإنسانية : إن طفلاً ما يمكن أن يشعر بالضجر من حياته وقد يجنح لأن يكون متمرداً تجاه أبويه ، ولكن يظلّ أبواه في اقل تقدير جزء من الترتيبات الطبيعية التي تحيطه وتحميه . بالنسبة لي بدت لي تلك الترتيبات الطبيعية العادية الموفّرة للأمان وهماً فاجعاً تماماً مثل الأمان الذي يشعر به الحمل الصغير وهو دافئ في حضن أمه غير عالمٍ أن مصيره مع أمه سينتهي ليكونا كومة لحمٍ في ثلاجة أحد السوبرماركتات ( الأسواق الكبيرة ) .
بعد بضع سنوات قرأت في كتاب ( أنواع التجربة الدينية ) للكاتب الفيلسوف الذائع الصيت وليم جيمس مقطعاً كتبه الفيلسوف الفرنسي ( تيودور سايمون جيفروي ) يصف فيه فقدانه الشخصي للإيمان ، وقد تسبب ذلك المقطع في إستعادة مشاعر الكرب والرعب القديمة :
” لن أنسى أبداً تلك الليلة من شهر ديسمبر التي تمزّق فيها القناع الذي يحجب شكوكي ، ولازلت أسمع حتى اليوم خطواتي الوئيدة في تلك الغرفة الضيقة العارية بعد أن كنت قد غطست في ساعة من النوم . كان القمر تلك الليلة نصف مغطى بالغيوم ويضيئ بين الحين والآخر الألواح الزجاجية الباردة في نوافذ الغرفة ، وكانت الساعات تلك الليلة تمضي وئيدة ولم أكن أشعر بمرورها ، ومضيت أتابع أفكاري بقلق بعد أن هبطت من عليائها نحو قاع الوعي في عقلي وهي تتنقّل من طبقة لأخرى من طبقات ذلك الوعي ، وراحت أفكاري تعمل على تشتيت الأوهام واحداً بعد الآخر بعد أن كانت قد عشّشت طويلاً في عقلي وحجبت عني منافذ الرؤية ، وها قد صار المشهد أمامي واضحاً تماماً في تلك اللحظة .
” عبثاً إلتصقتُ بمعتقداتي الأخيرة هذه تماماً مثلما يتشبث بحّار ببقايا حطام قاربه ،،، عبثاً كنت خائفاً حدّ الرعب أزاء ذلك الفراغ المجهول الذي كنت على وشك أن أطفو فوقه تائهاً ، وحينها توجّهت مع كل مخاوفي للنظر صوب طفولتي ، وعائلتي ، وبلادي – نحو كل تلك الأشياء التي لطالما عددتُها عزيزة ومقدسة لروحي ،،، كان التيار العزوم لأفكاري حتى ذلك الحين قوياً لايمكن الوقوف إزاءه – والديّ ، عائلتي ، ذاكرتي ، معتقداتي ،،، كل ذلك دفعني لأن أخفق في النظر إلى كل شيء في الحياة . مضت مساءلتي لتلك الأمور حينذاك بطريقة عنيدة وأكثر قسوة ولم أتوقف حتى بلغت الخواتيم المبتغاة تجاه كل الأمور وعلمت حينها أنْ مامن شيء ظلّ قائماً في أعماق عقلي .
” هذه اللحظة كانت مخيفة للغاية ، وعدما بلغت تخوم الصباح ألقيت بنفسي في فراشي وأنا متهالك القوى وبدا كما لو أنني أعيش بواكير حياتي – أبتسم وأنا منتشٍ بطاقةٍ لانهائية كما لو كنت ناراً متوهجة أزلية ، ولاحت أمامي تباشير حياة جديدة نَكِدة لايخترقها أي كائن بشري حيث يتوجب عليّ في المستقبل أن أعيش وحيداً ، وحيداً مع فكري المميت الذي لم يألُ جهداً في جعلي أعيش مثل منفيّ هنا وهناك – فكري الذي كنت حينذاك على وشك أن أصبّ جُلّ لعناتي عليه . كانت الأيام التي أعقبت إكتشافي هذا هي الأيام الأكثر حزناً في حياتي ……………………. “
أمسى شعوري آنذاك أنا الآخر مثل شعور الفيلسوف الفرنسي تماماً : شعور مَنْ يرى نفسه يعيش في عالم من العميان المسكونين بالأوهام وأنه هو وحده اليقِظ وسط النيام . لم تكن معرفتي آنذاك لتوفر لي أية مزية أو منفعة بل على العكس فإنها أنضبت كل حيويتي ونزعتي التفاؤلية ، وكان ( نيتشه ) قد إختبر الشعور ذاته من الفراغ والشعور باللاجدوى عندما قرأ مؤلف شوبنهاور ( العالم كإرادة وفكرةٍ مخادعة ) ، كما وصف ( توماس مان ) رؤيا ملهمة شبيهة بالسابقة في روايته الملحمية ( آل بودنبروك ) : ثمة شعور لدى جميع هؤلاء بإحساس البرود العاطفي والإنطفاء العقلي وخسارة التوهج الداخلي والطاقة الحيوية . بدت كل يقينياتي القديمة الآن مشاركة في تعزيز هاجس الشك لدي ؛ إذ عندما كنت يافعاً مثلاً وكان أحدهم يصفني بالأنانية كان علي أن أعكس ذلك الوصف من وجهة نظر محددة بأن أرسخ شعوري بأنّ الناس جميعاً هم أنانيون ، ونعلم جميعاً أن المجتمع يُطري عمل المحسنين ويعاقب عمل المجرمين ، ولكن من ذا الذي يسعه القول أن المحسنين أقلّ أنانية من المجرمين ؟ إنّ كرم المُحسِن المُعطي بسخاء يمنحه بهجة ويجعله يشعر بتصالح وسلام مع نفسه ؛ وهو الشعور ذاته الذي يوفره إطراء الآخرين لنا ، في حين أنّ المجرم جرى إعداده ليضع له قانونه الخاص موضع التنفيذ طمعاً في كسب العيش الذي يقيم به أوده .
إن الجواب الواضح للمفارقة السابقة تكمن في إفتقاد المجرم للإنضباط الذاتي الذي يمكّنه من تبنّي الخيارات الصعبة ؛ الأمر الذي يترتّب عليه جنوحه نحو الخيارات الأسهل والتي تعيق إرتقاءه الشخصي المستديم . بقدر مايتعلق الأمر بي لاأحسب أن ثمة من يراوده الشكّ بأن الأشخاص الأذكياء والمنضبطين ذاتياً هم المفضّلون دوماً بالمقارنة مع الأغبياء والكسالى على الرغم من قدرتي على رؤية المغالطة الأساسية في هذه الموضوعة ، وقد بدا لي أمراً غاية في الصعوبة التعامل مع الموضوعة الأخرى التي ترى أن الموجودات الحية هي بصورة جوهرية آلات كيّفت نفسها مع بيئاتها ؛ وعلى هذا الأساس فإن إحساسنا بالقيم ماهو إلا وهم جوهري إلى حد كبير : عندما نجوع مثلاً نشعر أنّ الطعام ” قيمة ” كبرى ، وعندما نمرض فإن هذا الأمر يبدو مثيراً لغضبنا وإشمئزازنا .
في كتابه الموسوم ( الإنسان – تلك الآلة ) جادل ( لامتغي* LaMettrie ) بأن حيواتنا ماهي إلا سلسلة من الإستجابات الميكانيكية ، وقد إستحثّت لديّ هذه النظرة على الدوام نوعاً من اليأس طالما أن لامتري سيرفض أي إعتراض على رؤيته وسيرى فيه إستجابة ميكانيكية مصممة للحفاظ على شعورنا بالإحترام الذاتي تجاه ذواتنا ، ولو أجبنا لامتري بشأن ملاحظته الأخيرة بقولنا له ” ولكن في حالتك هذه فإن جوابك إستجابة ميكانيكية على حد سواء بما فعلنا نحن ، وهو يثبت أنك أنت أيضاً لست سوى آلة ” ، سيجيب لامتري حينئذ ” بالضبط – ذاك هو ماقلته تماماً ” .
إن ماجعل الأمور تبدو أكثر سوءً لي هو شعوري بأنني كنت الشخص الأوحد في العالم الذي تملّكه إحساس كامل بعبثية كل شيء في العالم ، وبقدر ماكنت أستطيع رؤية الحالة السائدة فإن معظم الناس بدوا قانعين بما هم عليه ، ومن المؤكد أنني لم ألتقِ أحداً أبداً ممّن أظهر ولو علامة صغيرة على شكوكه ورؤيته بأن الحياة ماكانت سوى سطح واهٍ من المعنى فوق طبقة سحيقة الأعماق من الخواء الذي لامعنى له .
إن المعضلات الإشكالية التي حكيت عن بعضها أعلاه هي التي إستحوذت عليّ أثناء سنوات مراهقتي وشكّلت لديّ إحساساً عميقاً طاغياً بفقدان الإسترخاء الفكريّ – ذلك الوضع الذي يصفه كامو بِـ ” السخيف ” والذي يبدو ان عدّة كتّابٍ متبايني المشارب والإتجاهات ( مثل نيتشه و تشيسترتون ) قد إختبروه ، ولكن لحسن حظي فإنني لم أقضِ كل ساعات يومي آنذاك لندب الكآبة المرافقة لأحجيات الوجود البشري ؛ إذ عندما كنت أقضي يوماً طويلاً أتجوّل خلاله بصحبة دراجتي في أرجاء الأرياف ثمّ ألتقط انفاسي وأتناول شطيرة لذيذة على ضفة النهر في منطقة قلعة وارويك أو في قمة المنحدر الصخري الشاهق في ماتلوك فإنني كنت أدرك حينها أنّ كوني مراهقاً يوفّر لي تعويضاً لائقاً للإحساس بالكآبة والعبثية اللتيْن كانتا تجتاحان عقلي أحياناً في تلك السنوات .
هوامش المترجمة
* جوليان أوفغي دو لامتغي : طبيب وفيلسوف فرنسي عاش في الفترة 1709 – 1751 ، ويعدّ أحد أوائل الفلاسفة المناصرين للمبدأ المادي في عصر التنوير الأوربي ، وله مؤلفات عديدة أهمها L’homme machine الذي أشار له ويلسون في النص .
_________
*المصدر:المدى