خاص- ثقافات
*رشيد أمديون
إن الرحلة الزمنية الطويلة التي قطعتها الكتابة السردية جعلتها أكثر انفتاحا وقدرة على التشكل بأنماط جديدة وأكثر جرأة على طرح القضايا ومقاربتها. إن هذه الرحلة إن جاز لنا أن نحدد لها بداية ما، فسنشير إلى زمن تشكلها في القالب (الموباساني أو التيموري) الذي كانت النصوص تتجمل به قبل أن تنتقل بها الكتابة عبر مراحل متعددة كان لها أثر ملحوظ وبيِّن في شكل ومضمون السرد بشكل عام والقصة بشكل خاص، وبهذا تم خوض مغامرة التجريب القصصي الذي أتاح للكتابة فرصة أن تعيد الاشتغال على ذاتها بل والانشغال بذاتها لكونها مغامرة حرة تبحث عن مفتقدها المجهول وعن ما يُعينها على التكامل (مضمونا وشكلا وتخييلا) وانطلاقا لإبداع عالم لم ينطق به لسان ولا خطه حرف، وبهذا انصب الطموح حول انتاج نص لا يمكن أن يكون، ولا أن يُحاكَى عبر البحث عن عناصر وأنظمة جديدة للكتابة قادرة على تفجير مستويات التخييل.. “وبعبارة أخرى، فمع التجريبيين، لم يعد الأمر يتعلق بإعادة إنتاج الحياة، بل باكتشاف يتم عبر اللغة، وبتخييل فائض مفرط لا يسعى إلى محاكاة الواقع، بل إلى عرض الجانب التخييلي للواقع، وهذا ما يسميه رايموند فيدرمان “الواقع التخييلي الحقيقي”**.
وبهذا، ونحن نغامر بقراءة نصوص “ذات العوالم الممكنة” نستحضر هذه الرحلة الزمنية ذات الأطوار التي أثثت جسد السرد العربي والمغربي بالخصوص، فهذه المجموعة التي تضم 76 نصا ما بين القصير والقصير جدا، وتقع في 79 صفحة من الحجم المتوسط، وبغلاف جذاب تبرهن لنا بشكل بارز ما وصلت إليه القصة التجريبية التي ترفض التقليد والخضوع للقوالب الكلاسيكية الجاهزة التي تكتفي بحمل حكاية وسردها…
وقد أطلق المبدع المصطفى سكم نصوصه كي يزاوج بين قيمتين أساسيتين في الكتابة السردية، وهما القيمة الفنية والقيمة الفكرية، هذه الثنائية المتلازمة أولى لها الكاتب أهمية قصوى جعلت النصوص تمشي على ساقين متوازيين، إذ أنه لم يضحِ بإحدى القمتين من أجل الأخرى لأنه يدرك أن الاستغناء عن القيمة الفكرية لصالح القيمة الفنية يؤدي إلى نهج شكلي يتحول العمل معه إلى قالب جذاب بيد أنه فارغ من أية رؤية تحمل قيمة إضافية من شأنها أن ترسي مفاهيمَ معينة أو أن تخلخلها. في المقابل يدرك أيضا أن الاستغناء عن القيمة الفنية لأجل القيمة الفكرية يسقط العمل في التقريرية أو السطحية التي لا تلائم طبيعة الكتابة الأدبية القصصية تحديدا والتي تبحث عن العمق وعن إبداع الجمال وابتداع الجديد الذي من شأنه أن يقدم وسائله الإمتاعية والإقناعية باحتياله على القارئ قصد جذبه طوال فعل القراءة قصد إبقائه، كي يضمن له عناصر التشويق والمتعة والإدهاش .. بهذا فقد أحسن المبدع أنْ انطلق بالقيمتين معا، محافظا على التوازن المطلوب، فهو يبدع فنا أدبيا -بتقنيات جديدة ذات طابع حداتي- من حيث يرسل فكرا عميقا وبالقدر الذي يكسر المفاهيم الجاهزة ويبني أخرى أو يطرح السؤال…، إنه كالرسام الذي يفكر من خلال لوحته الفنية عبر الألوان المختلفة الرامزة وذات أبعاد سيميائية، فالقيمة الفنية تأوي القيمة الفكرية وتجَمّلها، والقيمة الفكرية تأوي القيمة الفنية.
****
وإن ما تطرحه المجموعة من عوالم ممكنة تحيل على فهم محدد وهو أنها قابلة للحدوث ولا تخرج من دائرة الممكن مهما عالج السرد تلك القضايا الجوهرية التي هي أساس الوجود معالجة تخيلية لأن ذلك يقوم على منطق مقابلتها بالعالم الواقعي الذي يُعاش انطلاقا من التجارب الذاتية والحياتية، أما عنصر التخييل فهو مطلوب لإحداث العلاقة بين المفترض والواقعي.
ثم وبعد التأمل في العنوان المركب من ثلاث كلمات:
ذات/ العوالم/ الممكنة، يمكننا أن نسأل من هي يا ترى هذه التي تحتوي هذه العوالم الممكنة؟
فإذا كانت العناوين عتبات نصية دالة، ومجموعات النصوص هي المدلول فإن عنوان المجموعة التي بين أيدينا يحيلنا على تأويلين، أولهما يبتدئ إذا اعتبرنا أن كلمة “ذات” لغويا هي مؤنث”ذو” فنقول مثلا “ذو شأن عظيم ، لتصبح جملة العنوان: “صاحبة العوالم الممكنة”، فيشير المعنى مباشرة للمجموعة على اعتبارها المدلول، أي أنها تضم نصوصا قصصية تومئ إلى هذه العوالم وتسعى إلى التنبيه إليها ومساءلة الفرد والمجتمع عنها، على اعتبار أنها غير غائبة في اللاممكن ولا مستحيلة بل هي ممكنة وقابلة للتحقق، وتقريبها نوع من خلق الوعي بها عبر قصٍّ جاء حينا قصيرا جدا وأخرى جاء سردا قصيرا..
والتأويل الثاني: يبتدئ إذا اعتبرنا أن كلمة “ذات” تعني لغويا: الذات، كذات الإنسان التي تمثل كيانه المستقل. وبناء على هذه الدلالة التأويلية يستطيع القارئ أن يعتقد أن للعوالم المطروحة للتأمل عبر المجموعة ذاتا، وهي ذات قائمة الوجود لكنها تحتاج إلى عملية تجريد العقل من نمط التفكير السائد والقائم على التقليد لا على الفهم والإدراك، ثم إعادة طرح سؤال المعرفة، بغية إعادة تحققها لأنها عوالم ممكنة التحقق بالشكل الذي يضمن للإنسان كرامته وحريته وسعادته، وليس بالشكل الذي يعكس هذه المفاهيم. ومن خلال الوعي بهذه العوالم الممكنة يحدث أن يعيد الإنسان معرفته بذاته لأن ذاته أيضا من جنس ذات هذه العوالم القابلة للاكتشاف أو للبناء وإعادة التأسيس فمعرفة الذات تعتبر أولى المعارف، هي في حد ذاتها عتبة المعرفة ومنطلق قراءة كل العوالم الأخرى الممكنة والافتراضية، بل يدرك عبرها الإنسان سر الوجود كما في نص سر المخطوط حيث نقرأ: “إن قرأتني، اتبعني من حيث أتيت تدرك سري”ص9. ولهذا كان نص مشورة يؤسس لقضية الشك التي جاء بها نيتشه ويكرس مفهوم تحطيم ما تم اعتقاده ثم إعادة تأسيسه تحت مجهر الشك أولا، على اعتبار أن طريق المعرفة ليس سهلا، فهو يحتاج لتأمل وجهد فكري وعقلي..
وعليه، إن التأويلين معا للعنوان، -في اعتقادي- يخدمان المجموعة على مستوى الدلالة سواء كانت كلمة “ذات” تعني صاحبة أو أنها تعني وحدة هذه العوالم في كيان موحد يسمى ذاتا، وذلك لأن الطرح الأوحد يتجلى في ماهية هذه العوالم الخاضعة للممكن، وما السبيل إلى التفكير فيها أو التفكير من خلالها على حد قول بودلير “ان الاشياء تفكر من خلالي كما أفكر من خلالها “.
****
وبالنظر إلى نصوص “ذات العوالم الممكنة”، ومساءلتها قراءة وتفكيرا نجد أنها تأخذ القارئ في رحلة تشبه سفرا فلسفيا، (وبحسب نظرية القراءة) فهي تُسائله حينا وحينا آخر تراوده على نفسه كي يبادر بدوره إلى إنتاج التساؤلات المقلقة، هي تستفز العقل التأويلي لبناء رؤية أخرى بدل ما تكرسه وسائل التعتيم المتنوعة من طمس الحقائق وتجفيف منابع التفكير والتأويل العقلي. النصوص تتعاضد فيما بينها كي تشكل سلسلة من التأملات العميقة، الذاتية والوجودية، إنها تعطي للسؤال الفلسفي فرصته في أن يجد له مواطن راسخة في رحاب الابداع القصصي والأدبي، من خلال معالجة قضايا تعد أساس الوجود، كالوجود نفسِه، والذات، الغير أو الاخر، التفكير والنظر، المجتمع والسياسة، التاريخ، الموت والحياة، المرأة، الحرية وحق الإنسان في الوجود، والتصوف كسلم للتطهر… عوالم تنتظر كاتبا وقارئا ينفتح على عتباتها تأملا وتفكيرا، يمر تأمله من قناة البحث الفلسفي واستحضار نظريات الفلاسفة ومصطلحاتهم ومناهجهم، وكل هذا من منطلق إعمال آليات التفكير العقلي، وتأثيث موضوعات النصوص بشكل يتوافق مع فنية بناء النص القصصي سردا وحكاية ولغة.. بل واتخاذ هذه العوالم مقصد الكاتب والملتقي معا، كي ينبني المشترك وتتقارب الرؤية العامة، وحتى إن اختلفت زوايا النظر والتأويلات المفسرة للنصوص فلأن هذا أمر طبيعي في عملية التلقي، بل إنه أمر إيجابي لكون النص الذي لا تتعدد تأويلاته هو نص يفتقر للعمق. بيد أن تعدد التأويلات لا يَخرج عن إطار فكرة النص المطروحة بل بالعكس يعد هذا التعدد مقويا للفكرة ، ويكسبها تألقا، بل ويعطيها حق الاستمرار والامتداد كي تتسع رقعة التساؤل والتأمل وإعادة البحث ودائما في نفس الاطار الذي رسمه النص بلغة مختزلة ومكثفة وعميقة.
ومن العوالم التي أثث بها القاص نصوص المجموعة وجعلها مدار القضايا المطروحة يمكننا أن نشير على سبيل الذكر لا الحصر إلى:
1 عوالم الذات:
في اتجاه عتبة الذات سفر طويل قصد خلق التوازن العقلي والروحي، والاستغناء عن طرح التساؤلات هو وصول إلى اليقين، وطبيعة الذات البشرية لا تقبل الفراغ فإما الشك وإما اليقين. وفي نص دفاتر الصباح (ص52) قال الكاتب “هرولت مقفلا بابي في وجه الفراغ فابتلعني الامتلاء”.
وإلى النظر في بنية ترتيب المجموعة نرى أنها مقسمة إلى قسمين الأول يحمل اسم: عتبات الذات، والقسم الثاني: تأملات الذات، مما يحيل على أن هناك اهتماما خاصا بعوالم الذات سواء على مستوى العناوين أو على مستوى مضمون النصوص.
-
عوالم الغير/ الآخر:
الاخر الذي هو طرف التحاور، الاخر باعتباره المخالف الذي يجعل قلق الذات دائم الاستمرار، الاخر باعتباره مرآة يقيِّم الإنسان من خلالها وجوده ويقيم ذاته، إنها انعكاس صورة الإنسان للإنسان، الصورة المادية والحسية معا، فنقرأ في ص 67 “يختفي صوت الغير وراء الحجب يشهد على انجذاب الأنا وراء إشراقة ثاوية في قلب المرآة تلمع بريقا يعمي العين يطفئ نور الفؤاد تتشبث الذات باستعادة ذاكرتها المفقودة بين ثنايا الجسد المسلوخ عن الروح لا تستعيد سوى صور حسية تصيبها بالدوار تقذف بها خارج الزمان..”
وفي نص “الغير فوبيا” يحيلنا عنوانه المركب على ذلك القلق المستمر اتجاه الاخر مما يخلق خوفا مرَضيا ملازما للذات.
-
عوالم الشك والتفكير والمعرفة:
تناول نص “كوجيطو” فلسفة ديكارت المختزلة في عبارته المعلومة أنا افكر إذن أنا موجود، وقد وظفها الكاتب بشكل بديع ومتقن مبلّغا مقصدية النص أن التفكير العقلي حالة من حالات الوجود نقرأ: “ظل متشبثا بشكه لإثبات وجوده”، وهذا لأن الشك أولى خطوات التفكير.
وفي نص “أصل” ص10 يطرح مسألة اعادة المفاهيم والأشياء إلى أصولها الأولى، لهذا فالنص يبين أن الإنسان العارض عن التفكير قد يرى الأشياء ومعطيات الواقع ملفوفة في غلاف البداهة، لهذا قال نيتشه “إن الحقائق أوهام نسينا أنها كذلك”.
ولعل نص زراعة فيها نظر يؤسس لذات الفكرة ، فقد جادل الأبناء والدهم العجوز بسبب عدم توقفه عن الزراعة وإصراره وإرادته القوية على العمل.. فنقرأ في النص: حدق مليا في أذهانهم” قال: “أنتم لا ترون مثلي” مما يدل على أن العجوز كان يقصد الرؤية العقلية لا الرؤية العينية، فالتحديق في أذهانهم يعني وزن تفكيرهم وتقييمه. ولكن قصر نظرهم جعلهم لا يرون في عمل وكلام والدهم إلا الجانب المادي لا الجانب الفكري والمعرفي، فكانت نتائج الفهم عندهم سطحية.
-
عوالم الحرية والكرامة والسعادة: